الرسالة الإسلاميَّة في مواجهة الفساد قديماً وحديثاً (2)

عقيدة وسلوك ونظام:

ذلك لأنَّ لحضارة المسلم أبعادها الثلاثة، فهي أولاً عقيدة تتمثل في عبادة الله تعالى وحده واعتبار كل شيء من علوي الوجود وسفليه مخلوقاً مثله لهذه العبادة الخاصَّة الخالصة، ثم سلوك نظيف ينبثق من هذه العقيدة المضيئة فلا يفارقها قيد شعرة أثناء رحلته الدنيويَّة كلها، حتى إذا مسَّه طائف من الشيطان، فزاغ به لحظة عن سواء السبيل، لا يلبث أن يتذكر فيستعيد مكانه من الموكب المبارك.

ثم ذلك النظام الذي لم تنقطع مؤشرات هدايته عن الإنسان منذ قذف به إلى هذه الأرض. فهو منه أبداً على بيِّنة من الطريق والهدف والعمل فلا يضل ولا يشقى ما اعتصم بحبله.

وبقليل من التأمل يدرك المنكر أن إنساناً من هذا الطراز سيكون من مميزاته الكبرى اسباغه خاصَّة العبادة على كل عمل يقدم عليه، فإذا أسلم الآخرون أزمتهم للمصادفات تعصف بهم ذات اليمين وذات الشمال ظلَّ هذا الإنسان المختار مسلماً وجهه إلى ربه، ملتزماً معالم المنهج الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من المشكلات إلا وضع لها حلها خاصاً، أو مندرجاً تحت قاعدة عامَّة.

وإذن فلا انفصام لدى هذا المسلم بين سلوكه الروحي، الذي يستهدف تحقيق الكمالات الخلقية، وسلوكه المادي الذي يفرضه يقينه الحتم بأنَّ الله تعالى قد سخَّر له ما في السموات والأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فمنحه بذلك القدرة على الإبداع والإتقان والعطاء الذي يحمل الحياة ويوفِّر الهناءة لسائر الأحياء.

ومن هنا كانت منجزات هذا الإنسان صادرة بأسرها عن منطقة الوعي، الذي حدد مهمته بأنها إنشاء الكيان الأمثل، الجامع بين أنواع الفضائل دون تحديد، ومن أجل ذلك كان المسلم، في كل زمان ومكان رسول هداية، وباني حضارة، وداعية سلام ورحمة، يأمر بالمعروف، الذي تتطلع إليه الفطرة السليمة وينهى عن المنكر، الذي به تفسد الحياة، وتتفكك عرى الإنسانيَّة.

الإسلام هو الحضارة:

ولقد رأينا بعض المفكرين المحدثين يفصِّلون بين الحضارة والمدنيَّة، فيعتبرون من أشياء الحضارة كل ما يتصل بالفنون والآداب والدين والفلسفة، وما إلى ذلك ممَّا يسمونه اليوم بالعلوم الإنسانيَّة، لاقتصارها على الجانب المتصل بالنفس الإنسانيَّة فرداً وجماعة. ويجعلون الجانب الخاص بالصناعات والرياضيات والكيمياء والفيزياء والكهرباء، وما إليهن من العلوم الباحثة في أسرار المادة من متعلقات المدنيَّة.

وعلى أساس هذا التقسيم يفرِّقون بين ما ينبغي أخذه وما ينبغي تركه من منجزات الثقافة الغربية. مطلقاً سواء كانت غربية أو شرقية، كتابية أو وثنية. فالحضارة الغربية هذه في ضوء هذا التفكير من الأمور التي لا يجوز أن يسمح لها بالتسلل إلى وجود المسلم، لأنها حصَّالة مواريث عقلية واجتماعية تحدرت إلى أصحابها من مئات الروافد الخاصَّة، وقد تفاعلت معها خلال التاريخ حتى كوَّنت منهجاً سلوكياً يفصلها عن سائر الجماعات، ولا يقبل امتزاجاً مع أي منهج لأي أمة أخرى لا تشاركها في هذه المواريث.

أما المدنيَّة، فلتعلقها بالجانب المادي الصرف، تعتبر بنظر هؤلاء المفكرين عنصراً حيادياً لا سلطان له على السلوك الاجتماعي، إلا في حدود ضيقة وسطحية، ليس من شأنها أن تمسُّ الخصائص الذاتية للأمة، أو تغير من تكوينها الفكري والتصوري.

والحقُّ أنَّ في هذا التقييم الواقعي لحظاً كبيراً من الحقيقة، ندرك أهميته من خلال معايشتنا للاحتكاك القائم بين تيارات الإنسانيات المقتحمة على العالم الإسلامي من هنا وهناك، وبين مواريثه الروحيَّة التي بدأت تترنح في صدور الكثيرين تحت ضغط هذا الغازي، الذي فاجأه على حين غفلة وعلى غير استعداد.

بيد أن الشخصية الإسلاميَّة الثابتة أبداً في وجه الأعاصير لا تقبل التفرقة بين الحضارة والمدنيَّة، كما هو الشأن في الثقافات الدينية الأخرى، حيث يسمح للانحدار الخُلقي أن ينتشر ويستبحر بجانب (الطقوس) الروحيَّة التي استحالت رموزاً خالية من كل أثر فعلي. ذلك لأنَّ وحدة الحياة والإنسان والكون، في ضوء الرؤية الإسلاميَّة، تجعل كل عمل سواء كان خلقياً أو صناعياً موجهاً إلى تحقيق المثل الأعلى. فليس في مجتمع الإسلام فصام ذاتي، ولا تمييز عنصري ولا سياسة ذات وجهين ومكيالين، ولا علم مسخَّر لمصلحة شعب دون آخر. فهو لأصحابه قوة واستعلاء ولغيرهم اذلال واستغلال. بل هو الإسلام الذي لا يُفرِّق في عدالته بين العدو والصديق، ولا يخصُّ بنور العلم قريباً دون بعيد، لأن تقييمه للعلم قائم على إنَّه الوسيلة إلى مرضاة الله تعالى، وأنَّ مهمة أولي العلم من أهله دائماً وأبداً توسيع دائرة النور من جهة، وتصحيح مسار الناس من حولهم، وبأقصى ما يستطيعون، من جهة أخرى ابتغاء التحقق بالخير الذي وصف الله تعالى به العالمين في قوله الكريم: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 11].

وبهذه الخصائص المتفردة المتكاملة كان (الإسلام هو الحضارة) كما يقرر الشهيد سيد قطب رحمه الله، ولا مندوحة من قبول هذا التقرير إذا أيقنا أن الهدف الأقصى من الحضارة هو تعاون المواهب البشريَّة لبناء المجتمع الأسعد والأطهر.

ولكي تتضح هذه الصورة أكثر فأكثر نتذكر أنَّ مفهوم الآخرين للحضارة لا يتجاوز مجموع الإنجازات التي حققتها الأجناس البشريَّة على مرِّ العصور، دون تفريق بين الموافق منها لمصلحة الإنسان والمناقض، فكان حصيلة ذلك الضياع أن استحالت تلك الإنجازات إلى ركام هائل من التناقضات، يختلط فيها الخير بالشر، والسم بالترياق، لأنها في منطلقاتها الأولى لم تتصل بالضمير المؤمن، فلم تقم وزناً لصالح الجماعة البشريَّة، وإنما نتجت عن خبرات مرتجلة كان الدافع إليها تحقيق المنفعة العابرة لفرد أو رهط، دون اعتبار لما وراءهم، وهكذا صار الأمر بهذه الخبرات إلى التصادم المستمر، ومن ثَمَّ إلى الصراع خلال مجموعات الناس، فبدلاً من أن تقارب بين الواحدة والأخرى، إذا هي تبالغ في تمزيقها وتسرف في المباعدة بين أجزائها.

إنها الصورة المكثفة للحضارات التي أنتجتها التجارب البشريَّة عبر القرون المتطاولة، في معزل عن النور الإلهي، الذي أكرم الله تعالى به الإنسان، فأقام له الصُّوى في الطريق الذي لا يضل سالكه.

ونظرة واعية إلى واقع الحياة البشريَّة الراهنة تكشف لنا هول الشقاء الذي تعانيه في ظلِّ هذه التجارب العمياء، التي أحالت الوجود ساحة عراك شيطاني، يأكل فيها القوي الضعيف، ويمزق الضعيف الأكثر ضعفاً ويترقب كل فريق غفلة الفريق الآخر ليجعله أثراً بعد عين. ويحشد الجزء الأكبر من ثروات الأرض، ومبتدعات العلوم للتسابق في حلبات التدمير والتخريب ونشر الرعب، حتى لم يعد في الأرض على رحبها ملجأ لإنسان يريد الأمن والعافية.

ربانية وترابية:

أجل إنَّ في ركام هذه المخلَّفات الهائلة لبروقاً من الخير تنطلق خلال الظلمات، فتذكر الإنسان بما غفل عنه من حقيقته، إلا أنها لا تلبث أن تنطفئ فيعود الظلام أشد ثقلاً. فبلاغات عن حقوق الإنسان، وملاجئ للعجزة والأيتام، ومدارس وجامعات، ويوم للأم وآخر للطفل. ومالا يحصى من مظاهر الإحسان.

ومع أنها لا تعدو كونها بقايا لمعات من فضائل الرسالات الإلهية، فهي شهادات ناطقة بفضائح هذه الحضارة. ذلك لأنَّ اعترافها بحقوق الإنسان لم يكن سوى ردِّ فعل لحرمان الإنسان في ظلها كل حق، وليست ملاجئ العجزة إلا صوراً كئيبة لانهيار الأسرة في كنفها، حتى لا يجد الوالدان العاجزان لدى أبنائها مجالاً للرحمة والرعاية، فتقوم الدولة بإيوائها كما تقوم برعاية الحيوان عندما يصير إلى الوهن.

وربما انقطعت الصلة بينها وبين أهليها بمجرد نقلها إلى الملجأ فلا يلتقون بعد ذلك إلا في حفلة الدفن.

أما مأساة الأيتام في عهدة هذه الحضارة فأهول وأشنع. ذلك أنها أطلقت عِقَال الشهوات حتى امتلأت الأرض بالفجور، ومنْ ثَمَّ باللقطاء الذين لم يذوقوا رائحة الأبوَّة قط، فكان على الدولة، التي أقرَّت التشرُّد، أن تقوم بمسئولياتها في إيواء ثمراته وتغذيتهم وتعليمهم، بعد أن حرمتهم حقهم من حنان البيت(۱).

وما الداعي للاحتفال بيوم الأم لو كان للأم الولد الذي يحوطها ببره وتقديره. على طريقة المسلمين الذين يؤمنون بأنَّ الجنة تحت أقدام الأمهات.

والطفل!. أليس مجرد تخصيصه بيوم واحد للرعاية دليلاً جازماً على أنَّه كان محروماً منسياً من كل ذلك طوال العام!.

ونظرة إلى واقع الدراسة العلمانيَّة في مراحل التعليم جميعها تكشف الخلل الرهيب الذي تقوم عليه بالنسبة إلى نفس الإنسان وعقله. إنها تمزِّق الوشيجة الطبيعية التي تصل فطرة الإنسان بخالقها، ثم تلقي في رُوعه أنَّه ليس سوى لبنة في بناء، أو سِنّاً في آلة، فليس له من دنياه، إلا ما يطفئ شهوته، أو يحقق متعته، وعلى الدنيا والناس كلهم بعد ذلك العفاء.

وأين جامعات هذه الحضارة من كرامة العلم التي يتمثَّلها المسلم وهو يقرأ قول ربِّه عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28] أو يتأمَّل في قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم (تعلَّموا العلم وتعلَّموا له السكينة والوقار) (2) (فقيهٌ واحد أشدُّ على الشيطان من ألفِ عابد) (3).

ولا غرابةَ أن يختلف المفهومان بإزاء العلم، حتى يكون في إحدهما وسيلة الدارس إلى جيفة يغالب عليها الذئاب، على حين هي في الثاني المصباح الذي يهتدى به ويهدي، فهو إنما يطلبه لاستكمال إنسانيته، وللسمو بطبيعته إلى منازل الملأ الأعلى من ذوي الحكمة والمعرفة كما عرضها الشاعر المؤمن في هذه الصور الأخاذة:

هذِّب النفس بالعلوم لترقى = وترى الكل، فهي للكل بيت

إنما النفس كالزجاجة والعقـ = ـل سراج، وحكمة الله تعالى زيت

فإذا أشرقت فإنك حي = وإذا أظلمت فإنك ميت

فلا مسوغ للخلاف إذن على أنَّ الفرق بين حضارتنا الربانيَّة وحضارتهم الترابيَّة هو الفرق بين أحوال الأحياء وأحوال الموتى. وعبثاً يُراد من هذا الارتفاع إلى مستوى تلك إلا أن تدب الحياة في أوصال الأموات فينظروا إلى الواقع ببصر جديد حديد. ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام: 122].

وما أدري كيف قفزت إلى ذهني هنا صورة الإنسان الأول وقد أكملت يد الباري الحكيم تصويره ولكنه لم يزل تمثالاً من الطين، حتى شاء الله تعالى تمام الفضل عليه فنفخ فيه من روحه، فإذا هو آدم دماً ولحماً ونطقاً وفكراً وخيالاً وتأملاً. وطاقات لا محصي لها إلا مبتدعها من العدم سبحانه.

وتتداعي مع هذا المشهد صور الحضارة الترابية، وقد حشدت إنجازاتها ومركباتها الهائلة، فإذا هي تمثال يهول ويروع، ولكنه ميت لا حياة فيه، وسيظل كذلك حتى ينفخ الإسلام فيه من روحه، فينتفض ليتخلص من قيود الموت، ومنْ ثَمَّ يتحرَّك في طريق النور، ليكون كشأن حضارتنا القرآنية هدى ورحمةً وسلاماً للعالمين.

فبالإسلام إذن يمكن لهذه الحضارة المخرِّبة للإنسان أن تتحوَّل إلى البناء الحق. أما أن تنقلب الأفهام، حتى يسمح لسموم هذه التركيبة المرتجلة أن تتسرَّب إلى مجتمع الإسلام، فتلك هي المحنة التي تُهدِّد الإنسانيَّة كلها بالدمار، لأنَّ ذلك سيبطل يومئذ عمل الحضارة الإسلاميَّة في الشهادة والهيمنة والتصحيح العالمي.

في الخبر الذي أخرجه الدارِميُّ عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه خطَّ خطاً ثم قال: (هذا سبيل الله)، ثم خطَّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: (هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه). ثم تلا قوله تعالى : ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153].

وفي هذا التمثيل تصوير محكم لالتزام المؤمن طريقه العاصم من الزيغ حين تشتبه على الناس المسالك، وتضطرب بهم الأهواء، فيكون هو الوحيد المطمئن إلى موقفه. وقد أدرك الرعيلُ الأول هذه الحقيقة فاستعصم بها، فذلَّلت لهم كل عَصيّ، ومكَّنت لهم من أزمة العلم والحكم، فأثبتوا أنهم خير أمة أخرجت للناس. ثم خَلَف من بعدهم خَلْف فرَّطوا بأمانة الله تعالى، واستهوتهم موبقات الشعوب المنحلة فشغلوا بها عن رسالتهم، فإذا هم نهب لكل طامع، وغرض لكل رام، قد شرَّدهم العدو كل مشرَّد، فانتزع منهم أوطانهم، وردَّ من استطاع منهم عن دينه. وبدلاً من أن يتَّعظ اللاحقون بالسابقين، فيتجنَّبوا مسلكهم، ويثوبوا إلى سبيل الله، ويعتصموا بمنهج رسول الله، إذا هم - إلا من رحم الله تعالى - يوغلون في التيه، فيتوزَّعون بين عدد من الشرق وغاز من الغرب، ويجربون كل خطة تجلى إخفاقها، إلا خطة العودة إلى الله سبحانه. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الحلقة السابقة هــنا

يتبع

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية، الدوحة، محرم 1400هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين