الرسالة الإسلاميَّة في مواجهة الفساد قديماً وحديثاً (1)

الحمد لله، وصلى الله تعالى وسلم وبارك على عبده ومصطفاه محمد رسول الله، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

مقدمة البحث

العالم قبل البعثة النبوية:

لكي نتحدَّث عن أثر الرسالة الإسلاميَّة، في سيرة الحياة البشريَّة على اختلاف جوانبها لابدَّ لنا من رصد دقيق لواقع هذه الحياة قبل إطلالة الفجر المحمدي. ولو أتيح للمفكر المدقِّق أن يطالع أكداس الأسفار، التي كتبت عن تلك الفترة، وأن يستنطق ركام الآثار التي خلَّفتها الشعوب، معبِّرة عن أوضاعها وأوجاعها، لما بلغ ذلك إلا لمحة يسيرة مما انطوى عليه قوله سبحانه في وصف ذلك الواقع:

﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41].

ففي هذا الإطار المحدود من البيان الإلهي صور غير محدودة من الخراب الذي صارت إليه أحوال المجتمعات البشريَّة حتى ذلك العهد، وهي معروضة في أربعة معالم كل منها مرتبط بما سبقه أو وليه، ارتباط السبب بمسببه أو المسبب بسببه.

فها هنا فساد عام يكتسح تلك المجتمعات في كل مكان من هذه البسيطة، يتساوى في ذلك سكان البر، وجزائر البحار. وفي كلمة (الفساد) إيحاء تام بانقلاب الأوضاع، إذ كل شيء في هذا الوجود قائم على الكون والفساد، وهو أشدُّ ما يكون ظهوراً في التجمع البشري، حيث تتجلَّى نتائج سلوكه في النماء أو الانحلال. فكلما كان ذلك التجمع أشد تماسكاً وأكثر التزاماً للتعاون الصحيح، كان نصيبه من الأمن والازدهار أتمّ وأكمل، فإذا زاغ عن هذا الطريق اضطربت مسيرته، وتعرضت سلامته للخطر، كشأن الخليَّة الحيَّة التي ضربها السرطان فاختلَّ نظامها، وبات كل نمو فيها يشكل تهديداً جديداً للحياة.

أما كيف حدث هذا الفساد ومن أين جاء؟ فهو حصيلة التحرُّك البشري الخاطئ إنَّه ثمرة انحراف الناس عن الخط السوي إلى مزالق الغي والبغي، فكان من حقَّ العدالة أن تُنزل بهم العقوبة المناسبة، ومع ذلك لم تتخلَّ عنهم رحمة الله تعالى حتى في موقف العقاب هذا، ذلك أنها لم تُذقهم إلا بعضَ الذي عملوا لا كلَّه، ثم إنَّ العقاب نفسه لا يراد به إلا مجرد التأديب والتنبيه، لعلهم يثوبون إلى ما عزب من وعيهم، فيرجعون إلى التي هي أحسن بهم، وأجدى [في الأصل: وأحدى بالحاء] عليهم، وأهدى لهم.

وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم وأحمد يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إنَّ الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب) وهو توكيد لمضمون الآية الكريمة عن انتشار ذلك الفساد، الذي شمل العرب والعجم، - وليس في ذرية آدم إلا العرب والعجم - وفيه مزيد من التفصيل عن مقت الله تعالى سبحانه لكل من على ظهر الأرض، لا يستثني من مقته إلا عدداً قليلاً من أهل الكتاب. ولعل في وصفهم بـ (البقايا) إشارة إلى تناثرهم في أمكنة متباعدة. وقد رأينا هؤلاء البقايا فيما عرضته كتب السيرة من حديث عن الحبر اليهودي الصالح ابن الهيّبان، والقسس الذين لقيهم سلمان رضي الله تعالى عنه خلال تطوافه في رحلة البحث عن الحق، إذ كان كل منهم إذا أشرف على الموت يوجهه إلى واحد لا يعرف غيره على مثل ما هو عليه، حتى انتهى إلى قسِّ عمورية الذي أشعره بانتهاء هذا الفوج من رجال الله، ولكنه بشَّره باقتراب زمن النبي الخاتم، ونصحه بشدِّ الرحال إليه بعد أن حدَّد له مكان بعثته وهجرته.

وقد وصف فضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله تعالى في كتابه: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) حال ذلك العالم آنئذ، فشبَّهه ببناء أصيب بزلزالٍ قَلَبَ أوضاعَه، فإذا كلُّ شيء هناك في غير محله، وإذا الفساد قد عمَّ ناسه جميعاً، إذ فسدت عقولهم، ونظام تفكيرهم، واختلَّ ذوقهم وإحساسهم فهم يسجدون للشجر والحجر، ويخضعون لأنظمة جائرة جعلت من الذئب راعياً، ومن الخصم قاضياً، ومن المجرم سيداً حظياً، ومن الصالح محروماً شقياً.

وقد امتلأت كتب التاريخ بصور هذا الاختلال البشري الشامل لكل دولة ومدينة في ذلك العالم المقلوب، من أدنى الارض إلى أقصى الصين.

ومع أنَّ العرب أقرب الناس إلى سلامة الفطرة قبيل البعثة النبوية فقد كانوا يعيشون في جحيم من الرعب لا نهاية له، ذلك لأنَّ قسوة البادية، وضنك العيش، وضغط النظام القبلي كل أولئك كان يزج بهم في حروب مُستأصلة، يقتل فيها الأخ أخاه، ويتعاون الأنسباء على البعداء، فما تكاد تجفُّ الدماء ولا تفتر حملات الثأر وما وراء ذلك من شقاء وشحناء.

وقد أطبقت الظلمات على أفكار الناس، فلا يستهدفون أملا، ولا يهتدون سبيلاً. إلا خيوطاً من أضواء يرسلها بعض الشعراء والخطباء والحنفاء في حكم بتراء لا تعدو كونها تعبيراً عن حاجة الفطرة إلى نور لا تعرف من أين ينبثق ؟.

وقد كان الواجب يتطلَّب من أهل الكتابين أن ينهضوا بعبء الإرشاد والاصلاح، ولكنَّ الواقع خيَّب هذا الرجاء لأن الأحبار والرهبان كانوا أبعد الناس عن الاتجاه الصحيح، فزادوا مساحة البلاء على العامَّة بوقوفهم وراء الطواغيت، وبصرفهم طاقاتهم في أنواع من الجدل العقيم أضاعت فرص التصحيح، وسبَّبت الكثير من المذابح الطائفية، ولا سيما في مصر والشام، حيث طُورد دعاةُ التوحيد، وفرضت الدولة الرومانية فلسفتها الوثنية على رعاياها المسيحيين. ومن أجل ذلك صبَّت ألوان التعذيب على كل مخالف لتقاليدها الوثنية من ذوي العقيدة السليمة في المسيح عليه السلام.

وهكذا طغت سيول البلاء على الأرض، فالناس في كل مكان مدفوعون في مُنحدرات الشقاء، لا يملكون القدرةَ على التماسك، لأنَّهم أصبحوا مَقْطوعي الصلة بهداية الخالق. فكل خطوة ينقلونها تزيدهم بعداً عن ساحل النجاة وقرباً من النهاية. وقد ضاعف الخطر فساد التصور البشري، إذ بات العقل الأنسي مقيداً بأحكام البيئات وسلطان العادات، فلا سبيل للخلاص عن طريقه، بل لا أمل بالخلاص إلا بمعجزة إلهية توقظ الضمير البشري من غفوته وتضيء للعقل الحائر طريق الحق ليسلكه على بصيرة.

ولا جرم أن وضعاً كهذا تتكاثف فيه الظلمات، حتى لا يلمح امرؤ يده من خلالها، لا يُنتظر أن تنشأ فيه حضارة إنسانيَّة تأخذ بيد المجموعة البشريَّة في الطريق الآمن.

وإنما هي تراكمات مُتباينة من تجارب عُرِضت للأجيال خلال رحلتها الحائرة، التي لم تستهدفْ غرضاً خارج حدود المنفعة العابرة. ومن هنا كان على الإسلام إنشاء النموذج الكامل للحضارة الربانيَّة، التي أطلَّت بالإنسانيَّة كلها على تاريخها الموحَّد الجديد.

وعلى ضوء هذه الحقيقة سنتحدث عن أثر الرسالة الإسلاميَّة في بنيان الحضارة، التي استهدفت منذ يومها الأول إعادة الإنسان إلى طريقه السليمة، فكان عليها أنْ تجابه أشرس التحديات، التي تريد لهذا الإنسان أن يظلَّ أبداً في غمرات الضياع.

الإنسان في ميزان الإسلام:

عندما يُراد الحديث عن (الحضارة) يتبادر إلى الأذهان ذلك البناء الهائل الذي يتضمَّن مجموع الإنجازات البشريَّة خلال التاريخ. تلك الإنجازات التي تُصوِّر مراحل التطوُّر الفكري للإنسان منذ بدأ وجوده على هذه الأرض.

وحسب مواقع المجموعات البشريَّة من الأرض تتفاوت مُركَّبات هذه الحضارة بحيث يكون لكل واحدة خصائصها المميزة إلى جانب العناصر المشتركة بينها جميعاً.

وعلى ضوء هذه الكليَّة يمكننا أن نتبيَّن بوضوح موقف الإسلام من الحضارة العامَّة، ونوع الحضارة التي تنتمي إليه بخاصَّة.

وطبيعي أن يبدأ ذلك من منطلق القيمة الأساسيَّة للإنسان بالنسبة إلى الكون والحياة والأشياء والأعمال.

وأول ما يواجهنا من هذا الجانب ذلك الامتياز الذي أسبغه الله تعالى على جنس الإنسان ممثلاً بأصله الأول، حين خلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وكرَّمه بإسجاد الملائكة له، ثم أهبطه إلى الأرض مزوداً بخاصيَّة المعرفة، ومشحوناً بالأشواق القدسيَّة إلى موطنه الأعلى الذي منه خرج بوسوسة العدو، الذي حسده على امتيازاته، فآلى ليغوينَّه وذريته أجمعين، فهو منذ اللحظة التي وطئ بها وجه هذه البسيطة قد أوتي العلم بأن مهمته الكبرى هي تشييد ملكوت الله تعالى سبحانه، والانتصار على عدو الله، لتتاح له العودة إلى جنَّته الموعودة.

وقد أتمَّ الله تعالى نعمته على هذا الجنس، فلم يدعه لنفسه يتخبَّط في مَهَامِه الحياة بغير دليل، بل بشَّره وحذَّره منذ يومه الأول، إذ وجَّهه إلى المخطط الذي يعصمه من الزيغ والزلل، وذلك بقوله الحق: ﴿فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ٣٨ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ٣٩﴾ [طه].

ومِن ثمَّ مضت قافلة البشريَّة في شعاب الحياة، فكان من طبيعة الأشياء أن تختلف بها الخطى، فيثبت على السبيل السويِّ من حَفِظ على نفسه الوعي لذلك المخطط، فظلَّ مُعتصماً به فسلَّم وسعد، وغلب الشيطان على الغافلين فأقصاهم عن ساحة النور إلى مُستنقعات الظلام.

ولما آذن الفجر المحمدي بالأطلال كانت الأرض كلها كما وصفها رب العزة بقوله سبحانه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41]، فلم يبقَ ثمة أثارة من النور الذي حمله رسل الله تعالى إلى عباده، خلال القرون، إذ جرف الفساد سكانَ الجزر وأهل اليابسة دون استثناء بسبب انحرافهم عن سبيل الهدى واستسلامهم لأهوائهم بعيداً عن وحي الله، وبذلك كانت بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكبر حدث في تاريخ البشرية، لأنها كانت منطلق الضوء الجديد الذي رحم الله تعالى به عباده، فأبان لهم الطريق القويم الذي بعد به عهد القطيع التائه.

ومن هنا كان المسلم هو الوارث لرسالات الله سبحانه، وهو الرائد الذي كُلِّف مهمة القيادة لإنقاذ العالم من قبضة الطواغيت، الذين لم يراعوا في الإنسانيَّة إلاً ولا ذِمَّة.

ومع تصرفات الرعيل الأول من تلاميذ هذه البعثة المباركة انطلقت تباشير الحضارة الصحيحة، التي جاءت نموذجاً كاملاً للغاية التي حدَّدها كتاب الله تعالى في قوله المبين لرسوله الأمين صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].

وإنما كانت حضارة الإسلام هي الحضارة الصحيحة لنهوضها على القواعد الربانيَّة التي تربط نفس المؤمن بمصدرها الأسمى، فتمنحه بصيرة خاصَّة يرى الكون كلَّه من خلالها وحدة متكاملة، كل جزء منها يعمل مع غيره لإبراز عظمة الله تعالى وحكمته ورعايته.

وفي نطاق هذه الرؤية يتحرَّك المؤمن للإسهام مع مجموع الكون في ضبط مسيرة الحياة، ضمن حدود النظام الأفضل الذي به وحدَه تشرقُ الأرض بنور ربِّها.

يتبع..

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية، الدوحة، محرم 1400هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين