الرحمة

الشيخ يوسف الدجوي

الرحمة من أشرف الخصال وأكرم الأخلاق، وإن الله لا يحب شيئاً مثل ما يحب الرحمة والتواضع، ولا يكره شيئاً مثل ما يكره القسوة والكبرياء.
وقد ورد في الحديث الصحيح: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وذكر مَن التي للعاقل ها هنا: لتغليب الأشرف على غيره، وإياك أن تفهم من ذكرها أنك لست مأموراً إلا برحمة النوع الإنساني فقط، فإنك مأمور بالرحمة لكل ذي روح.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (في كل كبد رطبة صدقة)، وإذا كانت امرأة قد دخلت النار من أجل هرة حبستها كما في الحديث الصحيح، فلا غرو أن تدخل الجنة من أجل هرة ترحمها.
وقد ورد: ( إن الله رحيم، وإنما يرحم من عباده الرحماء) ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: (سبقت رحمتي غضبي).
وليس ذلك الحنان الذي تراه في قلوب الآباء والأمهات في أفراد النوع الإنساني وسائر أنواع الحيوان مما يسوقهم سوقاً اضطرارياً إلى تعهد الولد ومراعاته في كل ما يجب له، ولا تلك الشفقة التي تجدها من نفسك إذا رأيت مظلوماً ضعيفاً أو فقيراً بائساً إلا أثراً من آثار تلك الرحمة الإلهية.
ومواساة الإخوان والجيران والشفقة على الفقراء والضعفاء من أفضل الأعمال التي حث عليها الدين وندبت إليها الشريعة، وكل ذلك من آثار الرحمة الإلهية التي قامت بها السموات والأرض، ولا محل ها هنا لتفصيل رحمته تعالى بك وفضله عليك يجري البحار، وتفجير الأنهار، وتيسير الأنوار، وخلق الليل والنهار، وإنبات النبات، وبقية الآيات، وأنواع النعم المتواترات.
وقد قال تعالى: [فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {الرُّوم:50} .
وبالجملة ففيك من الإنسانية على قدر ما فيك من الرحمة، وعلى قدر ما فيك من القسوة يكون بعدك من الله وانسلاخك من الإنسانية، فإنك لا تتكمل إلا إذا انفعلت نفسك بالكمالات ومكارم الأخلاق المرة بعد المرة، وعلى قدر لين قلبك وسرعة تأثرك يكون قبولك لتلك الكمالات، وأما ذلك القلب القاسي الذي لا ينفعل ولا يتأثر، فغنه بعيد من الكمال جداً، حيث كان غير مستعد للانفعال ولا قابل للنقش فيه.
وإن من القلوب قلوباً [كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ] {البقرة:74}  ومن كان بهذه الصفة فهو شقي في الدنيا والآخرة، ممقوت لدى الله والناس.
وقد قرر الفلاسفة أن الإنسان قد ينحط إلى دركات هي أسفل من كل المراتب التي فيها أنواع الحيوان، وإذاً لا يكون إنساناً إلا في صورته.
وقد قال بعض الحكماء: إن من الناس من تفسد إنسانيته فيصبح غير إنسان . وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] {التِّين:6} [وَالعَصْرِ(1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) ]. {العصر}. .
ولا يمكنك أن تصل إلى درجة الكمال إلا إذا لم تكن من ذوي القلوب القاسية والنفوس الجامحة .
والخلاصة: أنه لو اتصف الناس بالرحمة لكانوا كاملين في إنسانيتهم، فلم يفعلوا فعل الوحوش الضارية بإخوانهم وبني نوعهم.
لو تمَّت الرحمة في النفوس لما التهمت الأمم القوية الأمم الضعيفة، ولما فعلت بهم مالا تفعله أقوى الحيوانات بأضعفها، على أن الحيوان لا يفترس أبناء نوعه، مهما كانت وحشيته وشراهته.
لو تَمَّت الرحمة في الأغنياء لما مقتهم الفقراء، ولو تمت الرحمة في القضاة لما تأخرت القضايا السنين الطوال، ولا لحق أربابها شديد النكال وعظيم الوبال . ولو تمت فيك الرحمة لدعا لك جيرانك وأثنى عليك إخوانك، ولو تمت الرحمة فيك لبذلت النصح للعامة والخاصة إخلاصاً لهم وإشفاقاً عليهم: (والدين النصيحة) ولو تمت فيك الرحمة لأشفقت على القريب والبعيد، ورحمت المبتلى والمعافى، والإنسان وغير الإنسان . بل نقول: لو تمت فيك الرحمة لكنت من المرحومين الذين يشفقون على أنفسهم فلا يورطونها في الهلكات ولا يجلبون عليها أعظم الآفات، ويحرمونها من أفضل السعادات .
وإجمال القول أنه إذا استقام هذا الأصل للإنسان في الدين، استقام له سائره، ففاز بخير الدنيا والآخرة، فأزل ـ يرحمك الله ـ من نفسك القسوة وكن رقيق الفؤاد، ولا تكن من غلاظ الأكباد، فالراحمون يرحمهم الرحمن .
وما أحسن قول ابن حجر المكي في هذا الموضوع:
ارحم عباد الله يرحمك الذي                 عم الخلائق جوده ونواله
فالراحمون لهم نصيب وافر                   من رحمة الرحمن جل جلاله
وقول الحافظ ابن عساكر:
بادر إلى الخير يا ذا اللب مغتنما             ولا تكن عن قليل الخير محتشما
واشكر لمولاك ما أولاك من نعم          فالشكر يستوجب الإقبال والكرما
وارحم بقلبك خلق الله وارعهم         فإنما يرحم الرحمن من رحما
وقال غيره:
من يرحم الخلق فالرحمن يرحمه            ويكشف الله عنه الضر والبأسا
ففي صحيح البخاري جاء متصلاً      لا يرحم الله من لا يرحم الناسا
ولا بأس أن نذكر لك كلمة وجيزة عما جاء في السنة من الحث على الرحمة، فنقول:
روى البخاري في الأدب المفرد وأحمد وأبو داود والترمذي وآخرون عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) ـ لك أن تقرأ يرحمكم بالجزم جواباً للأمر، والرفيع على أنه جملة دعائية ـ .
وروى أحمد عن جابر: (من لا يرحم لا يرحم، ومن لا يغفر لا يغفر له).
ومنها ما رواه الشيخان عن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله) وروى الإمام أحمد وعيد بن حميد  في مسنديهما والطبراني وغيرهم بسند جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفاً ومرفوعاً: (ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي).
وعنه أيضاً قال: قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت أحداً منهم، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ( من لا يرحم لا يرحم) أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج وإذا كلب يلهث يأكل ا لثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسك بفيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله له تعالى فغفر له، قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: (في كل كبد رطبة أجر). أخرجه الشيخان في الصحيحين ومالك في الموطأ . وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض) أخرجه الشيخان . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) أخرجه مسلم وأبو داود . وعن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من يحرم الرفق يحرم الخير كله) أخرجه مسلم وأبو دواد، وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً في بعض أمره قال: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) . أخرجه أبو داود.
هذا وقد رأينا لأبي السعود عند قوله تعالى:[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا] {النحل:18} . وما النعمة إلا أثر من آثار الرحمة، عبارة جليلة تروق ذوي الأفهام، فأحببنا أن نذكرها لك في هذا المقام، لتعرف نعم الله عليك ورحمته بك، فتجعل شكر تلك النعم التي لا تحصى رحمة عباد الله، والشفقة على خلق الله، فكما تدين تدان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ وهاك عبارة أبي السعود:
(وإن تعدوا نعمة الله ) التي أنعم بها عليكم (لا تحصوها) لا تطيقوا حصرها ولو إجمالاً فإنها غير متناهية، كيف لا وما من فرد من أفراد الناس وإن كان في أقصى مراتب الفقر والإفلاس، ممنوا بأصناف البلايا، مبتلى بأنواع الرزايا، فهو بحيث لو تأملته ألفيته متقلباً في نعم لا تحد، ومنن لا تحصى ولا تعد، كأنه قد أعطى كل ساعة وآن من النعماء ما حواه حيطة الإمكان، وإن كنت في ريب من ذلك فقد أنه ملك مِلك أقطار العالم ودانت له كافة الأمم، وأذعنت لطاعته السراة، وخضعت لهيبته رقاب العتاه، وفاز بكل مرام، ونال كل منال، وحاز جميع ما في الدنيا من أصناف الأموال، من غير ند يزاحمه، ولا شريك يساهمه، بل قدَّر أن جميع ما فيها من حجر ومدر يواقيت غالية ونفائس ودرر، قدر أنه قد وقع من فقد مشروب أو مطعوم، في حالة بلغت منها، فسه الحلقوم، فهل يشتري وهو في تلك الحال بجميع ماله من الملك والمال لقمة تنجيه أو شربة ترويه، أم يختار الهلاك فتذهب الأموال والأملاك بغير بدل يبقى عليه، ولا نفع يعود إليه ؟ كلا، بل يبذل لذلك كل ما تحويه اليدان كائناً ماكان، وليس في صفقته شائبة الخسران، فإذاً تلك اللقمة والشربة خير مما في الدنيا بألف رتبة، مع أنهما في طرف الثمام، ينالهما متى شاء من الليالي والأيام، أو قدر أنه قد احتبس عليه النفس فلا دخل منه ما خرج، ولا خرج منه ما ولج، والحين قد حان، وأتاه الموت من كل مكان، أما يعطي ذلك كله بمقابلة نفس واحد؟ بل يعطيه وهو لرأيه حامد فإذاً هو خير من أموال الدنيا بجملتها ومطالبها برمتها، مع أنه قد أبيح له كل آن من آنات الليالي والأيام، حال اليقظة والمنام، هذا من الظهور والجلاء بحيث لا يكاد يخفى على أحد من العقلاء . وإن رمت العثور على حقيقة الحق، والوقوف على كل ما جل من السر ودقّ، فاعلم أن الإنسان بمقتضى حقيقته الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتبعه من الكمالات اللائقة والملكات الرائعة، بحيث لو انقطع ما بينه وبين العنايات الإلهية من العلاقة لما استقر له القرار، ولا اطمأنت به الدار، إلا في مطمورة العدم والبوار، ومهاوي الهلاك والدماء.
لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس، تعالى شأنه وتقدس، في كل زمان يمضي وكل آن يمر وينقضي، من أنواع الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وسائر صفاته الروحانية والنفسانية والجسمانية مالا يحيط به نطاق التعبير، ولا يعلم به إلا العليم الخبير، وتوضيحه أنه كما لا يستحق الوجود ابتداءً لا يستحقه بقاءً، وإنما ذلك من جناب المبدأ الأول عزَّ وجل .
فكما لا يتصور وجوده ابتداءً ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلي، لا يتصور بقاءه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارئ، لأن الاستمرار والدوام من خصائص الوجود الواجبي، وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن وجب كونها متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود، لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده ليست كذلك، إذ لا استحالة في أن يكون الشيء واحد موانع غير متناهية، وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود، فارتفاع تلك الموانع التي لا تتناهى أعني بقاءها على العدم مع إمكان وجوها في أنفسها في كل آن من آنات وجوده، نِعم غير متناهية حقيقة لا ادعاءً، وكذلك في وجودات علله وشرائطه القريبة والبعيدة ابتداءً وبقاء، وكذلك في كمالاته التابعة لوجوده، فاتضح أنه يفيض عليه كل آن نعما لا تتناهى في وجوه شتى .
فسبحانك سبحانك ما أعظم سلطانك، لا تلاحظك العيون بأنظارها، ولا تطالعك العقول بأفكارها، شأنك لا يضاهى، وإحسانك لا يتناهى، ونحن في معرفتك حائرون، وفي إقامة مراسم شكرك قاصون، نسألك الهدايه إلى مناهج معرفتك، والتوفيق لأداء حقوق نعمتك، لا نحصي ثناءً عليك، لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
([1] مجلة الأزهر المجلد /6/ محرم 1354هـ جزء/6/ بتصرف يسير.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين