الرجل الذي أوصى أنْ يُحرق

عن أبي سعيد الخدري رحمه الله تعالى، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ رجلًا كان قبلكم رَغَسَه الله مالًا، فقال لبنيه لما حُضِر: أيُّ أبٍ كنتُ لكم، قالوا: خيرُ أبٍ، قال: فإنِّي لم أعمل خيرًا قطُّ، فإذا متُ فأحرقوني، ثمَّ اسحقوني ثمَّ ذُرُّوني في يومٍ عاصفٍ ففعلوا، فجمعه الله عزَّ وجلَّ فقال: ما حملك فتلقاه رحمته» ([1]).

الشرح:

لهذه القصَّة ألفاظ وطرق في "الصحيحين" عن حذيفة، وأبي هريرة، وسنشير إليها بحول الله.

«رَغَسة» بفتح الراء والغين: جعل له مالًا كثيرًا، وفي رواية «رأَّسه» بالهمزة على الألف مشددة: أي جعله الله رأسًا بسببِ المال.

وفي رواية: «راشة» أي أعطاه رياشًا يعنى: مالًا.

«حُضِرَ» بضم الحاء وكسر الضاد: حضره الموت وفي روايةٍ: «لما احتضر».

«فإنِّي لم أعمل خيرًا قطُّ»: لم أعمل شيئًا من الطَّاعات أصلًا، وكان نباشًا – أيضًا -، لكنَّه كان موحدًا.

فقد جاء في حديث ابن مسعود عند أحمد بإسنادٍ حسنٍ: «أنَّ رجلًا لم يعمل من الخيِر شيئًا قطُّ إلَّا التوحيد، فلما حضرته الوفاة قال لأهله...» وذكر الحديث.

وكذلك جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد بإسنادٍ صحيحٍ، وجاء في حديث حذيفة عند البخاري.

ورواية عن ابن مسعود عند أبي يعلى بإسنادٍ صحيح أنَّه كان «نبَّاشًا».

«فأحرقوني» بالهمز: لأنَّه فعل رباعي ولا يصح فيه غير ذلك.

«ثمَّ اسحقوني» بفتح الحاء: وفي رواية «ثمَّ اطحنوني» بفتح الحاء والمعنى واحدٌ.

«ثمَّ ذُرُّوني» بتشديد الرَّاء وضمها مع ضم الذال، وفي روايةٍ: «أذروني»: ومعناها ظاهرٌ.

«في يومٍ عاصفٍ»: شديد الرِّيح، وفي روايةٍ: «في يوم راح» أي: شديد الرِّيح، وفي روايةٍ: «ثمَّ ذروني مع الريح».

وفي رواية ابن مسعود عند أبي يعلى: «إذا مت احرقوني ثمَّ اطحنوني، فإذا كان يوم ريح فارتقوا فوق قلة جبل فأذروني، فإنَّ الله إنْ قدر عليَّ لم يغفر لي».

وفي حديث أبي هريرة عند مسلمٍ: «قال رجلٌ لم يعمل حسنةً قطُّ لأهله: إذا مات فحرِّقوه» بتشديد الراء المكسورة، «ثمَّ أذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين».

ولا تخالف بين هذه الرِّوايات بل هي محمولة على أنَّهم فعلوا ذلك كله، فأحرقوه ثمَّ طحنوه ثمَّ ارتقوا الجبل في يومٍ عاصفٍ، فرموا نصفه ثمَّ رموا نصفه الأخر في البحر فجمعه الله.

وفي رواية أبي هريرة عند البخاري: «فأمرَ الله تعالى الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه ففعلت، فإذا هو قائمٌ».

وفي روايته عند مسلم: «فقال للأرض: أدي ما أخذت، فإذا هو قائمٌ».

وفي روايته الأخرى عند مسلم – أيضًا -: «فأمر الله البَرَّ فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه».

وفي رواية ابن مسعود: «فاجتمعَ في أيدي الله».

وفي حديث سلمان الفارسي عند أبي عوانة في "صحيحه" فقال الله له: «فكان كأسرع من طرفة عين».

وهذه الرِّوايات متقاربة، والمراد منها تصوير عظمة الله تعالى وسعة قدرته، وأنَّه لا يعجزه شيءٌ كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: 40] ، وليس المراد: أنَّ الله جمعه وخاطبه، بل هذا إخبارٌ عمَّا سيحصل له يوم القيامة. كذا قال ابن عقيل.

ويشهد له حديث أبي بكر رحمه الله تعالى في الشَّفاعة وفيه: «يقول الله بعد شفاعة الأنبياء والصِّديقين والشُّهداء: أنا أرحم الرَّاحمين، أدخلوا جنتي من لا يشرك بي شيئًا، فيدخلون الجنة، ثمَّ يقول الله عزَّ وجلَّ: انظروا في النَّار، هل تلقون أحدًا عملَ خيرًا قط.

قال: فيجدون في النَّار رجلًا، فيقولون: هل عملت خيرًا قط؟ فيقول: لا، غير أنِّي كنتُ أسامح النَّاس في البيع، فيقول الله عزَّ وجلَّ: اسمحوا لعبدى كإسماحه إلى عبيدى، ثمَّ يخرجون من النار رجلًا فيقولُ له: هل عملت خيرًا قط؟ فيقول: لا، غير أنِّي أمرت ولدي إذا أنا مت فأحرقوني بالنَّارِ ثمَّ اطحنونى، ثمَّ إذا كنت مثل الكحل فاذهبوا بي في البحر فأذروني في الرِّيح، فوالله لا يقدر عليَّ رب العالمين أبدًا.

فقال الله عزَّ وجلَّ له: لما فعلت ذاك؟ فقال: من مخافتك.

فيقول الله عزَّ وجلَّ: انظر إلى ملك أعظم ملك، فإنَّ لك مثله وعشرة أمثاله، قال فيقول: لم تسخر بي وأنت الملك؟ فضحك النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم».

رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزَّار ورجال أسانيدهم ثقات.

وزَعمَ بعضُهم أنَّ الله خاطب روحه، وهذا باطلٌ؛ لأنَّ التحريق والتفريق إنما وقعا على الجسد، وهو الذي يُجمع عند البعث ويعاد، كما كان فقال: «ما حملك»، زاد في رواية ابن مسعود عند أحمد: «ما حملك على ما صنعت؟».

وفي حديث معاوية بن حيده عند أحمد بإسنادٍ رجاله ثقات: «ما حملك على النَّار؟».

وفي روايةٍ له – أيضًا - قال: «يا ابن آدم ما حملك على ما فعلت؟».

ومعنى الرِّوايات واحدٌ وليس الاستفهام على حقيقته؛ لأنَّ الله يعلم حال الشَّخص والباعث له على ذلك، وإنما أرادَ بالاستفهام إظهار فضل الخوف من الله تعالى وبيان سعة رحمته وعموم مغفرته.

قال: «مخافتك». وفي روايةٍ: «خشيتك»: يعني: حملني على ما فعلت خوف عقابك يا رب، وخشية انتقامك، «فتلقاه رحمَته» بنصب «رحم» على المفعولية، أي: تلقاه برحمته. وفي روايةٍ: «فغفر له».

وفي حديث بن مسعود عند أبي يعلى قال: «فاذهب فقد غفرت لك».

وفي رواية أبي هريرة عند أحمد قال: «فغفر له بها، ولم يعمل خيرًا قطُّ إلَّا التَّوحيد».

وفي هذا دليلٌ على سَعَة رحمة الله، وأنَّه يغفر للمسلم ما يشاء من الذنوب.

أمَّا الكافر فلا يغفر له أبدًا لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].

فالإسلام ركنٌ أساسيٌّ في حصول المغفرة للشخص.

وإحراقُ جثَّة الميت يظهر أنَّه كان جائزًا في شرعِ من مضى، بدليلِ أنَّ الله غفر لهذا الرجل مع أنَّه أوصى بإحراق جسده، ويجوز أنْ يكون فعل ذلك جهلًا فتجاوز الله عن جهله.

أمَّا في شرعنا فلا يجوز إحراق شيءٍ من الميت، ولو أوصى بذلك، بل تجب مواراته ودفنه، وفي الحديث: «لا يعذِّب بالنَّار إلَّا ربُّ النَّار».

بقي ههنا استشكالٌ وهو أنَّ يقال: كيف غفر الله له، مع قوله: «لئن قدر الله عليَّ ليعذبني... إلخ»؟

وهذا يفيد أنَّه منكر للبعث ولقدرة الله على إحياء الموتى، والمنكِر لهما كافرٌ، والكافر لا يغفر له، ومما زادَ المسألة تعقيدًا، أنَّه قال لأولاده: «اسحقوني ثمَّ ذُرُّوني في الرِّيح لعلِّي أضل الله عزَّ وجلَّ»، مع أنَّ الله تعالى يقول: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه: 52].

والجواب: أنَّ قوله: «لئن قدر الله عليَّ»، فيه تأويلات:

أحدهما: أنَّ معناه: لئن قضى الله عليَّ العذاب. يقال: قدر بالتَّخفيف والتشديد بمعنى قضى.

الثاني: أنَّ معناه: لئن ضيق الله عليَّ فهو كقوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87]، أي: نضيِّق عليه.

الثالث: أنَّ الَّلفظَ على ظاهره، ولكن الرَّجل لم يقصد معناه، بل قال في حالة غلب عليه فيها الدهش والخوف وشدة الجزع، بحيث ذهب تيقظه فصار في معنى الغافل والنَّاسي، وكذلك قوله: «لعلي أضل الله» صدرَ منه في هذا الحالة التي لا يؤاخذ فيها، وهذا نحو قول الآخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته بعد اليأس منها: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك»، فلم يكفر بهذا؛ لغلبة شدة الفرح عليه، بحيث لم يشعر بما يقول.

وهذا ما ارتضيته من الأجوبة وتركتُ غيرها؛ لأنَّه لا يسلم من بعض الخدش.

والعبرة من هذه القصة ظاهرة، وهي بيان فضيلة الخشية من الله تعالى، وإكرام الله لمن خافه بالمغفرة ودخول الجنة وقد قال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46].

وفي الحديث القدسي: «وعزَّتي لا أجمع على عبدي خوفين، وأمنين: إذا خافني في الدُّنيا أمَّنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدُّنيا أخفته في الآخرة».

" سمير الصالحين"

([1]) رواه البخاري ومسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين