الرجاء والخوف ـ 15 ـ الخوف من الله عزَّ وجل

الشيخ : مجد مكي

لقد ذكر الله تعالى في القرآن كثيراً من الآيات، فيها تخويف العباد، وتذكيرهم، وترهيبهم لأجل أن ينهضوا إلى الجدِّ والعمل، ولا يخلدوا إلى الخمول والكسل.
وآيات التخويف المقصود منها حصول الخوف في نفس القارئ والسامع، وليست هي من باب التوهُّم والتخيل، ولذلك نبَّه الله تعالى عباده إلى أن يخافوا مما خوَّفهم الله تعالى، آخذين بالجدِّ، ولا يتخذوا آيات الله تعالى هزواً.
قال الله تعالى:[ قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ] {الزُّمر:15-16}.
أي: فامتثلوا أوامر الله تعالى، واجتنبوا ما نهى، خوفاً من عذابه وعقابه.
فتخويف الله تعالى عباده يوجب عليهم أن يتَّقوه، فإنَّ تقواه ـ أي: امتثال أوامره واجتناب مناهيه ـ في ذلك وقاية لهم من المخاوف، وأمان لهم من المتالف.
وقد نعى سبحانه على أئمة مشركي مكة بالمخوِّفات من البأساء والضرَّاء، فقال: [وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا] {الإسراء:60}. أي: تجاوزاً للحدّ في كفرهم وتمرُّداً عظيماً. فعدم الخوف من تخويف الله تعالى ليس من شأن المؤمن.
من آيات التخويف:
وقد اختلف العلماء في أشد الآيات تخويفاً والحق أنها كلها أشدُّ:
1 ـ فقال بعضهم: أشدُّ الآيات تخويفاً قوله تعالى:[سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ] {الرَّحمن:31}.والثقلان تثنية ثَقَل، والمراد بهما: الإنس والجن، وسمّوا بذلك لأنهما سُكان الأرض، والقائمون على ظهرها من ذوي العقل، وقد حمِّلوا التكاليف الشرعية، بخلاف بقية الحيوانات فليست مكلفة.
والمعنى: سنقصد لسؤالكم ومحاسبتكم، وفَصْل القضاء بينكم، ومجازاتكم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا يا معشر الإنس والجن، فَخُذوا حِذْرَكُم، وأعدُّوا عدَّتكم لذلك اليوم.
2 ـ وقال بعضهم: أشدُّ الآيات تخويفاً قوله تعالى:[لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا] {النساء:123}.
الأماني: جمع أمنية، وهي: الصورة الحاصلة في النفس التي يقدرها المتمني ويتصورَّها، من قولهم: منى له الماني أي: قدَّر له المقدِّر، ومنه المنيَّة: فإنها آجال مقدَّرة.
فقد يتمنَّى المتمنِّي ماله حقيقةٌ في الخارج، وقد يُطلق التمنِّي على تصوير ما لا حقيقة له، ومن هنا يعبَّر عن الكذب أحياناً، ومنه قول سيدنا عثمان رضي الله عنه: (ولا تمنَّيتُ منذ أسلمت).
ومعنى الآية: ليس الإيمان وما وعد الله تعالى به من الثواب والجنة ـ حاصلاً لكم بمجرَّد أمانيكم أيها المسلمون، ولا أماني اليهود والنصارى قبلكم، وإنما يحصل ذلك بالسَّعي والجِد والاجتهاد، وامتثال أوامر الله تعالى، واجتناب ما نهى عنه.
أخرج ابن أبي شيبة (36359) عن الحسن رضي الله عنه أنه قال: (ليس الإيمان بالتَّمنِّي، ولكن ما وَقَر في القلب، وَصَدَّقه العمل، إنَّ قوماً ألهتهم أمانيّ المغفرة حتى خَرَجوا من الدنيا و لا حَسَنةَ لهم، وقالوا: نُحسِّن الظن بالله تعالى ـ وكذبوا، ولو حسَّنوا الظن بالله تعالى لأحسنوا العمل).
روى ابن أبي شيبة (10908) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: [مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ] {النساء:123}. شقَّ ذلك على ا لمسلمين، وبلغت منهم ما شاء الله تعالى، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (سدِّدوا وقاربوا، فإنَّ في كلِّ ما أصاب المسلم كفَّارة، حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها).
فبالمصيبة الصغيرة والكبيرة يكفِّر الله السيَّئات.
وروى ابن مردويه وابن جرير وسعيد بن منصور وأبو نُعيم عن مسروق، قال أبو بكر رضي الله عنه: (يا رسول الله ما أشدَّ هذه الآية: [مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ] {النساء:123} ؟!. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا له ـ للمسلم ـ جزاء ).
وروى الترمذي (3039) وغيره، عن أبي بكر الصِّديِّق رضي الله عنه قال: (كنت عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: [مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا بكر: الا أُقرئك آية نزلت عليَّ؟)، فقلت: بلى يا رسول الله، فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصاماً في ظهري حتى تمطيت لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لك يا أبا بكر؟)
قلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، وأيُّنا لم يعمل سوءاً وإنا لمجزيون بكلِّ سوء عملناه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتُجْزَون بذلك في الدنيا، حتى تَلْقَوا الله وليس عليكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة).
فالهموم والمصائب والأمراض تكفِّر السِّيئات، وترفع الدرجات، كما دلَّ على ذلك ما رواه مسلم(2572) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت لها بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة).
اللهمَّ إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
من آيات التخويف:
3 ـ وقال سفيان بن عُيينة: أخوفُ آية: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ] {المائدة:68}.
وأراد بذلك سفيان رحمه الله تعالى: أنَّ هذه الآية وإن كانت مُوَجَّهة الخطاب لأهل الكتاب، ولكن فيها تسميعَ لهذه الأمة المحمديَّة كما قيل: (إيَّاكَ أعني واسمعي يا جارة)، فقد جَرَت عادة الله تعالى في القرآن أن لا يُجابِهَ هذه الأمة المحمدية بتعنيف، أو توبيخ، أو ذكر المساوئ، ولكن يذكر مساوئ من قبلهم، وتعنيف من قبلهم تسميعاً لهم، وكأنه سبحانه يحذِّرهم من تلك المساوئ.
والمعنى:لستم على شيءٍ عند الله تعالى ما لم تعملوا بكتاب الله تعالى ـ أي: القرآن الكريم ـ عملاً حقاً، متمسكين به، وعملاً بما أنزل الله تعالى على رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ أي: ما لم يعملوا بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
اللهم وفَّقنا للعمل بكتابك، وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، واجعلنا على شيء كبير مقبول عندك ـ آمين.
4 ـ وقال بعضهم: أرجى آية:[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ] {الزَّلزلة:7}. وأخوف آية:[وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] {الزَّلزلة:8} . والمعنى: من يعمل مقدار ذرَّة شراً من عمل قلبيٍّ أو نفسيٍّ أو جسديٍّ يكتسبه بإرادته في الحياة الدنيا، يَرَ كتاب أعماله مسجَّلاً بالصورة والصوت والخواطر والنيَّات، وينال عقاب عمله الذي عمله في الدنيا.
5 ـ وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين قال: لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية:[وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ] {البقرة:8}.
6 ـ وقال أبو جُحَيفة: أخوفُ آية في القرآن: [وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] {آل عمران:131}.
ونظير هذه الآية قوله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] {التَّحريم:6}.
7 ـ وأشدُّ آية على الكفار قوله تعالى:[فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا] {النَّبأ:30}.
وقوله تعالى:[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا] {النساء:56}.
أخرج ابن أبي شيبة (35288) وابن المنذر وغيرهما عن الحسن رضي الله عنه في هذه الآية أنه قال: (بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين مرة، كلما أنضجتهم وأكلت لحومهم، قيل لهم: عودوا فعادوا) أهـ.
وروى مسلم (2851)، والترمذي (2578) وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضِرسُ الكافر مثل أُحُد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث) أي: ثلاث ليال.
اللهم أنعمت علينا بنعمة الإيمان فأتمَّها بفضلك علينا، وعافنا واعف عنا يا أرحم الراحمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين