الذكريات الإسلامية في الهجرة والمولد النبويين 2/2

 العلامة: إبراهيم الجبالي

 
إنَّ نعمة رسالته صلى الله عليه وسلم لتتجلى واضحة في ثلاثة مظاهر:
الأول: في وضوح التعاليم في شريعته الغراء.
الثاني: في متانة حججها وسطوع أدلتها وبراهينها،
الثالث: في عظم فوائدها وجليل آثارها في الدنيا والآخرة.
ولنشرح كل واحد من هذه المظاهر بمنتهى الإيجاز بما تسعه هذه الكلمة:
 
أما وضوح تعاليمها فإنَّ الناظر إليها مجردة عن أي مصدر أو مستند يجد لها في ذاتها تغلغلاً في النفوس، ويجد في القلوب استعداداً لقبولها، ولو لم يسندها برهان أو لم يعرف منزلة قائلها، فما أشبهها بقوله: قضايا قياساتها معها، أو هي كما قال تعالى في وصفها: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {الرُّوم:30}. ذاك أنها في عقائدها وفي عباداتها وفي أحكام معاملتها تجلو على العقل المثل الأعلى لما ينبغي أن يكون عليه نظام هذا الوجود.
فأما العقائد فلم ترهق العقول بما تعيا عن فهمه، بل هدتها إلى ما يزيل الحيرة ويحلُّ لغز الوجود، فقد أرشدت الإنسان إلى أن ما يقع عليه حسُّه وتدركه نفسه من هذا العالم المنظم في ارتباطه، المتقن في إبداعه، المُتماسك في تباعده، مع قيام الدليل من حاله على إمكانه في نفسه وعدم مقتضى الوجود من ذاته، يجب أن ينتهي إلى وجودٍ واجب يكون أكمل وجود متصف بأكمل الصفات وأمجدها، وجود لا يخضع لعوامل الكون والفساد، ولكنه مصدر لكل ما يبدو من الآثار، ويكون هو المهيمن على جميعها المتصرف في كل شؤونها من صغير وكبير...
دلَّ باهرُ صنعه على عظيم علمه وحكمته سبحانه، وقدرته وإرادته، فهو الحي القيوم، وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وهو الرحمن الرحيم، والغني عن كل شيء، وكل شيء محتاج إليه.
ولا شك أنَّه لا يحلُّ مشكلة الوجود الجامع لهذه الأجرام الفلكية، والعوالم الأرضية، وما حوت من ارتباط وتماسك، وصلاح وحكمة، وما يَعتريه من تغير وانحلال وحركة وسكون، سوى هذه العقيدة السهلة التي تتحدَّر إلى العقل الإنساني من الملكوت الأعلى لا يحجبها عنه إلا ازورار طبعه، أو اعوجاج تربيته ونَشْأته.
وإنَّ من مَظَاهر رحمته سبحانه، أن يتعهَّد العقل بهداة يرشدونه إذا ضلَّ ويُقوِّمونه إذا اعوجَّ، ويُؤيدهم بأدلة ظاهرة، وآيات باهرة، هي أمارات أنهم رسل من عنده سبحانه يبلغون عنه وهم في بلاغهم صادقون، وأنهم وهذا شأنهم يجب أن يكونوا أمناء صادقين، وأن يكون لهم من رجاحة العقل والفطنة ما يَقتدرون به على أداء مهمتهم وإرشاد أمتهم، وأن هذا من القبول بحيث لا تأباه العقول، لم يزد الإسلام في أمر العقائد على هذين وما يتفرع عنهما مما يلزمهما ويستفاد منهما، وذلك هو الإيمان بالله وكتبه وملائكته ورسله.
وأما العبادات فقد أُشير إلى أساسها إجمالاً في قوله تعالى: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] {آل عمران:64}.
ولما كانت تفاصيل العبادات لا يستطيع العقل تحديدها أرسل الأنبياء ليهدوا العقل البشري إلى ما يرضاه منه الحق جل جلاله، وهو أعلم بما يرضى، ولقد جاءت هذه الشريعة في هذا الباب، بما هو أنور في نظر العقل من الشمس في رابعة النهار، فجعل أركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً، ولكل ركن منها في تهذيب النفوس وتنظيم شؤون المجتمع أبلغ أثر وأعظم خطر..
ففي الشهادتين تعويد النفس ألا تصدر في أعمالها إلا عن بصيرة بالأمر واستيقان بصحته، فمهما عمل ومهما ترك فهو فرع اعترافه ويقينه بخضوعه لله وحده، وتصديقه لرسول صلى الله عليه وسلم، يقيناً واضحاً يشبه المشاهدة، وهذا يستتبع قطعاً النتيجة المذكورة في قوله تعالى: [ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ] {الحشر:7}.
وفي إقام الصلاة تذكير النفس مراراً في كل يوم وليلة بعظمة الخالق، واستحضار نعمه، والوفاء بشكرها استزادة لها بالشكر،، والاستعانة به في كل شأن، وطلب الهداية من لدنه، مع تعظيمه وتبجيله والخضوع له أيما خضوع، وفيها من نيل شرف المثول بين يدي أحكم الحاكمين مع خلوص نفس وطهارة ظاهر وباطن، وإشعار القلب بالجلال ما يغرس في النفس الإنسانية الشعور بالعظمة والعزة الدينية، إذ من يشعر أنَّه عبد للملك الأعلى يقف بين يديه وهو مُطلع عليه لا تحدثه نفسه أن يكون عبداً لعبد مثله.
وسرُّ الزكاة أنَّ فيها من جمع القلوب وتقوية أواصر المحبة والعطف بين الأمة ما يكفل سعادة الجميع بارتباطهم بعضهم ببعض، وهي أكفل ضامن لدفع الشيوعية الممقوتة.
وأثر الصيام في تحديد عزَّة النفس وقمع غلوائها لا يخفى على من ذاقه وجرَّبه.
وهل الحجُّ إلا اجتماع جماعة المسلمين في كل عام في وقت واحد في صعيد واحد، مُستشعرين معنى العبودية، خاضعين لرب لا شريك له، يتعارفون فيتساندون فيكونون إخواناً، كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضُه بعضاً.
هذا شأنها في وضوح تعاليمها في عقائدها وعباداتها، فإذا التفت إلى ما بثت من أخلاق كريمة تطهر النفوس من الآثام والأدناس، وجدت لذلك ما يملأ قلبك اعتقاداً واستيقاناً بأنَّها الرحمة المهداة حقاً للعالمين.
وأما في المُعاملات فاعمد إلى أي باب من أبوابها سواءً أكانت معاملات خاصة كنظام الأسرة، أو عامة كعقود النظم المدنية من بيع وإجارة ورهن وضمان وأمثالها، أو مُعاملات أعم كعقود النظم بين الأمم من مُعاهدات واتفاقات وأمثالها، فإنَّه يتجلى لك من ذلك ما لو اجتمعت العقول مُتضافرة على أن يأتوا بخير منه شامل لجميع الأمم في كل زمان ومكان، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، وإنك لتكتفي في الاستشهاد على هذا بقيام تشريعات وقتية لفئة من الناس في حالة تكون مُغايرة لبعض أحكام الشريعة الغراء، ويتوهَّم فيها أنَّها كفيلة بسعادتهم وهناءة حياتهم، فلا يمض عليها كبير زمن حتى يظهر عوارها، ويسعى أهلها في تبديلها، في حين أنَّ أحكام هذه الشريعة الغراء تمضي عليها الحقب والدهور فلا تزيدها الأيام إلا جِدَّة، وما من اعتراض أو إشكال توهمه الخارجون عليها إلا وكشف الزمان فساد التوهم فيه، [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] {الرعد:17}.
هذا ما تسعه هذه الكلمة في وضوح تعاليمها إجمالاً.
وأما متانة براهينها وقوة حججها، وبيان آياتها:
فذلك مُتجلٍّ في مُعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنها لنوعان ـ منها ما هو من جنس معجزات إخوانه المرسلين عليهم جميعاً أفضل صلاة وأتم تسليم، وذلك كنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وكردِّ عين قتادة التي فقئت عينه في إحدى الوقائع، وكتسبيح الحصا وحنين الجذع، وأمثال هذا، فهي من جنس معجزة موسى عليه السلام في تسخير الماء بانفلاق البحر، ومعجزة عيسى عليه السلام، في إبراء الأكمه، ومعجزتهما في إحياء الموتى، وقلب العصا حية.
وحكمة ذلك أنَّ شرعيته عليه الصلاة والسلام لما كانت ناسخة للشرائع السابقة فمن الحسن ألا تمتاز شريعة عليها بمعجزة لم تؤيد بها، حتى لا يكون في المنسوخ قوة خلا منها الناسخ.
ومنها ما اختصَّ به صلى الله عليه وسلم، وذلك هو المعجزة الباقية الخالدة ما بقي وجوب العمل بهذه الشريعة المطهرة، وذلك أبد الآبدين، تلك هي مُعجزة القرآن الكريم، وإنَّ وجوه الإعجاز فيه لمتكثرة، أظهرها ما يرجع إلى بلاغة أسلوبه وقوة بلاغته، حتى عجز من تحداهم وهم فُحول البلاغة عن أن يتعرَّضوا لمحاكاة شيء منه ولو قدراً صغيراً كسورة صغيرة، وذلك مقدار ثلاث آيات ـ وقد كانوا ـ لو وجدوا إلى ذلك سبيلاً ـ قادرين على أن يشهد بعضهم لبعض، وما أكثرهم إذ ذاك وأشد عنادهم.
فعجزهم جميعاً والبلاغة موضع مباهاتهم، ومناط فخرهم دليل عجز من سواهم من باب أولى وذلك هو الإعجاز اليقيني حتى لمن لم يكن من أهل البلاغة، على أنَّ فيه من نواحي الإعجاز ما يعرفه أصحاب العلوم المُتنوعة، فما أحق من زاول فنون التشريع والتقنين وعرف ما يقاسيه المتصدي له بعد أن يعد لذلك عدته، ما أحقَّه بمعرفة أنَّ ظهور هذا التشريع الكامل ممن لم يزاول هذا الفن واهتداءه لما يوافق كل أمة بادية أو حاضرة ويفي بكل ما يلزمها أمر ليس في طاقة أحد من البشر خصوصاً مع اختلاف الأجيال والقرون والعادات والمألوفات.
وما أجدر من درس الأخلاق وأخذ نفسه بأن يعطيها كاملة أن يعرف أن ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك فوق الطوق البشري، بل إنا لنجد في القرآن الكريم من وجوه الإعجاز مالا يتوقف المرء فيه على تعلم علم ولا التبحر في فن! وإنما يكفيه أن يكون له قلب أو يلقى السمع وهو شهيد...
ذلك كالإخبار بالمغيبات الماضية والمستقبلية، فتجيء صادقة لا يتخلف منها شيء، وإنك لتجد من غرائبه المدهشة العجب العجاب، في قوله تعالى: [قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا] {البقرة:95}.
فإنَّ هذه الكلمة لو لم يكن قائلها يقولها عن أمر ربِّه المهيمن على كل شيء سبحانه، ما صحَّ في نظر العقل أن يجازف صاحبها فيجعل نفسه تحت رحمة خصمه الذي هو أحرص الناس على تكذيبه فيقول له: من أخباري الصادقة عن ربي أن لا أحد منكم يقدر أن يتمنى الموت. فما كان أيسر على أحدهم أن يلفظ بكلمة تمنى الموت فيقضي على كل أخباره! وما كان له صلى الله عليه وسلم حينئذ ولا لأحد من أصحابه أن يقول: إنما قالها بلسانه لا بقلبه، فما لأحد اطلاع على ما في القلوب سوى علام الغيوب، وإذاً لو قالها لزلزت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، ولقالوا: أين صدقك يا محمد، ولقد كانوا يضجون ويصخبون لأقل وأتفه من هذا حتى يلقموا الحجر المسكت، فما بالك بمثل هذه الفرصة لهم، وإن حجة تصل إلى هذا الحد من البداهة والوضوح لهي حجة ساطعة وآية بيِّنة، بل شمس مشرقة لا يعمى عنها إلا من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة.
وأما عظم فوائدها وشمول نفعها ودوام ثمرها فإنَّها في هذا الباب تنقسم إلى قسمين: سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة، فأما سعادة الدنيا فقد شملت العالم بأسره: من دان بالإسلام ومن نأى بجانبه، فلقد جاءت هذه الشريعة الغرَّاء والعالم على أشد ما يكون من شقاق وافتراق، واختلاف واضطراب، جاءت وقد تأصَّلت في الناس عادات ممقوتة وفوارق مَرذولة جعلت الإنسانية تئنُّ منها أنيناً مُوجعاً، فقد كانت الدولتان القائمتان في الشرق والغرب (فارس والروم) تقتسمان الناس اقتسام امتلاك، فتفرضان على الرعايا من فنون الاستعباد والاستبداد ما قيَّدها بقيود الذلِّ، وجعلها تستكين وتخنع لبؤس العيش وشَقاء الحياة، حتى تربت فيهم عقيدة أنهم ليسوا من طينة سواء، فجاء الإسلام مزيلاً هذه الفوارق، مقرراً أن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {الحجرات:13}. فتنبه الإنسان إلى حقوقه وهبَّ يطالب بها واستيقظ من سباته، فخضع القوي لحكم الإله الأقوى واستردَّ الضعيف حقَّه المفقود، فسعد الناس أجمعون.
ولقد جاء وقت على علماء الأديان كانوا يُشاركون زعماء الحكام في جبروتهم، فيحتكرون العلم يقصرونه على طائفة منهم ويحرمون بقية الأمة منه، فجاء الإسلام وأباح العلم لكل إنسان، بل دعا إليه وحثَّ عليه ورغَّب فيه، بأن جعل كلَّ ما في الأرض جميعاً ملكاً للنوع الإنساني يَنتفع بكل ما فيه من خيرات، ويَستثمر كل ما يؤتيه من الثمرات، مُستعيناً بالعلم والبحث والتحليل، غير مقيد في تفكيره وبحثه إلا بتجنب ما فيه ضرر بأحد، أو تعدٍّ على مقام العزَّة الإلهية، أو تجاوز لمركز العبودية، أو مخالفة لصريح أحكام الدين، أو نصوص الكتاب الكريم، وما وراء ذلك فهو له هنيء سائغ.
فكان من وراء إباحة العلم للجميع بعد حظره والترغيب فيه والحث عليه أن أقبلت النفوس تسوقها الحاجات، وتغذوها الهمم، وتذكيها المنافسة، وتتسع أطرافها باتساع نواحي الحياة، حتى قدمت للبشرية مَنافع لم تكن على بالِ أحد! واشترك في ذلك من دان بالإسلام ومن أعرض عنه، فعمم نفعه هذا جميع العاملين؛ وذاك أنَّ الحاجة والثمرة الدنيوية لا تمييز فيها بين متدين وغير متدين، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، لا فرق في ذلك بين عمل الدنيا وعمل الآخرة: [مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ] {الشُّورى:20}.
والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً من عمل الدين ومن عمل الدنيا.
هذان المبدآن العظيمان: مبدأ المساواة بين أجناس الناس في الخلق والحقوق والواجبات، ومبدأ إباحة العلم وتمكين جميع الطبقات منه مع بثِّ مبدأ العدالة والإنصاف وأنَّ كل واحد أحق بإحراز ثمر جهوده ـ كان لهما في إسعاد النوع البشري ما يجعل حقاً على كل طائفة أن يقدر نعمة هذه الرحمة المهداة، ويقيم لها في قلبه وفي مشاعره أعظم ذكريات التبجيل والتمجيد، وإنَّ عموم النفع وعظم الخطر ودوام الأثر لمتجلٍّ فيها لكل من له قلب وسمع وبصر، وبهما يتجلى مظهر من قول الكتاب المبين: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.
وأما الانتفاع الأخروي فحسبك منه أن هيَّأ سببه واضحاً سهل التناول، وفاتحاً باب السعادة الأبدية الخالدة، حاثاً على اجتيازه، بأبلغ أنواع الحث والتحضيض حتى يدعوهم إلى دخول الجنة بسلاسل، وكلما سدوا باباً بالإعراض، فتح لهم باب بالتوبة إلى آخر لحظة من لحظات الحياة، فأي رحمة وأي نعمة أعظم وأبلغ من هذه الرحمة والنعمة؟.
ولا يَنقص من مَنافعها أن حرم بعض الناس أنفسهم من اجتناء بعض ثمارها، فطلوع الشمس نعمة حتى لمن أغمض عينيه عن إبصارها، بل لمن حرم نعمة الإبصار بالمرة، فإنه ينتفع بها بأن يراه المبصرون فيرشدوه ويتحاشوا أن يصطدموا به فيؤذوه، ويتعاونوا على تحصيل منافعه ونيل مآربه في ضوئها. ونزول الغيث نعمة ولو لمن تحاشى أن يستقيه، فقد أنبت له الزرع وأدرَّ له الضرع، وجعل ما يحيط به في خير، وإباؤه هو عنه لا ينقص من أنه نعمة عليه، وهلم جرا في النعم العامة، ومنها نعمة هذه الشريعة المطهرة التي هي مفتاح سعادتي الدنيا والآخرة.
فأي نعمة هي أحقُّ من هذه النعمة بالذكر والشكر من بني الإنسان عامة؟ فإذا ابتهج العالم أجمع لحلول موعدها وعودة موسمها، فإنها هو قائم بالشكر الجميل بالجميل، سواء ً في ذلك موسم افتتاح السنة الهجرية، وموسم شهر مولده صلى الله عليه وسلم.
وإنَّ مما يملأ القلب سروراً والنفوس غبطة أن نرى مَظهر هذا الموسم العظيم قد أخذ في أرجاء القطر المصري من الإجلال والتعظيم ما لا يدانيه فيه موسم آخر، فلا يكاد يظهر هلال شهر ربيع الأول حتى ترى الأمة تحركت لإحياء لياليه باجتلاء سيرته صلى الله عليه وسلم والقيام لله بشكر هذه النعمة بصنوف العبادات وإقامة الأذكار، وعمران المساجد بالصلوات، والمجالس بتكرار الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، ويُبالغون في إطعام الطعام، وإكرام الفقراء، وبذل الصدقات إلى درجة أن يُدخلوا السرور على نفوس أفراد الأمَّة بأسرها.
نسأل المولى القدير أن يسيغ على العالم الإسلامي نعمة الهداية الكاملة، والسعادة الشاملة، وأن ينزع ما في صدور الناس من غلٍّ ونفور، وأن يبدلهم منه السرور وانشراح الصدور إنه سميع مجيب. آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر:
مجلة نور الإسلام،ربيع الأول 1351هـ، العدد الثالث والعشرين بتصرف يسير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين