الذكريات الإسلامية في الهجرة والمولد النبويين 1/2

العلامة: إبراهيم الجبالي

 
الحمد لله الذي [أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] {التوبة:33}.[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ] {الجمعة:2}. وصلى الله على من أرسله بالحق مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، محمد النبي الأمي العربي الهاشمي، وآله وصحبه وجنده وحزبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فإن الاحتفال بالذكريات العظمى، وتكرار ذكرها، وتمجيد النعم الكبرى معين على أداء واجب شكرها، وبرهان على أن المنعم عليه يقدرها حق قدرها، وإنك لتلمح في الشرع الشريف طرفاً من هذا، فقد ترى في مجيء العيدين العظيمين: عيد الفطر وعيد الأضحى في وقتهما أن كلاً منهما جعل موعده عقب نعمة كبرى منَّ الله بها على عباده، فقد جاء عيد الفطر عقب [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ] {البقرة:185}.
وكان عيد الأضحى عقب يوم عرفة الذي نزل فيه قوله تعالى:[ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3}.
وناهيك بهما من نعمتين لا يجحد فضلهما ولا يحقر شأنهما إلا من كتب عليه الحرمان من رحمة الرحمن، وهما نعمة إنزال القرآن ونعمة إكمال الدين، وترى أن حكمة تخصيص يوم عاشوراء بمزيد تأكيد لطلب الطاعات النافلة كالصوم وصلة الرحم، والعطف على اليتامى والفقراء، وأمثال ذلك، قد تجلَّت فيما ورد من أنه يوم نجَّى الله فيه موسى من فرعون وقومه، وأخرج فيه يونس من بطن الحوت، ورست فيه سفينة نوح على الجودي، وأمثال ذلك من النعم التي أنعم الله بها على أنبيائه وأصفيائه، ونعمتُه عليهم نعمة على جميع الخلائق الذين أرسل الرسل رحمة بهم، وهدى لهم، ونعمة على كل من يغار على الحق ويعنى بنصرته.
وإنَّ من أكبر النعم التي أفاضها الله على الأمة الإسلامية بل على جميع البرية نعمة تخليص نور الحق من ضغط ظلمات الشرك، فقد بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم بين قوم شديدي الشكيمة قويي المراس، تمكنت منهم الحمية حمية الجاهلية حتى أنستهم مصالحهم، وأعمتهم عما فيه سعادتهم، فلم يبصروا ذلك النور المتلألئ بين أعينهم، ولم يسمعوا صيحات التبشير والإنذار تنبههم وترشدهم، فما زالوا يغمضون أعينهم على القذى، ويصرفون عقولهم عن الهدى ويجعلون أ صابعهم في آذانهم حذر أن يسمعوا ما يغلبهم على تصميمهم، ويصدون عن سبيل الله من أمن، ويؤذون الرسول والمؤمنين بلا ذنب سوى أنهم يحرصون على حياتهم حياة سعيدة، وما زالوا يعتدون بقوتهم، ويصولون بعزتهم وغلبتهم، ويتتبعون حركات كل من آمن أو مال إلى الإيمان فيحولون بينه وبين الإيمان بمختلف الوسائل: بإرهاب المستضعفين، وتأنيب ذوي الخطر، واستعطاف من له صولة، حتى قطعوا الطريق على السالكين، وكادوا يمنعون رحمة الله أن تصل إلى عباد الله.
ولقد مكث عليه الصلاة والسلام معهم عشرة أعوام أو يزيد يدعوهم إلى الإيمان بربهم، وهو معروف بينهم طول عمره بالصدق والأمانة حتى سموه الأمين، وهم له كارهون يكيدون ويصدون، حتى ضاقت بالمؤمنين أرضهم، وسئموا هذه الحياة المضطربة، والعشرة المشاكسة، فأذن الله لنبيه أن يهاجر هو وأصحابه من هذه الديار، وهي أحب بقاع الأرض إليهم لأنها مجمع الأماكن المقدسة، ومقر بيت الله ومفخرة قريش، وأثر إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام ومنبت نشأتهم الأولى، ففرجت عنهم الضائقة، وخرجوا لا يلوون على شيء مما يحبون، يفرون منها بدينهم، فالمؤمن يحب أن يكون مؤمناً قبل كل شيء، لا أن يكون متمسكاً بأرض اتفق له أن وجد عليها قبل كل شيء، فأرض الله واسعة فضاها. وكما يقولون: أرض بأرض وجيران بجيران، أما الدين فلا بديل له، ولا عوض عن سعادة الحياتين، فمن خسر دينه فقد خسر سعادة الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
أذن الله لنبيه وللمؤمنين أن يُهاجروا من مكة إلى المدينة، فهاجر إليها فريق من المؤمنين أولاً بأمره صلى الله عليه وسلم، وهاجرَ بعد ذلك صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر رضي الله عنه. وقد تكفلت كتب السيرة النبوية بتفصيل ما وقع في هذه الهجرة وفي هجرة الصحابة رضي الله عنهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة بما فيه المقنع ولم نرده من كلمتنا هذه.
وإنما الذي نعني به في هذه الكلمة هو بيان ما ترتب على هذه الهجرة مما كان نصرة للحق وسعادة للمؤمنين، بل رحمة لجميع العالمين، ذلك هو انجلاء هذه الشمس الساطعة وانكشاف غيوم تلك الأضاليل والأباطيل عنها من تسلط قوم بلغ بهم الحمق والجناية على أنفسهم وعلى الناس أن يقولوا: [وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] {الأنفال:32}
فكان تجلي هذا الضياء وسطوعه على كافة الخلائق وذهاب الحجب التي كانت تحول بينه وبين الوصول لمن ينتفع به رحمة على الناس أجمعين، كيف لا وقد قال جلَّ شأنه: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.
ولا يمنع أنها رحمة للناس أجمعين تفويت فريق من الناس على أنفسهم الانتفاع بها عناداً واستكباراً، أو جهلاً وغباوة، فشروق الشمس رحمة للجميع وإن أغمض بعض الناس عينيه فلم ينتفع بضوئها أو كان به غشاوة، وسكينة الليل رحمة للجميع وإن قضاه بعضهم في العربدة حتى أتلف صحته، ونزول المطر رحمة للجميع وإن قاطعه أناس وأبوا أن يستقوا من مائه.
على أنَّ هذه الرحمة قد شمل الانتفاع بها ولو من بعض الوجوه جماهير سكان الكرة الأرضية حتى من لم يؤمن، فقد أبادت أحكامها وتعاليمها عوائد ممقوتة مرذولة كان الناس قد خضعوا لها واستكانوا تحت نيرها حيناً من الدهر لا يفكرون في المخلص منها ولا يعملون على إنقاذ نفوسهم من مقتها، جاء الإسلام فنبَّه النوع الإنساني إلى منزلته في الوجود، وأنه لا يَنبغي أن يكون خاضعاً إلا للسيد الأعلى، وألا يستعظم إلا ربَّه، فغرس في نفوس الخلائق معنى الله أكبر، فكان بذلك قاضياً على ما استفاض بين الأمم والشعوب من خضوع فريق لفريق، واستعباد ناس لناس، واستبداد إرادة بإرادة، دون مبرر لكل ذلك سوى الزعم الباطل بأن بعضهم أرقى عنصراً وأكرم أصلاً من بعض، وأحق أن يطاعوا في كل ما يشاءون، وأنَّ البقية يجب عليهم الخنوع والذلة والطاعة لأنهم لا يصحُّ لهم أن يَتَساموا إلى مراتب ساداتهم، فجاء الإسلام بمبدأ الله أكبر، فغرس في النفوس أنه لا كبير إلا وفوقه أكبر منه، وأن هناك من هو أكبر من كل كبير سبحانه،، ومهيمن على الصغير والكبير، ولا تفاوت بين الناس يوجب هذا التقديم والتأخير، فالناس لآدم وآدم من تراب، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالأعمال الصالحة، والآثار النافعة، وما يكون منهم من عمل يقربهم إلى ربهم.
وذلك تهذيب نفوسهم، وتمجيد خالقهم، والعطف على سائر الناس، وإيصال النفع للخلائق، وأمثال ذلك من أسباب التقوى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {الحجرات:13}.
فسرت هذه الروح في الأمم والشعوب فتنبَّه الإنسان إلى حقوقه في مشارق الأرض ومغاربها، فبعد أن كان الجزء المعروف من الأرض يتقاسمه دولتنا هما فارس والروم، فتنشر كل منهما في أرضها من صنوف الإرهاق والظلم ما عود الناس الاستكانة والذلة، نفخت هذه الروح روح المساواة في الإنسان، فتراجع الأقوياء، وسلموا بهذا المبدأ الحق، فانتفع بذلك كل الناس ولو لم يدينوا بالدين الحنيف دين الإسلام.
فترون من هذا أن يُمن هذا الدين قد لحق حتى الكافرين، فحقٌّ على الجميع لو أنصفوا وقدروا ما أصابهم من خير أن يشتركوا في تمجيد هذه الذكرى أجمعين.
إنَّ ذكر الهجرة وأسبابها، والوقائع التي حصلت فيها، والنتائج التي ترتبت عليها أمر قد استفاضت به كتب السير والتاريخ، وقد سمع مراراً وتكراراً، فلم أرَ كبير داع للتحدث فيه، وإنما أشير إلى أمر واحد:
 وهو أنَّ المسلمين في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأوا أن بعض الكتب يجيء متقدماً وبعضها يجيء متأخراً، وأن الحوادث تتوالى وتكون مذكورة بترتيبها في ذهنهم إبان حدوثها فإذا مضى عليها طويل وقت ضاعت معالم ترتيبها، وجدوا أنفسهم بحاجة شديدة إلى وضع تاريخ يضبط لهم زمان الحوادث والكتب، فتشاورا بينهم في أمر يجعلونه مبدأ للتاريخ وتعرف أوقات الحوادث بنسبتها إليه، فذكروا جملة حوادث عظمى كمولده صلى الله عليه وسلم، وبعثته، والبدء بالدعوة والجهر بها، والإسراء به صلى الله عليه وسلم، ووفاته، وذكروا فيما ذكروا هجرته عليه السلام إلى المدينة المنورة...
فنظروا وإذا بها مبدأ انهزام الباطل أمام الحق، وارتفاع كلمة الله، وأول عهدهم باعتزاز الإسلام، وتبوئه المقعد المرجو له والجدير به، نظروا وإذا بهم قد أصبحوا يدعون عباد الله إلى دينه جهاراً، لا يخشون معارضة ولا استنكاراً.
نظروا وإذا بهم قد أصبحوا طلقاء بعد التقييد، أحراراً بعد الأسر أو ما هو أشد من الأسر، أعزاء بعد الذلة، منصورين بعد الهزيمة، فكان هذا اليوم أحب الأيام إلى قلوبهم، وأروعها أثراً في نفوسهم، وأظهرها تأثيراً في حياتهم، وأي يوم أعظم من يوم الانتصار؟.
ما كانت الغزوات التالية والانتصار فيها إلا أثراً من آثار الهجرة، وما كانت الحوادث التي قبل الهجرة على عظمتها مؤتية ثمرها لولا الهجرة، فلتكن الهجرة هي مبدأ التاريخ الإسلامي، وما أجردها أن تكون مبدأ التاريخ العالمي، لما حوته من كمال وصول الرحمة من الله إلى عباد الله، وسلامة الطريق من قطاع الطريق.
وإنَّه ليحق لنا وقد وصل بنا الكلام إلى تكرار ذكر الرحمة التي جاءت بها الشريعة الغراء أن نشير إلى آثار رحمته تعالى بالمؤمنين في هذه الشريعة المطهرة، وعظيم نعمته عليهم في هدايته التي تخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
 المصدر: مجلة نور الإسلام، ربيع الأول 1351هـ، العدد الثالث والعشرين بتصرف يسير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين