الدولة المقدسة

 

يطلق مصطلح الدولة المقدسة على الدولة الدينية في الفكر السياسي وذلك من جهة كونها ترى أن قراراتها تكتسب القداسة التي لا يجوز المساس بها، وأنها صادرة بالتفويض الإلهي، والقداسة في أصلها اللغوي تعني التنزه عن العيوب والنقائص([1])، وهي صفة المعصومين من البشر.

 

فهل يمكن أن تكون دولة ما أو نظام ما دولة مقدسة؟ وهل يمكن أن تكون معصومة من الخطأ والزلل؟

 

يرى الدكتور محمد عمارة أن الدولة الدينية ترى في نفسها أنها دولة مقدسة([2])، أي: أنها ترى أن رأيها السياسي دين، وأنها تجعل المفاصلة بينها وبين مخالفيها مفاصلة بين الكفر والإيمان، وليس بين الصواب والخطأ.

 

وقد حاول أحد الباحثين أن يضع تعريفًا لـ”الدولة الدينية” فقال: “هي الدولة التي يحكمها رجال الدين، أو يحكمها حاكم يرى في نفسه القداسة والحق في الحكم باسم الله”([3]).

 

وقد حاول العلمانيون لصق هذه التهمة بالدولة في الإسلام، ونقلوا الصراع الذي كان محتدمًا في الغرب بين الكنيسة والملوك إلى الإسلام.

 

أصبح مصطلح الدولة الدينية محمّلاً بمعان لا تحتملها اللغة، ولا ترتبط بالمشروع الإسلامي، ولكن تم صياغته لتكوين صورة سلبية عن المشروع الإسلامي

وهذا الصراع بين السلطتين الروحية والزمنية لم يكن موجودًا من الأساس في الإسلام. وأي داع لدولة تحكم على أساسٍ من الشريعة تتهم مباشرة بأنها دولة دينية، وهو -بحق- مصطلح “تمت صياغته لإخافة الناس من الحركة الإسلامية، رغم أن التعبير باللغة العربية لا يعني سوى الدولة التي تستند لمرجعية الدين، في مقابل الدولة غير الدينية التي لا تستند لمرجعية الدين.

 

ولكن تم إلحاق تعبير الدولة الدينية بمعنى الدولة الثيوقراطية، والتي تقوم على الحكم بالحق الإلهي المطلق، حيث يزعم الحاكم أنه يحكم نيابة عن الله، وأنه مفوض منه.

 

والدولة الدينية بهذا المعنى لا توجد أصلاً في الإسلام، وهي نموذج غريب على الخبرة التاريخية الإسلامية.

 

لذا أصبح مصطلح الدولة الدينية محمّلاً بمعان لا تحتملها اللغة، ولا ترتبط بالمشروع الإسلامي، ولكن تم صياغة هذا المصطلح لتكوين صورة سلبية يتم إلصاقها بالمشروع الإسلامي، حتى يحاصر بمعان سلبية، وتدخل الحركات الإسلامية في دائرة الدفاع عن مشروعها”([4]).

 

والدولة صناعة بشرية اجتهادية، يعتريها الخطأ والنقص والمعايب، وقد كان رسول الله ? -وهو رئيس الدولة ونبي الأمة- يعلّم أمته الشورى فيقول لأصحابه: “أشيروا علي“.

 

وقد علم الصحابة في أي المواضع يتكلمون، فإن كان وحيًا ما كان لهم أن يقدموا بين يدي الوحي، وإن كان أمرًا لم ينزل فيه الوحي أبدوا رأيهم ومشورتهم.

 

فهذا الحباب بن المنذر رضي الله عنه يقول لرسول الله ? في اختيار الرسول لموقعهم في بدر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟

 

قال: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة“([5]).

 

ولم يعرف الإسلام قدسية لأحد بعد رسول الله ? فمن حكم فعدل فله الطاعة، ومن غيّر وبدّل وظلم ولم يسر بسيرة العدل فقد فسخ العقد الذي بينه وبين الرعية.

 

وهذا الذي فهمه أبو مسلم الخولاني؛ إذ إنه عندما دخل على معاوية بن أبي سفيان t قال: “السلام عليك أيها الأجير.

 

فقال الناس: الأمير يا أبا مسلم.

 

ثم قال: السلام عليك أيها الأجير.

 

فقال الناس: الأمير.

 

فقال معاوية: دعوا أبا مسلم هو أعلم بما يقول.

 

قال أبو مسلم: إنما مثلك مثل رجل استأجر أجيرًا فولاه ماشيته، وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية ويوفر جزازها([6]) وألبانها، فإن هو أحسن رعيتها ووفر جزازها حتى تلحق الصغيرة وتسمن العجفاء أعطاه أجره، وزاد من قبله زيادة.

 

وإن هو لم يحسن رعيتها وأضاعها حتى تهلك العجفاء وتعجف السمينة ولم يوفر جزازها وألبانها غضب عليه صاحب الأجر فعاقبه ولم يعطه الأجر.

 

فقال معاوية: ما شاء الله كان”([7]).

 

وإذا كانت الدولة في الإسلام دينية مقدسة لما خرج الحسين بن علي u على يزيد بن معاوية في دولته، والكثير من الثوار الذين لم يرتضوا الظلم على مدار التاريخ.

 

لم يعرف الإسلام قدسية لأحد بعد رسول الله ? فمن حكم فعدل فله الطاعة، ومن غيّر وبدّل وظلم ولم يسر بسيرة العدل فسخ العقد الذي بينه وبين الرعية

ولما تكلم العلماء في عزل الحكام، وقد ذكر ذلك الفاروق عمر t حينما أتاه رهط فقالوا: كثر العيال، واشتدت المؤونة، فطلبوا الزيادة في أعطياتهم.

 

فقال: فعلتموها، جمعتم بين الضرائر، واتخذتم الخدم في مال الله U!

 

أما والله لوددت أني وإياكم في سفينتين في لجة البحر تذهب بنا شرقًا وغربًا، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جنف قتلوه.

 

فقال طلحة: وما عليك لو قلت: إن تعوج عزلوه؟!

 

فقال: لا، القتل أنكل لمن بعده([8]).

 

فأي فهم فهمه عمر، وأي سنة استنها!

 

فالسلطة للأمة على الحاكم والنظام، “وقد سبقت الشريعة الإسلامية بنظريتها كل القوانين الوضعية في تقييد سلطة الحاكم، وتعيين الأساس الذي تقوم عليه علاقة الحاكمين بالمحكومين، وفي تقرير سلطان الأمة على الحكام”([9]).

 

والقداسة للأمة وليس للأنظمة، فإذا وقع الظلم فلا قُدِّست الأمة ولا الدولة، قال رسول الله r: “إِنَّهُ لاَ قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لاَ يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ“([10]).

 

---------------------

([1]) انظر: لسان العرب، مادة (قدس).

([2]) من حوار له على “الجزيرة مباشر مصر”، بتاريخ 9 مارس 2012م.

([3]) رفيق حبيب: مقالة بعنوان: البحث عن ديمقراطية عسكرية.

([4]) رفيق حبيب: مقالة بعنوان: مصطلح الدولة الدينية تشويه علماني للحركة الإسلامية.

([5]) سيرة ابن هشام، (1/620).

([6]) الجُزَازُ: صوف النعجة أَو الكبش إِذا جُزَّ فلم يخالطه غيره. [لسان العرب، مادة (جزز)].

([7]) أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1405هـ، (2/125).

([8]) تاريخ الطبري، (3/280-281).

([9]) عبد القادر عودة: التشريع الجنائي في الإسلام، (1/318).

([10]) أخرجه ابن ماجه في “الصدقات”، باب: “لِصَاحِبِ الْحَقِّ سُلْطَانٌ”، ح(2426)، وقد صححه الألباني في “صحيح سنن ابن ماجه”.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين