الدعوة والدعاة تأملات في قول الله تعالى:(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ...)

عناصر البحث:

1- الجمهور المستهدف من هذا البحث.

2- مقدمة: أهميَّة الدعوة إلى الله وفضلها.

3- ترك الدعوة موجب للهلاك.

4- مفهوم الحكمة في الدعوة.

5- مفهوم الموعظة الحسنة في الدعوة.

6- مفهوم المجادلة بالتي هي أحسن.

7- من صفات ومقومات الداعية الناجح.

1-الجمهور المستهدف من هذا البحث:

◄ رسالتي هذه موجهة إلى طالب العلم الذي بدأ يتلمس طريق الدعوة إلى الله على علم وبصيرة، وهو يحاول أن يسير على هدي الأنبياء في دعوتهم، والعلماء الأتقياء الربانيين في منهجهم.

◄كذلك هي للدعاة خير معين، فتنير لهم جوانب لم ينتبهوا لها، فتزيد من إصراهم رغم طول الطريق ومنعرجاته؛ لتنتشر الدعوة السَّمحة المباركة، وتعمَّ الهداية، ويعودَ للدين دورُه، وللمسلمين مجدُهم.

◄ كما هي إلى الشباب المتحمّس الغيور على دينه الذي يريد أن يكون شعلة إيمان يُستنار بها، لكنه يخشى من العثرات والمعوقات التي قد تحرف بوصلته عن الطريق القويم والصرط المستقيم.

◄هي في النهاية مذاكرة وتذكير بما يعين -بعد توفيق الله-للمضي قُدُمًا في الدعوة إلى الله والثبات في سلك الدعاة، واللهَ أسألُ أن ينفع بها الكاتبَ والقارئَ والسامعَ والناشرَ.

مقدمة:

2-أهميَّة الدعوة إلى الله وفضلها:

مما لا شكَّ فيه إنَّ أفضلَ وخير ما تصرف فيه الجهود وتبذل فيه الطاقات هو نشر دين الله تعالى وبيانه للناس، ومن أعظم هذه الوسائل التي تستخدم في نشر هذا الدين هو الدعوة إلى الله تعالى، التي هي:

أولاً: مهمة الرُّسلِ والأنبياء الذين هم خيرةُ الله من عباده، وسفراؤُه إلى خلقه.

ثانياً: هي مهمة خلفاء الرّسل وورثتهم من العلماء العاملين، والربانيين الصادقين، وهي أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى؛ لأن ثمرتها هداية الناس إلى الحق، وتحبيبهم في الخير والبرّ، وتنفير هم من الباطل والشر، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة فُصِّلت: 33 ]. والمعنى: لا أحد أحسن قولاً، وأعظم منزلة، ممن دعا غيره إلى طاعة الله تعالى، وإلى المحافظة على أداء ما كلفه به، فتكون كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تُقال في الأرض، وتصعدُ في مقدمة الكَلِم الطّيب إلى السماء، ولكن بلا ريب مع العمل الصالح الذي يُصدّق الكلمة، فيجعل المدعوين يزدادون استجابة له.

ولعظم شأنها كان جزاء القائمين بأمرها عظيماً، وكان العطاء جزيلاً، قال صلى الله عليه وسلم: «واللهِ لأن يُهدَى بهُداكَ رجلٌ واحدٌ خَير لَكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ» [سنن أبي داود برقم: 3661].

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا » [صحيح مسلم برقم: 2674].

وقال صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ». [المستدرك على الصحيحين برقم: 6537].

فالدعوة إلى الله أهميتها عظيمة لا تخفى على أحد، فمتى التزمت الأمة بها صارت أمة متكاملة

البناء، وتحقّقَ لها الخيرُ العظيم الذي بيَّنه ربنا جل جلاله بقوله: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ..} [ سورة آل عِمرَان: 110 ] ولا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله تعالى، هو من أسمى مقومات الدعوة إلى الله تعالی.

3-ترك الدّعوة موجب للهلاك:

ولما كانت الدعوة إلى الله تعالى هي سفينة النجاة الأخيرة للأمة كان ولا بُدَّ من وقوعها على أفراد من هذه الأمة وهو ما يُعبِّر عنه أهل الأصول بفروض الكفايات، فإذا تعطل هذا الفرض الكفائي أثمت الأمة جميعاً، وإذا فرغَ المجتمعُ من دعاةٍ إلى الله مرشدينَ إلى دينِه؛ آل هذا المجتمع إلى بناءٍ تهاوت دعائمهُ، فيتهاوى هو الآخرُ من وراءِ ذلك، كيفَ لا؟! وإنَّ ربّنا جلَّ جلالهُ ليقول: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [سورة آل عِمرَان: 104] أي: ولتكن منكم أيها المؤمنون طائفة متميّزة تقوم بالدعوة إلى الله، فتبذل أقصى طاقتها وجهدها في الدعوة إلى الخير الذي يصلح من شأن الناس، وفي أمرهم بالتمسك بتعاليم الإسلام وأخلاقه السَّمحة، وفي نهيهم عن المنكر الذي يأباه شرع الله ويمقته.

فإذا أهملت هذه الدعوة واستطاع أهل الباطل أن يَدكُّوا بمعاول باطلهم سفينة النجاة، فلم يُؤخَذ على أيدهم وتُكْسَر معاوِلُهم، فإنَّ الغرق سيُهدّد المجتمعَ بأكمله. قال صلى الله عليه وسلم قال: « إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخلَ النَّقصُ عَلى بَنِي إِسرائيلَ أَنهُ كَانَ الرَّجلُ يَلقَى الرَّجلَ فيَقولُ: يَا هذَا! اتِّقِ اللهَ ودَعْ مَا تَصنعُ فَإنهُ لاَ يَحلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلقاهُ مِنَ الغَدِ فلاَ يَمنعهُ ذلكَ أنْ يَكونَ أَكيلهُ وشَريبهُ وقَعيدهُ، فلمَّا فَعلُوا ذلكَ ضَربَ اللهُ قُلوبَ بَعضهمْ ببَعضٍ». قال الله تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ثم قال: « كلاَّ واللهِ لتأمُرنَّ باِلمعروفِ، ولتَنهونَّ عنِ المُنكرِ، ولتأخُذنَّ عَلى يَدِ الظَّالمِ،

وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا أَوْ ليَضربنَّ اللهُ بقُلوبِ بَعضكمْ عَلى بَعضٍ، ثُمَّ يلْعنكمْ كَمَا لَعنهمْ». [أخرجه أبو داود والترمذي].

4-مفهوم الحكمة في الدعوة:

بما أن الدعوة إلى الله عز وجلَّ هي مهمة الرُّسلِ والأنبياء وورَثَتُهم من العلماء العاملين، والربانيين الصادقين، وخُلَّص عباده المؤمنين، كان من الطبيعي أن تكون دعوتهم مقترنة بالحكمة التي تُرغِّب وتجذبُ المدعوين إلى تلك الرسالة التي يُدعون لها، فتتغير طباعهم، وتعتدل مسالكهم، ويصح توجيههم.

ولذلك كان النداء الإلهي بهذا الأسلوب الرفيق الحاني: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن...). [سورة النحل: 125]

أي: ادع الناس إلى دين ربك وشريعته بالقول المُحْكَم الصحيح الموضِّح للحق، المزيل للباطل، مع تلطف ولين، بعيداً عن المخاشنة والتعنيف؛ ليقع في النفس أجمل موقع.

وأضاف-سبحانه-السبيل إليه؛ للإشارة إلى أنه الطريق الحق، الذي من سار فيه سعد وفاز وأفلح ونجح، ومن انحرف عنه شقي وخسر.

وأصل الحِكْمة مأخوذ من الحكَمَة – بفتح الكاف والميم – وهو ما يوضع للدابة من حديدة بحنكها كي يُذلّلها راكِبُها فيمنَعُ جِمَاحَها. ومنه اشتقت الحِكْمَة قالوا: لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل. (المصباح المنير 1 / 200)

وأجمل وأصح ما قيل في تعريف الحكمة: "أنه وضع الشيء في محله" [فتح الباري للحافظ ابن حجر 7/205].

والحكمة: مفتاح القلوب، وطريق ميسَّر إلى النفوس، بل هي نور يقذفه الله -سبحانه وتعالى-في قلب العبد على قدر تضحيته وثباته، وهي عطاء من الله عز وجل بعد أخذ الأسباب. قال الله سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُف} [سورة يوسف آية 76] أي: علمناه الحكمة بوضع صواع الملك في

وعاء أخيه ويبدأ بالتفتيش بوعاء الآخرين، فمن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، ومن حُرِمَها فقد حُرِم خيراً كثيراً.

والحكمة -بلا شك-تحتاج إلى تمرين وتدريب وتعليم وصحبة ممن سبقوا وجالوا في ميدان الدعوة إلى الله، وتحتاج إلى دراسة وتحليل لحياة الأنبياء -عليهم السلام-في الدعوة إلى الله، وكذلك أتباع الأنبياء -عليهم السلام-.

أما في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-ففيها الكثير من مواقف سادت فيها الحكمة، والأمثلة كثيرة اخترت لكم منها واحدة:

فها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-حين قسم غنائم حنين قسَّمها في المهاجرين من الطلقاء، ولم يُعط الأنصار شيئاً، فوجد بعض الأنصار في نفوسهم من ذلك شيء، وقالوا: إذا كانت الشدائد فنحن نُدعى، ويعطي الغنيمةَ غيرنا.

وهنا تجلت حكمة رسول الله في حلّ هذا الموقف العصيب، الذي قد يكون سبباً لتباغض وشق الصف..

تأملوا حكمة رسول الله في هذا الموقف الجليل الذي يحتاج لتدخل وحلٍّ سريع..!

بلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأرسل إلى الأنصار فاجتمعوا في مكان أُعد لهم، ولم يدعُ معهم أحداً غيرهم، ثم قام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:

«يا معشر الأنصار، مَا قَالَةٌ بلغتني عنكم؟! ألم آتكم ضُلاّلاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألّفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي»، (كلما قال لهم من ذلك شيئاً قالوا بلى، اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ)، ثم قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟» قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنُّ والفضل. فقال صلّى الله عليه وسلم: « أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ: أتيتنا مُكذّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك»، فصاحوا: بل المنُّ علينا لله ورسوله.

ثم تابع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائلاً: «أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم من أجل لُعَاعَةٍ -اللعاعة: بقلة خضراء تستهوي العين، شبّه بها الدنيا-من الدنيا تألّفت بها قوماً ليسلموا،

وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، والذي نفس محمد بيده لولا الهجرة

لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكتُ شعب الأنصار. وإنكم ستلقون أثرة من بعدي فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، اللهمَّ ارحمِ الأنصارَ وأبناءَ الأنصارِ وأبناءَ أبناءِ الأنصار». [رواه البخاري ومسلم، وابن إسحاق، وابن سعد، بنصوص متقاربة في الزيادة والنقصان.]

فبكى القوم حتى اخضلّت لحاهم، وقالوا رضينا بالله ورسوله قَسْمًا وَنَصِيبًا». [رواه البخاري ومسلم بألفاظ متقاربة].

لقد أراد الشيطان بجماعة من الأنصار أن يتصوروا أن النبي صلّى الله عليه وسلم قد أدركته محبة قومه وبني وطنه فنسي في جنبهم الأنصار!

لكن حكمة رسول الله في دعوته، وحكمته في خطابه استطاع أن يُذهب عنهم هذه الوساوس، فقال كلمات تفيض بمعاني الرّقة والذوق الرفيع، ومشاعر المحبة الشديدة، ولقد لا مست هذه الرّقة والخفقات مشاعرهم فهزتها هزاً، ونفضت منها ما كان قد علق بها من الوساوس والهواجس، فارتفعت أصواتهم بالبكاء فرحاً بنبيِّهم، وابتهاجاً بقسمتهم ونصيبهم.

وهكذا شأن من يحمل لواء الدعوة إلى لله لا بُدَّ أن يكون حكيماً فطناً لكل حَدَث، يتحلّى دائماً بطول الأناة والصبر، وبذلك يجني ثمرة سعيه وجهاد نفسه في سبيل تثبیت دعائم الحق وهداية الناس بالتي هي أحسن، لذلك قال تعالى: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا..} [ سورة البَقَرَة: 269 ] لأن الإنسان إذا أوتي الحكمة يكون قد اهتدى إلى العلم النافع، فيكون سراجاً منيراً لكل من انحرف عن طريق الجادة الصحيحة؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم: « لَا حَسَدَ - أي لا غبطة- إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا ». [متفق عليه]

5-مفهوم الموعظة الحسنة في الدعوة:

هي النصح والتوجيه والتذكير بالعواقب بأسلوب لطيف محبّب، وبطريقة مقبولة وكما أن الحكمة في القول مطلوبة، فإن الموعظة أسلوب من أساليب حكمة القول، وقد وردت إشارات إلى تطبيقات الموعظة في آیات عديدة، من ذلك ما ساقه الأنبياء لأقوامهم ينذرونهم ويحذرونهم خشيةً عليهم من العذاب:

فهذا شعيب يقول لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } [ سورة هُود: 84 ]

فقد ناداهم متحبباً إليهم بقوله: {يا قوم}: أي يا عشيرتي أنا منكم وأنتم مني..!، وبعد أن جذبهم إليه بهذا النّداء الحاني بدأ بدعوتهم إلى توحيد الله وعبادته والاستقامة على أمره، واختتم نُصحه بعبارةٍ لطيفة تجذب القلوب وتهزّه هزاً عنيفاً فقال لهم: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ..، وهل يخاف عليك إلا من أراد الخير والسعادة لك...؟! "وإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ" فأنا أشفق عليكم وأخشى أن يَحِلَّ بِكم عذابُ يومٍ يُهلككم جميعاً في الدنيا، ويحيط بكم في الآخرة.

كيف طبَّق النبي صلى الله عليه وسلم الموعظة الحسنة في دعوته

ولننظر لهذا المشهد الجليل الذي يرسم للداعية المنهج القويم في دعوته..، بينما هو جالس ذات يوم بين كوكبة من أصحابه الكرام إذا بشاب يدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ونار الشهوة تتأجج في أضلاعه، والغريزة الجنسية قد تغلّبت على نفسه وعقله وقلبه. ويقول بأعلى صوته: يا رسول الله " اِئْذَنْ لِي بِالزِّنَا، اِئْذَنْ لِي بِالزِّنَا "، يالها من كلمة..!! كيف َجرُؤَ الشاب أن يُقدِم على قولها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كيف تجرَّأ أن يُقدِم على قولها بين يدي قائد المسلمين ورسول رب العالمين؟! ثار الجالسون..، غضب الصحابة الكرام، همّوا بزجره وطرده.. لكن صاحب الخلق العظيم قال لهم: دعوه وخلّو بيني وبينه، وقال للشاب: "اُدْنُ يا هذا" أي: اقترب.

تعال إلى جوار من قال فيه ربّه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) فأدناه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرَّبه. وقَالَ له برفق ولين يا هذا:

«أَتُحِبُّهُ لأِمِّكَ؟» قَالَ: لَا وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لأِمَّهَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَالله يَا رَسُولَ الله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ»،

قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لأِخْتِكَ؟» قَالَ: لَا وَالله، جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لأِخَوَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ»، قَالَ: «أفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟» قَالَ: لَا وَالله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُّحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ».

وإذا بالحبيب يمد يده الشريفة الكريمة التي ملئت رحمة وعطفاً وحناناً وخوفاً على صدر ذلك الشاب ويدعو الله قائلاً: «اللَّهمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ» [مسند الإمام أحمد بن حنبل 36/ 545].

ثلاث دعوات مباركات تَفَتَّحَتْ لها أبواب السماوات. ثلاث دعوات نحن بحاجة أن نصدقَ الله في دعائنا بها لشبابنا وبناتنا، فتلهج الألسن مع القلوب صباح مساء إلى ربِّ الأرض والسماء بأن يغفر الله ذنبهم وأن يطهِّر قلوبهم، وأن يحصن فروجهم.

فقام الشاب من بين يدي رسول الله وهو يقول: "والله ما برحت مكاني إلا وكان الزنا من أبغض الأشياء إلى قلبي "

نعم إنها أثر الموعظة الحسنة الرفيقة الرقيقة في القلوب، أما الشّدة والغلاظة في الدعوة فهو تقَسِّي القلوب، وتَسُدُّ طرق الهداية، بل ربما كان الداعية بأسلوبه سبب شقاية لا هداية. كما قال النبي: "إنَّ منكم مُنَفِّرِين " [صحيح البخاري برقم: 672]

6-مفهوم المجادلة بالتي هي أحسن:

يعني الجدل في القرآن الكريم المحاورة لإظهار الحق، فقد يضطر الداعي في موقفه أمام خصمه العنيد إلى استعمال الحجج المقنعة والمجادلة المفحمة، فالجدال لم يكن مسلكاً مقصود بذاته، ولكن قد يضطر له الداعي عندما يكون الخصم مشاغباً، فالجدال إذن لا يكون إلا بقدر الحاجة، والإرشاد القرآني أن يكون الجدال بالتي هي أحسن، فقوله-تعالى-: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} هي بيان

لوسيلة ثالثة من وسائل الدعوة السليمة. أي: وجادل المعاند منهم بالطريقة التي هي أحسن الطرق وأجملها، بأن تكون مجادلتك لهم مبنيّة على حسن الإقناع، وعلى الرفق واللين وسعة الصدر فإن ذلك أبلغ في إطفاء نار غضبهم، وفي التقليل من عنادهم، وفي إصلاح شأن أنفسهم، وفي إيمانهم بأنك إنما تريد من وراء مجادلتهم، الوصول إلى الحق دون أيّ شيء سواه.

وقد وردت "للمجادلة" ألفاظٌ مرادفة كالمحاجة والمخاصمة، فإن كانت الغاية حقاً كان الجدال محموداً، وإلا كان مذموماً، فالغاية هي التي تُفرّق بين الجدال المذموم والمحمود. والوسيلة إن كانت حسنة كان الجدال محموداً، وإلا كان مذموماً.

صورة حيّة من السيرة النبوية رسمت معنى المجادلة بالتي هي أحسن:

ومن الوقائع العملية في تطبيق معنى المجادلة بالتي هي أحسن التي أرشد إليها القرآن الكريم، مجادلة النبي-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-وحواره لرجل من سادات قریش، فبعد أن أدرك زعماء قریشٍ فشلهم في مختلف الأساليب التي منها عرضهم على سيدنا محمد -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- الملك والمال والسلطان والجاه، أرسلوا إليه أحدهم وهو عتبة بن ربيعة، وكان سيَّد قومه، فجاء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فكلمه واستعمل معه كل وسائل الإغراء بأسلوب مؤثر، ورسول الله -عليه الصلاة والسلام-يسمع لقوله، دون أن يقاطع حديثه، أو يقسو عليه منتهجاً الحكمة والموعظة الحسنة في مناظرته، حتى إذا ما فرغ عتبة من كلامه، قال له - عليه الصلاة والسلام -: « أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟» قال: نعم. قال -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:

«فَاسْتَمِعْ مِنِّي».

بسم الله الرحمن الرحيم

{ حم (1) تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)} [سُورَةُ فُصِّلَتْ].حتى انتهى إلى آية السجدة فسجد، ثم قال: « قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْتَ وَذَاكَ». فقام عتبة إلى قومه، فقال بعضهم لبعض: نحلف

بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به! فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش: أطیعوني، واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل، وبين ما هو عليه، فاعتزلوه، فو اللهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، قالوا: سَحَرَكَ وَاَللَّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ، قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. [ السيرة النبوية لابن هشام 1/262]

كما أن الصحابة الكرام-رضي الله عنهم - اتبعوا في دعوتهم ذات أسلوب اللين والرفق والحلم والصبر، تجاه المستضعفين المسالمين، فنالوا بذلك ثقتهم، وبادرت جماهيرهم إلى اعتناق الإسلام طواعية، وذلك من خلال ما لمسوه لديهم من حسن المسلك، ونقاوة السيرة، وما يتفق مع العقل والمنطق.

ما كان الإسلام ليقر مبدأ التعسّف لنشر دعوته ولا التضليل بالناس والتغرير بهم، وإنما جاء ليناصب العداء للرذائل ويمحو الزيف والبطلان، فالغاية الطيبة تستلزم دون شكٍ الوسيلة الطيبة.

أهداف الحوار ومقاصده:

1- الدعوة: فالحوار الهادي مفتاح القلوب، وطريق مُيسَّر إلى النفوس.

2-تقريب وجهات النظر: فمن ثمرات الحوار: تضييق هوة الخلاف، وتقريب وجهات النظر، وإيجاد حَلٍّ وسط يُرضي الأطراف في زمن كثر فيه التباغض والتناحر.

3-إقامة الحجة: فالغاية من الحوار إقامة الحجة، ودفع الشبهة والفاسد من القول والرأي،

والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق.

4 -کشف الشبهات والرد على الأباطيل، لإظهار الحق وإزهاق الباطل، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام: 55 ].

7-صفات ومقومات الداعية الناجح:

لابُدَّ للداعية إلى الله من أن يَتحلّى بصفاتٍ تميّزه عن غيره، حتى يكونَ له الأثرُ النافعُ الناجعُ في المجتمع، هذه الصفات إن تحقّقت في الداعية إلى الله كانت نصيحته مسموعة محفوظة، يستطيع بكل يُسر حمل الناس على تغيير تصوراتهم وقناعاتهم من جهة، ثم حملهم على تغيير سلوكهم وأنماط حياتهم من جهة أخرى طوعاً لا كرهاً. وسأذكر أهم الصفات وأبرزها:

1-أن يكون مخلصاً صداقاً في نفسه وفي دعوته:

فهو لا يريد بدعوته رياءً ولا سُمعةً ولا ثناءً ولا مدحاً من أحد، وإنما يريد بلوغ رضا الله عز وجل، ولهذا فإن الداعية المخلص لا يكون همّه كثرة أتباعه أو ذيوع صيته أو نحو ذلك، وإنما همّه وكدّه هداية الناس لمنهج الله ومنهج رسوله؛ ليكون لهم الفلاح والنجاح في الدنيا قبل الآخرة.

فهو إذن يعمل لله لا ينتظرُ مدحَ أحد ولا ثناء أحد، ها هو رجلٌ يأتي إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-ويقول يا حبيب الله، «إني أَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ وَأَلْتَمِسُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لِي خَيْرٌ، وقبل أن يُجيبَ المصطفى نَزَلَ جبريل بقوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } » [أخرجه الإمام هناد بن السري في الزهد عن مجاهد].

وكان من وصية النبي -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لمعاذ بن جبل -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ-عندما أرسله إلى اليمن داعياً:« أَخلصْ دِينكَ يَكْفِكَ القليلُ مِنَ العملِ» [الحاكم في المستدرك على الصحيحين برقم: (7844)]

2- أن يمتلك الزاد العلمي الضروري:

فلا بُد للداعية إلى الله عز وجلَّ من التّسلح بالعلم الشرعي الضروري، حتى يدعو إلى الله بعلم وبصيرة، فمن تكلم فيما لا يعلم كان إفساده أكثر من إصلاحه، وهدمه أعظم من بنائه، يقول الله تعالى مبيّناً نهج النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه من بعده في الدعوة إليه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي..}[ سورة يوسف: 108 ]

والبصيرة: هي العلم والمعرفة التي يتميّز بها الحق من الباطل؛ ببصيرة مستنيرة، وحجة واضحة.

إذن يشترط في الداعية إلى الله أن يكون على علم، يعلم به أن ما يأمر به معروف، وأن ما ينهى عنه منكر؛ لأنه إن كان جاهلاً في الأحكام الشرعية العامة فقد يأمر بما ليس بمعروف، وينهى عما ليس بمنكر، وهذا ما يغفل عنه كثير من الجماعات اليوم فإن كثيراً من الجماعات اليوم التي دخلت في هذا

المضمار، بل دخلته من أوسع أبوابه قد نسيت وتناست السِّلاح المهم، وهو العامل الأقوى والأمضى الذي هو العلم.

وهذه ركيزة هامة لكل من نذر نفسه للدعوة إلى الله، فكم سمعت من أُناسٍ دفعهم حبّهم للدين والقيام بهذه الشعيرة؛ لكنهم لم يتعلموا العلم الشرعي الضروري فوقعوا في الطامات، وأساؤوا من حيث أردوا أن يحسنوا.

يرحم الله الشيخ محمد الغزالي عندما كان يقول: " إن انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متدينون بغضوا الله إلى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم"

وأذكر مرة أنني قلت لأحد الشباب المقصرين بصلاتهم بعد موعظة حسنة؛ لِمَ تُقصر في صلاتك..؟! فقال لي: عملي لا يسمح لي بالخروج لوقت كل صلاة، وقد قال لي أحد الناس: لا تصح صلاتك إلا في المسجد. قلت له، هذا الكلام غير دقيق.. فصلاتك حيثُ كنت؛ في معملك، في محلك، في رِحلتك، صحيحة كاملة كما ذهب إليه جمهور الفقهاء -رحمهم الله- لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ »[ صحيح البخاري برقم: 328] وينقصك فقط أجر الذهاب إلى المسجد..

ففرح الشاب فرحاً كبيراً...، وكأني أزلت له عقبةً كؤود من طريقه، وقال لي: "عهداً عليَّ لن أترك الصلاة بعد اليوم إن شاء الله".

3-أن يتحلى برحابة الصدر والرفق بالمدعو:

فالداعية الناجح هو الذي يرفق بالمدعوين، فيستخدم في دعوته أرق أسلوب وأنجعه متحلّياً بالحكمة والموعظة الحسنة وحسن المعشر والمخالطة؛ وذلك ليستوعب الداعية من حوله من الناس، فإنه كما جاء في الأثر: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن تسعوهم بأخلاقكم ".

وللناس مطالب كثيرة، وتساؤلات عديدة، تحتاج من الداعية إلى الاحتمال؛ وسعة الصدر، وهذا له أثر عميق في قلوب من يدعوهم، فهذا رجل جاء إلى أبي إسحاق الشيرازي -فقيه الشافعية في عصره-فجالسه ثم قال: ".. فشاهدت من حسن أخلاقه ولطافته وزهده، ما حبّبَ إلىَّ لزوم صحبته فصحبته إلى أن مات". [سير أعلام النبلاء 18/461]

4- أن يبدأ بالأهم فالأهم:

فلا بُدّ للداعية من أن يهتم في دعوته بالأولويات والأساسيات، ففقه الأولويات ضرورة شرعية وتعليمية ودعوية، فالداعية لا ينجح في دعوته ولا يكون موفقًا في تبليغه، حتى يعرف ماذا يقدم لمن يدعوهم، وماذا يؤخر، وما القضايا التي يعطيها أهمية وأولوية قبل غيرها.

وأذكر مرة موقفاً لا أنساه أبداً فقد كان أثره في نفسي عميقاً وفهمت من خلاله مدى أهمية الأولويات في الدعوة إلى الله...، فبينما كنت أجلس ذات يوم مع أحد الدعاة بعد خطبة الجمعة إذا بشاب يأتي متردداً خجلاً يقدم رجلاً ويؤخر أخرى!، فقال له: تعال يا بنيَّ أقبل ولا تترد...ما حاجتك؟!-

قال يا سيدي: سمعتُ خطبتك وتأثّرت بها، وأريد الالتزام وحضور مجالس العلم، لكن لا أريد تربية لحيتي، ولا تغير قصة شعري، ولا تغير اللباس الذي ألبسه-وكان يلبس ما يُسمى بالجينز، وكان حليق اللحية، ووو..الخ-

فتبسم الداعية ابتسامة هادئة عذبة، وقال له: يا بنيَّ من قال أني أريد منك أن تغير لباسك وقصة شعرك؟!، بل إني أراكً جميلٌ أنيقٌ بها، لا تغير من ذلك شيء...، وما عليك إلا أن تحضر كما أنت إلى الدرس، بلباسك الجميل هذا.

ففرح الشاب فرحاً شديداً، وأصبح ممن يحضر مجلس الشيخ، ومرت الأيام والسنون..، وإذا بي أرى هذا الشاب يمسك حلقة قرآن في المسجد يدرس طلاباً شباباً صغاراً..، وقد تغير ظاهراً وباطناً...

فأدركت مدى الحكمة التي امتلكها ذاك الداعية عندما ترك تفاصيل الشكل، وبحث عن تغير الجوهر الذي هو الأصل.

نعم لقد جاءت دعوة الإسلام بالتّدرّج، وبدأت بالأهمّ فالأهمّ، وتقديم الأصول على الفروع ومثال ذلك، حديث إرسال معاذ-رضي الله عنه-إلى اليمن والذي يصوّر التّطبيق العمليّ والطّريقة المثلى لفقه الأولويّات في دعوة النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، عندما قال لمعاذ: "إنّك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أنْ يشهدوا أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، فإنْ هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كلّ يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإنْ هم أطاعوا لك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنّه ليس بينه وبين الله حجاب» [صحيح البخاري برقم: 1496]

فمن خلال الحديث النّبويّ السّابق نلاحظ كيف طلب النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- من معاذ أن يتدرّج مع أهل اليمن في الدّعوة وأن يبدأ بالأهمّ فالأهمّ وألّا ينتقل من مطلب إلى آخر حتّى يتمّ تطبيقه دون تهاونٍ نقصان، وذلك تلطّفًا بالدّعوة والخطاب، ولو أنّه طالبهم بالجميع دفعةً واحدة لما أمن من النّفرة، وشبيه هذا المثال أيضاً التّدرّج في تحريم الخمر في القرآن الكريم، والأمثلة كثيرة في ذلك لن أسهب في الحديث عنه إنما سيكون في بحث مستقل إن شاء الله...

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

أهم مراجع البحث:

1-فضل الدعوة إلى الله الشيخ د. عبد الله الطيار

2-ثقافة الداعية. د. يوسف القرضاوي. دار الرسالة، ط: 11

3-التفسير الوسيط للقرآن الكريم. د محمد سيد طنطاوي. دار نهضة، مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة – القاهرة ط: 1

4-كلمات مضيئة في الدعوة إلي الله أ. محمد علي محمد إمام. الناشر: مطبعة السلام – مصر-ط:1

5-فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة. د. محّمد سَعيد رَمضان البوطي

الناشر: دار الفكر – دمشق- ط: 25

6-كلمة هادئة في أدب الحوار "من سلسلة مفاهيم يجب أن تصحح" د. عمر عبد الله كامل. دار المصطفى ط:1

7-الدعوة والجهاد في العهد النبوي آداب وأحكام. د. علي بن عبد الرحمن الطيار. ط1.الرياض

8-جامع الأصول في أحاديث الرسول. لمجد الدين أبو السعادات المشهور بابن الأثير (المتوفى: 606هـ) الناشر: مكتبة الحلواني - مطبعة الملاح - مكتبة دار البيان ط: 1

9-مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي. الناشر: مكتبة القدسي، القاهرة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين