الدعوة والداعية في ضوء مجموعة القصص القصيرة للأديبة حميدة قطب -2-

 

المبحث الرابع: الدعوة والداعية في ظلال قصص الأديبة حميدة قطب

توطئة:

لم تقتصر قصص الأديبة على رسالة واحدة أرادت توجيهها للقارئ، فالمواضيع متنوعة ومتعانقة، فهي ترتبط بشخصية المسلم في خضم المحن التي يتعرض لها، غير أن موضوعي الدعوة والداعية قد غلبا عليها فكانت القصص بحق قصة بذور الدعوة وتفاني الدعاة في نشرها، ويندرج تحت هذا الباب مطلبان: 

- المطلب الأول: الدعوة إلى الله.

- المطلب الثاني: الداعية.

المطلب الأول: الدعوة

أولاً: تعريف الدعوة:

من نبع الدعوة الصافي أشربت قصص الأديبة حميدة قطب، فكانت صورًا متلألئة تنقل لنا التعريف الأسمى لمعنى الدعوة فهي "الحق الذي لا يقبل مساومة"، هي العقيدة الراسخة في قلب المؤمن يحملها حيث كان وينقلها إلى من يلتقي بهم سواء وافقوه لما يدعو إليه أم خالفوه وعادوه ورفعوا في وجهه سيف الظلم والطغيان.

ومن المفيد هنا أن نذكر تعريف سيد قطب للدعوة كما ذكرها في تفسيره في ظلال القرآن، كما ورد (في كتاب روائع الظلال ص 219) بقوله: "إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل، إما تربح ربحا معينا محددا في هذه الأرض، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحا وأيسر حصيلة"،

الدعوة مسؤولية عظيمة يحملها قلب آمن بالله ربًا، ورضيه حاكمًا دون سواه في تصريف شؤون الناس جميعًا... هكذا صورت الأديبة معنى الدعوة إلى الله من خلال أحداث قصصها فأخرجت المعنى مجسدًا في الأشخاص الذين رابطوا وصابروا حتى بلغوا من أمرهم الشهادة أو النصر في ثباتهم.

ثانيًا: عناصر بناء الدعوة في النفوس:

لا بد لكل دعوة من رجال يقومون على إيضاح معالمها ووضع أسسها لتنتشر في المجتمع، وتصبح ثقافة لأفراده ثم ينتقلون بها خارج الحدود.

فالدعوة تبنى في النفوس قبل أن تمتد أفنانها باسقات في الأفق، وقد ظهرت عناصر بناء مبادئ الدعوة في نفوس الدعاة في النقاط التالية:

1- الإيمان بصدق الدعوة التي يحملها إيماناً راسخًا رسوخ الجبال لا تقهره المعاول، ولا تهزه الرياح العاتيات، ويتجلى ذلك واضحًا في مشاهد عدة منها قولها لابن شقيقتها وهو يبلغها نبأ استشهاد أخيه رفعت سالم تحت التعذيب -  بكل ثبات وثقة بالله وبخط المسير :"وماذا في هذا؟! أليست الشهادة... قمة الأمنيات؟! أليس هو الطريق... طريقنا كلنا؟"  (رحلة في أحراش الليل، ص  94).

ويأتي تعجب الطبيب من ثبات هذا الإيمان بصدق الدعوة التي من أجلها يعذب الرجال فلا يرتدون ولا يتلكؤون: "أدهشني حقيقة ذلك، ثم ذلك الثبات! لم يكن وحده  - يقصد سيد قطب رحمه الله -  الذي أسرني ثباته... ولكنّ عددًا من المعذبين غير قليل أيضًا... وهز قلبي حتى أعماقه موقف بعض أولئك الذين قضوا في التعذيب..." (نداء إلى الضفة الأخرى، ص 145).

وفي المشهد الذي يصور ذلك الفتى الفرنسي وهو يعرض على والد زميله فكرة الإسلام أجابه الأب بالصبر حتى يكتمل الإيمان في قلبه، وبعد ذلك يعلن إسلامه: "يابني الحبيب... اصبر... اصبر... ثم إني أحب لك ألا تتعجل... أن تدرس الأمر على مهل من جميع جوانبه... أن تتعرف جيدًا على هذا الدين... أن تعرف حقيقة المعركة التي سوف تخوضها... حينئذ تقرر وأنت واثق...." (أوبة إلى الملاذ، ص34).

ومن الصور المشرقات وصف الزوج الصابرة لفقد زوجها ونفيها بعيدًا عن صغيريها، في صورة هي من أشد الصور إيلامًا للنفس، ولكن قست قلوب الظلمة فساموها سوء العذاب مرتين، بفقد الزوج وبالبعد عن الأولاد لكنها "تؤمن بما ذهب عليه ومن أجله ذلك الزوج" (أوبة إلى الملاذ، ص122).

من خلال هذه الأحداث وغيرها الكثير التي وردت في القصص، نتبين حقيقة القلوب التي كانت تبنى فيها مبادئ الدعوة بثبات، لم تكن وليدة أمر طارئ على البلاد والعباد، إنما كانت تجري في العروق مجرى الدم لتغذي الأعضاء بما يقويها لتصمد في وجه الحرب الضروس التي تحت أبوابها؛ على هذا الدين، وعلى كل من اعتنقه بصدق.

2- اليقين بأن نصر الله سيكون لهذه الفئة مهما سامها الظلّام من ألوان العذابات، ويتجلى هذا اليقين في مدلهمات الليالي عندما يشتد وطء التعذيب، وفي صور الراحلين إلى عالم الحياة، ومن أروع ما صورته في قصصها تلك الكلمات التي رسمت المشهد الذي جمعها بالشهيد سيد قطب في ساعة الوداع قبل استشهاده رحمه الله وهو يقول لها: "... وقد انتصرت أرواحنا بفضل الله على كيدهم، ونجونا من كل أحابيلهم، وصدقنا الله بعونه على ما وعدناه" (رحلة في أحراش الليل، ص 164).

وفي إجابة الواثق بالنصر من الله أجابت على الطبيب الحائر بعد أن شرح الله صدره للحق، لكن ضبابًا ما زال يمنع وضوح الرؤية، فهو يتساءل: لماذا لم ينصر الله الحق؟؟! وهو يعلم إخلاص هؤلاء المسلمين ويترك الظلمة يسومونهم سوء العذاب؟؟! إجابة سدت منافذ الشك والريبة بقولها: "هذه هي الحقيقة رغم الآلام – عنت حقيقة النصر – فكّر معي في الصورة المقابلة... لو قبلنا المساومات الدنيئة الكثيرة التي عرضت مرات بعد مرات، آخرها كان ليلة التنفيذ!... ثم خرجنا بعد ذلك إلى بيوتنا!.. لو داهنّا في الحق الذي نحمل رايته واستبدلنا به بعض متاع الأرض... بل وأكثر من هذا، لو كوفئنا على سقوطنا ذلك... والعدو كان مستعدًا لمكافأتنا بالكثير، لو فعلنا... وقد تعرف أن البعض قد وعد بوزارة وهو على منصة العذاب لو قال ما يريدون! ثم أصبحنا وأمسينا فإذا نحن من أصحاب السلطان، نجني ثمار خيانتنا لدعوة الله زبدًا وعسلًا! هل كنا بذلك نكون قد انتصرنا؟!" (نداء إلى الضفة الأخرى، ص 145).

وما أروع تعبيرها بيقين!.. عن: "النصر الحقيقي هو دائما هكذا... دائما يقطر دما... يسقى نبتة الحق فتمرع... تنمو تنمو... تغطي ظلالها الخضراء صحراء وجود لافح!" (نداء إلى الضفة الأخرى، ص146).

ومازال أصحاب الحق المدافعون عنه إلى يومنا هذا يساقون إلى آلات التعذيب، وينكل بهم، ويتهمون بالإرهاب تارة وبالتطرف أخرى، وما ذلك إلا لأنهم قالوا: آمنا برب الكون وإله السماوات والأرض، ورضينا بحكمه لا بحكم سواه، لأنهم رفعوا الراية لله وحده، وطالبوا بإقامة شرع الله ونهجه في الأرض، لأنهم يريدون إقامة حياتهم وفق ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، إنها المعركة المستمرة بين الحق والباطل، ولن تتوقف ما دام في الأرض من ينادي بإقامة شرع الله فيها. ومهما طال الليل فلا بد للفجر أن يبزغ من جديد، والله غالب على أمره.

3- التغذي بالعلم وطلبه باستمرار:

فهو وقود الدعوة ومشكاتها، به يضمن للدعوة أن تمضي على نور وبصيرة، ومن أعتى أعداء الدعوة الجهل إذا انسل بين الصفوف فتك بها، وما سبب تردي هذه الأمة إلا ذلك الجهل بحقيقة أمرها وجهلها بحقيقة كيانها، فاستضعفتها الأمم الغربية وجعلت من جهلة أفرادها عبيدًا لها تسوقهم في سراديبها من غير تفكير ومن غير سؤال حتى رأوا فيما يراه الغرب الصواب، وعادوا شمس ضياء الإسلام فتاهوا في الظلمات.

إنه العلم إذاً، السلاح الذي سيغير ما بهذه الأمة من ضياع وتفتت وشتات، ونتوقف هنا مع التساؤل الذي طرحته الأديبة على لسان الزوج المنفية لا لشيء سوى أنها زوج من نادى بالحق: "هذا الشعب الطيب الذي يملك قلبًا مفعمًا بالإنسانية... يساق المسكين إلى حتفه... يسوقه (خَونة) من أعوان الشياطين وهو غافل لا يدري عن حقائق الدنيا شيئًا... متى يقيض الله له أن ينتشله من براثن الضياع؟!... وكم سوف يمضي في جحافل الشهداء من أجل استنقاذه؟!... ومتى يقضي الله له بالعودة... العودة إلى الطريق؟!" (أوبة إلى الملاذ، ص129).

لم تكن هذه خاتمة قصة لقمة العيش من كتاب أوبة إلى الملاذ فقط، إنما هي بداية نهضة التفكير في مستقبل هذه الأمة وما ينبغي أن يكون، والمتتبع للأحداث لا بد أن يلتفت إلى التغيير الذي حدث في ثورة الشعوب ضد الخونة أعوان الشياطين كما أسمتهم الأديبة، فكانت ثورة العلم في وجه الجهل الظالم، وعسى أن تكون هذه الثورات هي منارات في طريق إقامة شرع الله وإعادة الحكم بما أمر الله تعالى.

ثالثاً: عوامل نصر الدعوة:

ما فتئ الزبانية يحاولون أن يثنوا المجاهدين والمرابطين على ثغور الدين ليرتدوا وليقعوا في قذر مستنقعاتهم، ولكنهم كانوا في كل مرة يؤوبون بصلابة أقوى، وبعزيمة أشد، وبإصرار ثابت على المضي في الطريق والنهج الذي حملوه أمانة في أعناقهم، لم يركعوا إلا لله وحده فكانوا أمثلة جسدت معاني النصر، ورُبّ سائل: ما الذي جعل هذه الأجساد الهزيلة تقوى على هذا العذاب؟ ومن أين كانوا يستمدون هذه العزيمة وهم أولاً وآخراً بشر تجري عليهم ما يجري على الإنسان من حالات الضعف والوهن، وتعتريه مشاعر سلبية في هذه الظروف القاسية؟

هناك في تلك الغياهب التي ظلت سنوات شاهدة على قسوة الظالم، في ذلك المكان كان الاجتباء لتلك الفئة من المؤمنين الذين استطاعوا أن يعلمونا معنى النصر الحقيقي، بانتصارهم على نفوسهم أولاً، ومن ثم على أعدائهم، فكانت عوامل النصر المتعانقة في شعابها، متمثلة في ما يلي:

1- التأييد من الله: 

الضعف البشري لا بد أن يعتري الإنسان في حالة الضغط الشديد، فكيف ونحن نقرأ في "رحلة في أحراش الليل"، ألوان العذاب التي تبدأ من إشراقة الشمس ولا تنتهي بالخلود إلى النوم، فقد كانت الحياة بكل ما فيها عذاب، الطعام، والشراب، قضاء الحاجة، العزلة والوحدة، ومن المشاهد التي تمثل جزءًا من عذاب الروح ننقل هذا الجزء الذي يصور ساعة تفكير وحوار مع النفس: "لماذا تصر أن تفكر؟! وتفهم؟! والفكر في هذا العهد الرهيب، عهد الفراعنة المحدثين، جريمة لا غفران لها، فالفرعون وحده يفكر للجميع، فهو ابن "رع" وهذه الأنهار تجري من تحته...." (رحلة في أحراش الليل، ص68).

ويسوقها التفكير أن تنسى تغيير جلستها فيخدر جزء من جسدها... لماذا؟؟! لأنها تجلس على الأرض بقسوتها من غير بساط... يا الله! كيف استطاعت بنعومة الجسد أن تتكيف مع صلابة الأرض؟! وبنفس راضية؟؟!

إنها النفحات الربانية يلقي بروعها في قلب المؤمن الصادق بإيمانه ليتحول العذاب إلى بلسم لداءات النفس، وتلثم جراح الروح من براثن الدنيا ومادياتها لتسمو في عالم الربانية السامق، المقبل بكليته على الله.

وهذا الوصف يعبر عن هذا التأييد من الله لعبده، والأمثلة على ذلك كثير في المجموعتين القصصيتين: (رحلة في أحراش الليل، ونداء إلى الضفة الأخرى)، اخترت منهما هذا المقطع وهي تصف حالتها: "جالت ببصرها في الظلام المحيط وفي مآقيها تترقرق قطرات دمع، وعلى فمها ابتسامة شاحبة لا تدري كنهها، خليط عجيب من نبض مشاعر غامضة يتجول فيها روحها، يذرعها جيئة وذهابًا... لم تتذوق من قبل طعم هذا الخليط المتداخل... هل يكون الأسى والعذاب مفعمين بالسعادة والرضا وإشراقة الروح في الأعماق؟! لم تعد تميز على وجه التحقيق!"، (رحلة في أحراش الليل ص 92).

2- التيسير من حيث لا يحتسب العبد:

ويشتد التضييق على سجناء الأجساد أحرار الأرواح، طمعًا بانتزاع التنازل بكلمة، أو انكسار ضعف، أو طلب حاجة! وتبقى العزائم راسخة، والإيمان يزداد توهجًا في النفوس النحيلة، حتى إذا ما قضت سبيلها إلى الشهادة قتلت نفوس الأعداء غيظًا ألا ينالوا منها ما يريدون، أما من كتب الله عليه البقاء بين براثن الزبانية فكثيرًا ما كانت الدهشة تعتريهم لما ييسره الله لهم من منفس ليبقوا في صمودهم وفي شموخ نفوسهم.

عند اشتداد وطء العذاب كان الفرج يأتي من الله يؤيد به من والاه، وها هي الأديبة بعد أن أمضت ليلة من الآلام تقاسي من القيء وقد خبأته في حقيبتها، وحين يطلع الصباح، ويفتح الحارس الباب وتضطرب أنفاسها مخافة أن يعرف ما تخبئه فينالهم منها شماتة ضعفها... هنا يأتي التيسير من الله ليُطلب الحارس... فيخلي بينها وبين دورة المياه من غير ضغط الحراسة، ومن غير وقت محدد... هي وحدها في المبنى...  تنظف محفظتها بعيدًا عن الأعين المتربصة بها...

ويوم كانت تعاني قساوة الوحدة في العزل الانفرادي مذ وطئت قدماها هذه الزنزانة، وكانت تستجدي الحديث مع كائن مهما كان! يبعث الله إليها بحيوان لطيف يسلي فؤادها، كانت هرة تداعبها، وعبرت عن فرحتها بهذه الكلمات: "ها قد تحقق حلم طفلي بقي يوصوص في القلب رغم سياج النيران يطوق آفاق العيش!... يا الله، ما أجمل أن يتعامل القلب مع القلب بحب صاف!... "، وهكذا توطدت العلاقة بين القلبين، فسبحان الرحمن الذي لا يترك عبده إذا ما كان معلق الفؤاد به. (نداء إلى الضفة الأخرى، ص 182).

وتصل رسالة من الزوج المغيب يطمئن زوجه بعد اليأس من لقياه، فتصف لنا حالها: "أما الأم الشابة فقد بدت كالغريق الذي وجد نفسه فجأة على الشاطئ... فرحة الحياة الجديدة تغمر كيانه ولكنه لا يجد القوة ليفرح!..."، (أوبة إلى الملاذ، ص137)، فقد كانت في حالة اليأس أن تلتقي بزوجها أو أن تسمع خبرًا عنه، لكنه التيسير من الله الذي يرزق المؤمن من حيث لا يحتسب، فيجيئها الخبر من شخص لم تره في حياتها، يأتي إليها بخبر لقائه.

المطلب الثاني: الداعية:

أولاً: صفات الداعية الرباني:

هي الأزمان تتقلب وتتبدل, والمؤمن الصادق الذي خالج قلبه حقيقة الإيمان فما عرف غيره تجمل بسمت الأخلاق، وفرغ قلبه من كل هوى إلا هوًى يرضي الله تعالى عنه، وتجرد من عوالق الدنيا فكان:

1) صلبًا في مبادئه لينًا في تعامله:

ففي مشقة الطريق الشائك في الدعوة إلى الله تعالى تعرض للمؤمن عقبات واختبارات تكشف عن عمق جذور المبادئ التي يعتنقها, وتظهر (سمات أخلاقه) في تعامله مع الآخرين في لين لا خضوع فيه، ولا انكسار، ولا هوان له... هذه الفئة من المؤمنين تظهر هذه الصلابة عند المحن والشدائد, ويتجلى اللين في تعامله مع البشر في دعوتهم إلى الحق وإقامة شرع الله في الأرض.

ما أروع معنى الصلابة على المبدأ حين أجابها الشهيد رافضًا تبديل كلماته بما يرغبون ليغيروا حكم الموت عنه، وهو يعلن بصراحة وصلابة لا تثنيها سيوف الموت المسلط حول رقبته، فيقول: "لو كان ذلك حقيقة ما منعتني قوة على الأرض من أن أعلنها, وحين يكون هذا لا حقيقة  له فلن ترغمني قوة في الأرض أن أقوله". (رحلة في أحراش الليل، ص161).

وما الذي سيثنيه عن مبدئه أهو التمسك بالحياة؟! قد استقر في روحه معناها..."الحياة؟! الحياة ليست غالية في سبيل الله... ثم إن الحياة يملكها الذي وهبها هو الذي أعطاها فإذا أراد أن يستردها يومًا فمرحبًا, فهي منه وإليه...". (رحلة في أحراش الليل ص161).

بهذه الصلابة عاشوا فكانت لهم الشهادة وقيض الله لهذه الفئة من يسير على نهجهم و استطاعوا أن يتغلغلوا في المجتمع ومن ذلك هذا المشهد (من قصة أوبة إلى الملاذ ص171): "تذكر كيف أجابتها رغم المفاجأة ورغم صلافة أسلوبها ذلك الصباح... قالت لها: "على الرحب و السعة في أي يوم عطلة..."

أدب في التعامل مع المخالفين لهم في فكرهم وفي هجومهم على مفاهيم ديننا الحنيف و القرآن الكريم وعلى الطريق الذي نؤمن بهو ندعو إليه

2) تحسّس أوضاع الناس:

إن السؤال عن الآخرين وتلمس أحوالهم والاطمئنان اليهم يوطد العلاقة بينهم ويدفع بهم الى السؤال عن سبب هذا التعامل في زمن طغت عليه المصالح  والماديات، ومثال ذلك ما حدث مع الطفل الفرنسي الذي غاب عن المدرسة فاتصل به زميله العربي يسأل عنه فاستهجن الأمر وتساءل؟! فكانت بداية هدايته إلى الإسلام: "كيف؟! لماذا وزملاؤه من المقربين إليه لم يتعرضوا له!!! ولم يعرض أحد منهم مساعدة عليه؟! لماذا يعرض عبد الله هذا العرض وهو المنافس له... ولم يقدم هو له خدمة من قبل؟! (أوبة إلى الملاذ ص27).

3) مرابط مصابر:

لصاحب الدعوة إلى الله هدف إقامة نهجه وشرعه في الحياة يسعى للوصول إليه. والمشقة الحقيقية التي يواجهها الداعية في مسيره هي الثبات والصبر وعدم الانكسار أو الوقوع في براثن الطغاة وحفرهم التي يجهدون في إيجادها أملاً منهم في إسقاط المرابطين المصابرين فيها... غير أن المرابط المصابر يوقن أنه على ثغر من ثغور الإسلام إن أحدث فيه ثقب نفذ الشر من خلاله، وأوشك أن يتهاوى البناء من قبله.

صاحب الدعوة هو الذي يبيت وقلبه يتقلب في همّ الدعوة، وفكره يعيش في عالم الدعوة، مرابط بروحه وفكره ونفسه، مصابر مهما ادلهمت الشدائد وتثاقلت عليه المصاعب.

ثانياً: الابتلاءات في طريق الداعية:

ينتظر الأعداء من الدعاة اللحظة التي يسقطون فيها وقد خانوا الأمانة، ونكثوا العهد على أنفسهم.. تلك أمانيهم.. خسئوا وخابت نفوسهم الدنية بما سولت لهم شياطينهم، والله غالب على أمره.

 فهؤلاء المرابطون الدعاة الشهداء المصابرون في تلك المحن الماضية والآنية والآتية، ما كانوا إلا بشرًا، وتسري عليهم أحكام الآدمية، فتعتريهم المشاعر والانفعالات التي يتعرض لها كل إنسان. لذا فقد حاول الزبانية إتيانهم من هذه الأبواب علّهم يرجعون فينكفئون إلى أهوائهم.. ولكن هيهات هيهات لهم، فقد جهلوا ما في تلك القلوب من عافية الإيمان ونقاوة الصبر وقوة الثبات.

ومن تلك المحن والابتلاءات التي تعرضوا لها في فترة قبل السجن، وفي أثنائه من العزل الإفرادي على ذمة التحقيق: العزلة والوحدة، التجويع القسري، والتقتير في الغذاء، والحرمان من الماء النقي النظيف، وحتى الخروج إلى دورات المياه في أوقات محددة، والضغط النفسي عليهم بغية دفعهم إلى التنازل عن مبادئهم، وتقديم الإغراءات المادية لهم من رفاهية المطعم والمرقد والمسكن في السجن، ثم خارجه.... وفي ظلال حالات من الرعب والخوف التي كانت تتأتى للمعزول عن العالم يمكن أن تتخيل الحالة النفسية التي عاشها أولئك الأبطال؛ بالإضافة إلى التعذيب الجسدي الذي تهتز له الجبال الرواسي، وتكاد القلوب تنخلع من صدورها من هول الوصف، فكيف بمن عاشه حقيقة، وكان تحت وطأته؟؟!

ماكان لهم سبيل إلا اللجوء إلى الله بالدعاء والتضرع، والفزع إلى الصلاة والقرب من الله، واستقراء الآيات المحفوظة في القلب وتدبر معانيها. فكان المدد الرباني ينسل إلى أرواحهم، فيفيض فيها بِشْرًا، ويعود عليها بالسكينة، ويستحيل الخوف طمأنينة وأمناً.

خاتمة البحث:

حقاً إن الدعوة التي تروى بالدماء لها وهج وقاد ينير طريق السائرين إلى الله على نور، ويوقنون أن أولئك الذين قضوا نحبهم، وأن هؤلاء المنتظرين المرابطين في سبيل الله على حق، فما كانوا ليثبتوا مثل هذا الثبات، وما كان الله ليؤيدهم بثباتهم لو كانوا على الباطل. بذلوا النفوس والأموال، وذاقوا ألوانًا من العذابات وهم  يوزعون بسمات الرضا والفخار.

إن الدعوة التي مازالت تقطر دماً بريئاً، لن تذبل أوراقها، ولن تتوقف عن العطاء، وستثمر أنوارًا متلألئة في القريب العاجل إن شاء الله.

وها نحن أولاء اليوم بعد مضي عقود من السنين على تلك المجازر التي ارتكبت بحق أولئك الأبطال، نستيقظ على اندحار نظام بائد ساد بضباب سلطته، فعميت العيون بغشاوة معسول الكلام الممزوج سمًّا فتاكًا.

فنسأل الله أن يرفع راية الإسلام من جديد، وأن يعلي لواء الحق المبين، لتشرق شمس العزة والإباء، وتنثر في الأفق المديد. فمهما اشتدت حلكة الليل وظلمته فهو لن يقاوم بزوغ الفجر، وإن امتد السرمد لعقود السنين.

الجزء الأول هـــــنا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

- حميدة قطب، رحلة في أحراش الليل، دار الشروق، القاهرة، االطبعة الأولى 1418هـ / 1998م

- حميدة قطب، نداء إلى الضفة الأخرى، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1420هـ/ 2000م.

- حميدة قطب، أوبة إلى الملاذ، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 1432هـ / 2011م.

- روائع الظلال، رامي عمر باعطية، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى 1429هـ / 2008م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين