الدعوة والداعية في ضوء مجموعة القصص القصيرة للأديبة حميدة قطب -1-

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وخاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فمازالت الدعوة إلى الله همّ الداعية منذ خلق الله آدم عليه السلام وإلى أن يرث الأرض ومن عليها.

وسيبقى الصراع قائمًا بين الحق والباطل إلى قيام الساعة، وفي هذه المسيرة انقسم الناس إلى فريقين: مؤمن وكافر، وتنحى فريق ثالث مذبذبين بين الكفر والإيمان فكانوا منافقين خلصًا.

ويوم تكالبت الدنيا على المؤمنين وصاروا العدو الوحيد لكل من خالفهم، عاد الإسلام غريبا كما بدأ...

فطوبى للغرباء، طوبى لهم، وهنيئا لهم منزلة الاجتباء التي أكرمهم الله تعالى بها، حملوا على عاتقهم همّ التبليغ، وواجهوا في الصفوف الأولى، وقدموا الدماء سيالة في سبيل الله فكان الجهاد له نهجًا وطريقًا، وبنفوس شامخة، وعزائم متوقدة، وأرواح سامية، لا يثنيها طيب عيش، ولا رغد حياة، ولا تكسرها قسوة العذاب، ولا تردها مغريات النفس عن  هدفها، ساروا إلى الله على بصيرة.

وبصور من الإبداع القصصي نقلت إلينا الأديبة "حميدة قطب" شيئًا يسيرًا من هول ما عانته وعاناه أولئك العمالقة في زمن القزم الفكري والتشويه العقائدي.

لذا فقد تناولت موضوع "الدعوة والداعية" في ضوء مؤلفاتها القصصية التالية: "رحلة في أحراش الليل"، و"نداء إلى الضفة الأخرى"، و"أوبة إلى الملاذ" بعد تحليلها من حيث الفن الأدبي والأسلوبي، لما وجدت في ذلك من أهمية وفائدة، وقسمته إلى أربعة مباحث دون الفصول والأبواب باعتماد الأسلوب التحليلي فيه، وقد جاء على النحو التالي:

- المبحث الأول:  دراسة المجموعة القصصية "رحلة في أحراش الليل".

- المبحث الثاني: تحليل المجموعة القصصية الثانية "نداء من الضفة الأخرى".

- المبحث الثالث: دراسة تحليلية لمجموعة" أوبة إلى الملاذ".

- المبحث الرابع: الدعوة والداعية في ظلال قصص الأديبة.

 

المبحث الأول:  دراسة المجموعة القصصية "رحلة في أحراش الليل":

- تحليل المجموعة من حيث العناصر للفن الأدبي:

لقد تركت الأديبة للناقد أن يحكم على مجموعتها الأدبية وتصنيفها في الفن المناسب لها، وقد تجلت فيها عناصر القصة القصيرة وإن كانت  تحكي سيرة فترة زمنية من حياتها قاست فيها مرارات السجن وآلامه، لذا يمكن القول: إنها جزء من الفن القصصي وإن خفيت منه بعض معالمه.

أولاً: من حيث اللغة:

شدت الأديبة حميدة قطب القارئ إلى أحداث القصة، وأسرت مشاعره بأسلوبها الفريد في التصوير، فالصور البيانية والبديعية جعلت من كل عبارة غورًا من أغوار البيان الساحر، واعتمدت في تصويرها العبارات الدالة على المشاعر الحزينة لما يتلاءم مع الحال.

ثانياً: الحبكة والبناء الفني:

بدأت القصة في الجدران المغلقة لتغوص في أعماق النفس، حيث اعتمدت الكاتبة على حديث النفس في بناء قصصها، فصورت مكنونات مشاعرها بمشاهد مجسدة لولا أن الخيال كان يحول بينها وبين الواقع لكانت هي الصور المرئية لا الأحداث الجارية، فلم تظهر الحبكة جلية واضحة، لكن المشكلة التي جمعت بين أحداث القصص كلها هي التناقض الفكري بين السجناء المعذبين (من حملة الفكر الإسلامي) وبين النظام الحاكم الذي يدعي الإسلام هوية له، ولم تكن في حقيقتها سوى صورة تخفي العداء لهذا الدين، فعرضت صورة الصراع الأزلي بين الحق والباطل، وإن كان لكل قصة من القصص ما يمثل عقدة تتعرض لها الأديبة في ساعة أو يوم في أثناء السنة الأولى من سجنها في تلك البقعة المنفية عن العمران وقد عبرت عنه بـ(القبر)، وهذه العقدة قد تبلغ ذروتها حتى تكاد الروح أن تزهق فتحل الرحمة الإلهية وتدرك عندها الأديبة حقيقة معنى من معاني الآيات التي كانت تتلوها في بيتها قبل اعتقالها. 

فكانت القصص تجليات ورسائل موجهة إلى السائرين في ركب الدعوة إلى الله تعالى، وما يمكن أن يتعرض له من مضايقات في مسيره لرفع لواء الإسلام دين الحق، وما قد ينتهي به الأمر إلى مفارقة لهذه الدنيا وبنفس راضية مطمئنة بأن ذلك هو الحق، وأن ذلك هو النصر من الله وإن كانت الغلبة ظاهراً للظالمين المفسدين.

 

ثالثاً: الزمان:

لم يكن الزمان في هذه المجموعة من القصص محدداً بقيود وقت أو ساعة أو يوم، فكثيراً ما كانت تجهل التاريخ لليوم أو الشهر وكأنها عزلت أو بمعنى آخر قد أقصيت عن زمان البشر وعن العالم الخارجي... لم يكن الزمان سوى ليل أو نهار وكل منهما معاناة من لون آخر...

رابعاً: المكان:

هي جدران أربعة لم تكن تغادرها إلا لدقائق تقضي فيها حوائجها، ثم تعود إليها مكبلة النفس، أو تقاد منها إلى غرف تعذيب التحقيق لتعود مثخنة الآلام النفسية والجسدية، فالأديبة عاشت في مكان لا يحمل من الحياة أي معنى، بل كان ملفعًا بلون السواد وفيه من معاني الموت ما فيه!

خامساً: الشخصيات:

بطلة القصص كلها: الأديبة حميدة قطب، شخصية صابرة مصابرة، ثابتة، شامخة، تظهر قوتها لأعدائها، لا تثنيها عذابات الجسد، عميقة التفكير، تظهر من خلال معاناتها صور لمعاناة السجناء في ذلك المكان. 

أفراد عائلتها:

شقيقتها: ظهرت في صوتها تارة، وفي الحديث عنها في بعض المشاهد.

شقيقها الأكبر: سيد قطب، القائد للمسير، الشهيد، الثابت على الحق، ما تنازل عن مبادئه وقد علم بحكم إعدامه، وبعد عرض المغريات الكثيرة له، كثيراً ما كانت تحدث نفسها عنه في لقاءات مع الذاكرة في أيام الحرية.

شقيقها الآخر: شريك الرحلة في المعاناة والابتلاء.

شقيقها من الرضاعة (ابن أختها) رفعت سالم: الشهيد تحت التعذيب، وقد كان لفراقه أثر بالغ في قصصها، واجهت المحقق ببشاعة وفظاعة فعلهم في تعذيبه مما أدى إلى استشهاده فزادوا من التضييق عليها.

السجناء المعذبون: كانت تراقب من خلال فتحة صغيرة من باب الزنزانة ما ينزل بهم من العذاب، أو تراهم وهم يسامون من ألوانها وهي في أثناء مرورها إلى غرف التحقيق، وقد تفننوا في تعذيبهم مما يزيدها ثباتًا وإصرارًا، ومنهم من كان يثلج صدرها بتلاوات ندية من آيات القرآن الكريم فتهنأ نفسها بالسماع.

زبانية التحقيق: وقد كان منهم رئيسهم الذي ترى أنه جبل من القسوة ولم يعد للرحمة سبيل إلى قلبه من كثرة ما لف نفسه بالحقد والكراهية لجميع السجناء ومن ولائه الأعمى لرئيسه المفدى! أما العناصر المرافقة له فلم تكن أقل منه غلظة وكأنما تقولبوا جميعا في آلة واحدة وعلى نسق واحد.

طبيب السجن: وهو الذي يحدد للزبانية قدرة الجسد على تحمل التعذيب، ويرى أن من العدل أن يعذبوا لأنهم خالفوا الرئيس الذي لم يوجد مثله في الزمان!

الحارس: يتبدل من وقت لآخر، منهم من ملك في قلبه شيء من الرأفة وإن كان طابعهم المشترك الانصياع إلى الأوامر وإن كتموا نقيضها في أنفسهم.

الطيور: ساهمت في كثيرمن الأحيان في التعريف عن الوقت صبحًا ومغربًا.

سادساً: الحل:

بالنظر إلى واقعية الأحداث، وعلى الرغم من عرض الأديبة لها بأسلوب أدبي رفيع إلا أنها لم تصطنع للمشكلة حلًّا – وما كان لها ذلك –، لذا نجد أنها كانت تبحر إلى أعماق النفس (نفسها) تبحث فيها عن تفسير لما تشاهده أو تسمعه وتحلل الواقعة لتخرج منها بحقيقة كانت غائبة عن ذهنها وإن كانت صورتها مألوفة لها. فترد الحدث إلى آية قرأتها وتفسير لها سمعته من أخيها ليستقر في نفسها وتهدأ وتسكن وتزداد صبرا لتتخطى تلك العقبة وتشتد عزيمتها على مواصلة المسيرة.

المبحث الثاني: تحليل المجموعة القصصية الثانية "نداء من الضفة الأخرى":

أولاً: من حيث اللغة:

استخدمت الأديبة الكلمات السهلة المألوفة غير أن الصياغة حولت هذه الكلمات إلى صور من الإبداع اللغوي المثري للقارئ، فكان من السهل الممتنع في تصوير الأحداث المؤلمة والعذابات المتكررة.

ثانياً: الحبكة والبناء الفني:

ما زالت الأديبة تتخطى بقلمها المشاهد المجردة للعين لتغوص في أغوار النفس البشرية، وتلقي بظلال ذلك الأدب الرفيع الذي يسمو بانتمائه إلى الأدب الإسلامي لعلو مكانته. وقد أمر الله تعالى الناس أن يحتكموا إلى شرعه في جميع أمور حياتهم، غير أن فئة ضالة ادعت الانتماء إلى هذا الدين وخالفت أوامره، فأظهروا خلاف ما تبطن نفوسهم المتعفنة من الضلال والظلم، فئة المنافقين الذين أضلوا بزيفهم عامة الشعب، فكانت أحداث السنة الثانية من رحلة المعاناة في غياهب الزنزانة باستمرار المعاناة تظللها رحمات الله وعنايته بمن ارتضى الثبات في وجه الطغاة والظالمين، استمرار الألم أو كما أسمته الأديبة مقام رفع الدرجات والاصطفاء لأولياء الله.

ثالثاً: الزمان:

غاب في دياجير الظلم وآهات العذاب التي حولت الزمن إلى انتظار أن يمضي نهار ليتبعه ليل سرمد، لا يعرف من الزمن إلا أوقاتًا تفتح فيها بوابة الزنزانة لتلج إلى ساحات العذاب ومكاتب التحقيق، و في أوقات محددة لقضاء الحاجة والوضوء، ولم تكن تعرف مواقيت الصلاة إلا بالتقدير من خلال فتحة في الجدار.

رابعاً: المكان:

شاء الله أن تنتقل الأديبة من القبر المطبق إلى زنزانة يتلمس فيها شيء من معنى الحياة.

خامساً: الشخصيات:

بالإضافة إلى شخصيات المجموعة الأولى وبعد استشهاد كل من القائد سيد قطب والمصابر رفعت سالم، فقد ظهرت في هذه المجموعة شخصيات جديدة كما تبدلت أفكار بعضها وهي كالآتي:

- الطبيب العسكري: تغيرت قناعاته من معاد للسجناء إلى مؤيد لهم وذلك بسبب ما رآه من ثباتهم وعزيمتهم التي حيرته حتى آب إلى رشده لكنه لم يتمكن من إعلان أمره.

- رفيقتها في الزنزانة: كانت بمثابة الوالدة لها تواسي وحشتها وألمها من الوحدة لفترة زمنية طويلة.

- طبيب المشفى الذي أجرى لها العملية الجراحية: الوحيد من بين الأطباء الذي قبل بإجراء العملية لها على الرغم  من الاتهامات التي يمكن أن يتعرض لها مستقبلا.

- رفيقتها (كأختها): رافقتها أسبوعًا في المشفى لمساعدتها بعد إجراء العملية، تربطها بالأديبة علاقة توأمة الروح والفكر.

- الجنود المراقبون: كالآلات التي المتحركة بجهاز تحكم وإن أخفى بعضهم تعاطفًا نحوها.

- هرة: أرسلها الله تعالى للأديبة فكانت لها الصديق المرافق وإن اختلفت لغة التواصل بينهما بأحرف هجائية، لاقت عذابات من جراء علاقتها بالأديبة فقد اتهمت بالعمالة لصالح الإخوان؟؟؟!!! عذبت حتى لاقت حتفها...

- سجين مسن: تهمته المطالبة بتغيير مناهج التعليم في مصر بما يتوافق مع التصورالإسلامي..!!؟؟

- جمال عبد الناصر: لم يصرح باسمه ولكنه الرئيس الذي أسام الإخوان المسلمين العذابات، كان يبرم اتفاقيات غير معلنة مع الكيان الصهيوني فكانت خسارة الحرب ضدهم...

سادسًا: العقدة:

عبارة عن اختبارات كانت تتعرض لها الأديبة في حياتها التي قضتها في ذلك المنفى، ولم تكن هذه العذابات فقط جسدية -  فهي لم تأت على ذكرها إلا تلميحا، بل هي في شعاب النفس، ففي وحدتها كانت لا تنفك عن التفكير والتفكير والتفكير مما يجعلها تتقلب بين ألم وألم  وبين ذكرى وعاطفة وبين الحقيقة والواقع، لتصل في نهاية الأمر إلى التعرف على الحكمة أو ما يقاربها مما يحدث.

سابعًا: الحل:

لم تصل الأديبة إلى الحل للمشكلة الأساس وهي الصراع بين الحق والباطل ولكن رحمة الله غمرتها بنفاحت من السكون والرضا والطمأنينة.

 

المبحث الثالث: دراسة تحليلية لمجموعة" أوبة إلى الملاذ"

أولاً: من حيث اللغة والأسلوب:

ثراء دفاق وصور بيانية وأسلوب متماسك في البناء.

ثانياً: الحبكة والبناء الفني:

غلب على القصص التصوير الوصفي لحدث ما مع غياب للحبكة الفنية في القصة القصيرة، فيمكننا إطلاق تسمية القصة القصيرة عليها تجاوزا، ولا تخلو المجموعة من العقدة التي تثير المشاعر والأحاسيس الوجدانية وتلهب في قلب القارئ الغيرة على هذا الدين وعلى من يرفع لواءه سواء كانوا من الداخل أو الخارج.

ثالثاً: الزمان:

تنوعت الأزمنة التي جرت فيها أحداث القصص، ولكنها تتفق في الصفة وهي اضطهاد الإسلام والداعين إليه.

رابعاً: المكان:

لم يكن للمكان أي تأثير على مجريات الأحداث فسواء كانت في فرنسا أم في مصر فإن الفكرة تتدورحول فكر المسلم وهل يتمكن من تبليغه أم يقمع بسبب حمله، ونلاحظ الفارق في ذلك بين الأسرة المسلمة في فرنسا والعائلات المسلمة في غيرها!

خامساً: الشخصيات:

قد يستغرب البعض وجود مثل هذه الشخصيات التي تحمل هذه الصفات من حمل هم الدعوة بهذا الصبر وهذا الثبات، ولكنها وإن كانت بنظرهم كذلك إلا أنها ليست بالمثالية على الإطلاق بل على العكس تماما إنما هي الفئة التي اختارها الله تعالى لتكون حملة هذا الدين، مصابرون مرابطون...

سادساً: العقدة:

لا ينطبق على هذه المجموعة وجود عنصر العقدة بشكل جلي واضح...

سابعًا: الحل:

غالبًا ما كانت تترك الأديبة نهاية القصة مفتوحة فلا تختمها وتترك للقارئ أن يتصور النهاية، وربما يرجع السبب في ذلك إلى أن هذه الأحداث لم تختتم بعد في الواقع وبما أن المشكلة مازالت هي الصراع بين الحق والباطل إذا فالخاتمة لم توصد بكلمات تمني بها النفس ولكنها آفاق للفكر وحث له على العمل للتغيير في المستقبل لتحصد ثماره واقعًا ربما نحن نعيش أجزاءه اليوم...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين