الدعاء والذكر عند قراءة القرآن -1-

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

فإن لقارئ القرآن أجرًا، وأيَّ أجر! فهو يقرأ كلام ربِّ العالمين الموحَى به، وهو أجلُّ أنواع الذكر، وأكثرها أجرًا.

ويشعر القارئ أنه قريب من رحمةِ الله عندما يتلو كتابه، وهو يقرؤه تعبُّدًا، ويبتغي به رضاه والقرب منه، ويرجو رحمته وبرَّه.

ومن آداب التالي لكتابه قراءته بفهم؛ ويكونُ هذا  عونًا له على الاتصاف بأدب آخر أثناء القراءة، وهو الدعاء، كما كان يفعله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهو يرجو بذلك استجابةً وزيادةَ إيمان، والله سبحانه يرغِّب في تلاوة كتابه، ويحبُّ أن يُدعَى. 

ويُفهَمُ أن هناك ميزة وفضيلة للدعاء أثناء القراءة، ولذلك فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرجوُّ أن يكون ذلك من أوقاتِ الاستجابة، فإن الكتابَ كتابُه، والكلامَ كلامُه، والدعاءَ مستوحًى منه، وهو الكريم.

وقد صحَّ في الحديثِ الذي رواه مسلم عن حُذيفة رضي الله عنه قوله: "صليتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلة، فافتتحَ البقرة..." وفيه: " يقرأ مترسِّلاً، إذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبَّح، وإذا مرَّ بسؤالٍ سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذٍ تعوَّذ".     

قال الإمام النووي في شرحه له: "هذه الأمور لكلِّ قارئ، في الصلاةِ وغيرِها، ومذهبنا - وهو شافعي- استحبابهُ للإمامِ والمأمومِ والمنفرد".

ونقلَ في "عون المعبود" قول ابن رسلان: "...ولا بآية تسبيحٍ إلا سبَّح وكبَّر، ولا بآية استغفارٍ إلا دعا واستغفر، وإنْ مرَّ بمرجوٍّ سأل، يفعل ذلك بلسانه أو بقلبه".

ثم ذكر مذهبَ الشافعي كما أورده النووي، وذكر بعض اختلافات الفقهاء فيه، وقال: ظاهرُ الحديثِ يوافقُ ما ذهبَ إليه الشافعي، لأن قوله: "كان إذا قرأ" عامٌّ يشملُ الصلاةَ وغيرها، وحديثُ حذيفة مقيَّدٌ بصلاة الليل كما مرَّ، فهو حجَّةٌ على من لم يجوِّز التسبيحَ والسؤالَ والتعوذَ عند المرور بآية فيها تسبيح أو سؤال أو تعوُّذ في الصلاة مطلقًا. اهـ.

وفي الحديثِ الصَّحيحِ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا قَرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [سورة الأعلى: 1] قال: "سُبحانَ رَبِّيَ الأعلَى". رواهُ أبو داودَ وأحمَدُ والحاكم، وصححه في صحيح الجامع.

وكانَ عليه الصلاةُ والسلام إذا ركعَ تأوَّلَ هذهِ الآيةَ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [سورة النصر : 3] وقال: "سُبحانَكَ اللهمَّ ربَّنا وبحَمدِكَ اللهمَّ اغفِرْ لي"، كما في صَحيحِ البخاريِّ وغَيرِه.

 

وفي حدِيثِ ابنِ عباس، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا تلا هذهِ الآية: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [سورة الشمس: 7، 8] وقفَ ثمَّ قال: "اللهمَّ آتِ نَفسي تَقواها، أنتَ وليُّها وخَيرُ مَنْ زكَّاها". رواهُ الطبرانيُّ وحسَّنَ إسنادَهُ في مجمعِ الزَّوائد.

وهذا هو دأب أهل العلم العاملين، الذين يتَّبعون سنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ويتأدَّبون بأدبه في قراءة القرآن... وأخبارهم وأحوالهم في ذلك كثيرة، تجدها في كتب السنن، وفي كتب الزهد والرقائق، وفي كتب التاريخ والسير والتراجم.

ومن هؤلاء  شيخ الحرم المكي الفُضيل بن عياض رحمه الله (ت 187 هـ)، فقد ورد في ترجمته في "تهذيب الكمال": قال إسحاق بن إبراهيم الطبري: ما رأيتُ أحدًا أخوفَ مع نفسهِ ولا أرجى للناسِ من الفُضيل، كانت قراءتهُ حزينة، شهيَّة، بطيئة، مترسِّلة، كأنه يخاطبُ إنسانًا، وكان إذا مرَّ بآيةٍ فيها ذكرُ الجنَّةِ يردِّدُ فيها، وسأل، وكانت صلاته بالليل أكثر ذلك. اهـ.

 ويدخل فيه الإجابة عن أسئلة ترد في القرآن، مثل قوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى}؟ [سورة القيامة: 40] فنقول: بلى.

وعن جابرِ بنِ عبداللهِ رضيَ اللهُ عنهما قال: لَمَّا قرأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سورةَ الرَّحمنِ على أصحابِهِ حتَّى فَرَغ قال: "ما لي أراكم سُكوتًا؟ لَلْجِنُّ كانوا أحسنَ منكم رَدًّا، ما قَرأتُ عليهم مِن مرَّةٍ {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلاّ قالوا: ولا بشَيءٍ مِن نِعمَتِكَ ربَّنا نُكَذِّب، فلكَ الحَمد". رواهُ الحاكمُ وغيرهُ وصحَّحَه.

 

وقد أحببتُ إفراد كتابٍ في هذا الموضوع - الذي لا أعرفُ تأليفًا فيه - وهو ذكرُ الله ودعاؤهُ عند قراءة آياتٍ من كتابه بما هو مناسب، وبما يمكنُ أن يُدعَى به أثناءها، ويكونُ التركيزُ على ما ورد في الحديث السابق، وهو: التسبيح، والسؤال (وهو الدعاء)، والتعوُّذ. وكذلك التكبير، والاستغفار، وما هو قريب من ذلك من أنواع الذكر. وما كان من هذه الأدعية والأذكار أحاديثُ جعلتها بين قوسين، وكلها صحيحة وحسنة.

 وجعلته مرتبًا على ترتيب سورِ القرآن.

ولم أتكلَّفْ أدعية، بل هي غالبُ ما يدعو به المسلمون. وقد أكتفي بأمثلة ولا أكرر، مثل المرورِ بآيات الجنة والنار، فهذا كتاب تعليم وتذكير.. ولذلك أخذتِ السوَرُ الأولى أكبرَ نصيبٍ من الأدعيةِ والأذكار. 

وسبحان الله! لا تقرأ سورةً إلاّ وتجدُ فيها مجالاً للدعاءِ والذِّكر، وهذا من وجوهِ كونِ القرآنِ "أحسنَ الحديث".  

ويزيد القارئ ما شاء من الأدعية والأذكار، بما يردُ من أمثالها من الآيات، وقد يدعو بأدعية أفضل مما أوردتها، عند تلاوةِ آياتٍ زيادةً على هذه، وليس في الحديث الوارد أولاً نصٌّ على تحديد آيات بعينها، أو أذكار مقيَّدة بها.

 ونسأل الله تعالى أن يُعيننا على ذكره وشكره، وأن يتقبَّل دعاءنا، إنه هو السميعُ العليم.

 

سورة الفاتحة

 

من المعروف أن المسلم يقول في صلاته بعد قراءة الفاتحة: "آمين"، أي: اللهم استجب. وهذا اللفظ ليس من القرآن، بل هو من الحديث، فقد روى الشيخان وغيرهما - واللفظ لمسلم - قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبادروا الإمام، إذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قال: {وَلا الضَّالِّين} فقولوا: آمين".

ويقول هذا المنفردُ بصلاته أيضًا، وكذا قارئُ القرآن خارجها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين