الدعاء والبلاء ونصر الله ـ 7 ـ

 
 
 
مجاهد مأمون ديرانية
 
 
اتضح لنا الآن أن الدعاء لا يُستجاب كله حتماً على صورته التي يدعو بها الداعون، فربما استُجيب كما يريده الداعي وربما لم يُستجَبْ، وفي هذه الحالة لا يضيّع الله الدعاء بل يعوّضه للداعي بعِوَض في الدنيا أو بِعَوض في الآخرة. ثم علمنا أن الدعاء المستجاب قد يستجاب لساعته وقد يستجاب بعد أجل، ورأينا أن لتأجيل الإجابة إلى الأجل الموعود فوائدَ وحِكَماً يعلمها الله ويحققها من خلال تأجيل الاستجابة.
 
قد يسألني الآن بعض السائلين: إذن هل نتوقف عن الدعاء بتعجيل النصر؟ هل نترك الدعاء كله؟ سأسأل: ولماذا لا تدعون؟ سيقولون: لأن الدعاء لن يغير شيئاً، فإذا قضى الله بأن لا يُجاب في الدنيا فلن يجاب، وإذا أجّل الإجابة إلى الأجل المعلوم فلن يقدّم الدعاء الأجلَ بعدما سبق به القضاء وسُجِّل في الكتاب المحفوظ. بل ربما قال بعض الناس: لا نريد أن ندعو بتعجيل النصر حتى لا يحرمنا الله فوائد التأجيل وحِكَمه الخفيّة!
 
وجوابي لأولئك السائلين: بل ادعوا يا أيها الناس، ادعوا، فإن الدعاء مفتاح الفرج إن شاء الله. سأقول لكم كيف؛ سأبيّن لماذا يجب أن نستمر بالدعاء، بل لماذا يجب أن نكثّف الدعاء وأن نُخْلص في الدعاء، ولكن اسمحوا لي أولاً أن أقرر حقيقة مهمة:
 
إن الدعاء منحة منحها الله لعباده، بل هي من أعظم المنح وأغلاها، وقيمته في ذاته وفي فعله، سواء أستُجيب له أم لم يُستجَبْ. إنها منحة يعرفها العارفون، ومَن حُرمَها حُرم من خير كبير. إن الإنسان كثيراً ما يأنس في نفسه القوة فيغتَرّ وينسى، فإذا أدركه الضعف أو العجز تذكر وأناب فلم يجد باباً يطرقه إلا باب السماء. ومَن منا لم يعجز قط أو يضعف؟ من لم يألم في جسمه أو نفسه؟ من لم تَضِقْ عليه الدنيا ذات يوم بما رحبت حتى أوشك على الاختناق؟ من لم يصل في يوم من الأيام إلى تلك اللحظة التي ينكشف فيها الغطاء، فيدرك أنه في صعاب الحياة أوهنُ من قشة تعصف بها الريح؟
 
في تلك اللحظة -التي انكشف فيها الغطاء- يبصر المخلوقُ الخالقَ، لا يبصره بعين البصر ولكن بعين البصيرة، ويراه السندَ الوحيد حين يعزّ السندُ والمعينَ حين يُفتقَد المعين، وكم يريح النفسَ المعذَّبة أن تدرك أن الله قريب منها، ليس بينها وبينه إلا أن يُدعى فيسمع الدعاء. أنا لا أتذكر أني دفنت رأسي في صدر أمي وأنا طفل صغير عاجز بحثاً عن الاطمئنان والأمان، ولكنْ لا بد أني فعلت فكل الأطفال يفعلون، ولا بد أني كنت أصغر من أن أتذكر اليومَ تلك الذكرى. وأياً يكن الشعور الذي شعرته يومها فلا بد أنه قبس هزيل من الشعور الذي أشعر به حينما يدركني ضعفي وعجزي -أنا القوي الكبير- فألتجئ إلى ربي بالدعاء المخلص الصادق؛ إني أحس بأعظم ما يحس به مخلوق في دار الخوف والابتلاء، في الحياة الدنيا، أحس بالسكينة والاطمئنان والأمان.
 
ربما كنتُ مريضاً قد أنهكني المرض، وقد لا يخرجني الدعاء من فوره إلى العافية، ولكني إذا دعوت انقلبتُ إلى أمن وسلام. قد تحتويني سجون الظالمين وينزل بي على أيديهم الآثمة العذابُ الأليم، وقد لا ينقذني الدعاء في ساعته من البطش والعذاب، ولكني إذا دعوت حلّت في نفسي السكينة وغشيتني رحمة الله. لن يردّ الدعاء على الثاكل مَيتَه الذي مضى، ولكنه يُشعره بمعيّة الله، يشعره بالرضا والاطمئنان… هذه هي منحة الدعاء. من لم يشعر ذات يوم بهذا الشعور؟ من أدركه فقد أدرك سر الدعاء، ومن لم يدركه فقد فاته خير عظيم.
 
*   *   *
 
بعد تقرير الحقيقة السابقة سأجيب عن السؤال الذي طرحته آنفاً: لماذا ينبغي علينا أن ندعو الله؟ لماذا يجب أن نستمر في الدعاء والابتهال إلى الله بتعجيل النصر وبكشف الغمة ورفع المحنة؟
 
ندعو الله لنعبد الله. نعم، إن الدعاء عبادة، وهي عبادة يستخرجها الله من عباده بإلجائهم إليه إن لم يقدّموها طواعية، ولعل من هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: “تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة”. لقد أمرنا الله في كتابه الكريم بالدعاء، بل إن ترك الدعاء يغضب الله كما يغضبه ترك أي عبادة من العبادات، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من لم يسأل الله يغضب عليه” (أخرجه الترمذي وصححه الألباني).
 
ثم إننا ندعو الله أن يكشف السوء لأنه لا يكشفه إلا هو: {وإن يَمْسَسْك الله بضُرّ فلا كاشفَ له إلا هو}. ندعو لأن الله الذي خلق الوجود ورتّب حوادثه وخلق الخلق وقدّر أقدارهم، الله الذي خلق الكون والناس سبق في علمه ما سيكون إلى آخر الزمن، فسمع دعاء الداعي من قبل أن يكون الداعي بشراً يعيش على الأرض، ولعل الله شاء أن يستجيب الدعاء، فمن أجل ذلك هيأ أسباب استجابته من قبل أن يخلق الكون والخلق أجمعين (ولا شك أن الأسباب يدخل فيها ما يقرّب الأجل المعلوم).
 
نعم، إن الأجل سنّة من سنن الوجود، ولكن مَن أجّل الأجل ومَن قدّر الأقدار التي توصل إليه؟ أليس الله؟ فلماذا لا يزحزح الله الأجل فيقدمه أو يؤخره من قبل أن يكتبه في الكتاب أو من بعد كتابته في الكتاب؟ نحن نعلم أن لكل أجل كتاباً موقوتاً: {لكل أجل كتاب}، ولكن نعلم أيضاً أن الله بيده تعديل الكتاب: {يمحو الله ما يشاء ويُثْبت وعنده أمّ الكتاب}. وهي آية ذهب فيها أهل التفسير مذاهب شتى -ليس شيء منها معتمداً على نقل صحيح- فلم يخرجوا بشيء، فقال بعضهم: كل شيء يتغير بأمر الله إلا الرزق فإنه لا يتغير، وقال آخرون: إلا العمر، وقال غيرهم: إلا الشقاوة والسعادة… لذلك عقّب القرطبي، المفسر العظيم، على تلك الأقوال المتباينة فقال: “مثل هذا لا يُدرَك بالرأي والاجتهاد وإنما يؤخَذ توقيفاً، فإن صحّ فالقول به واجب ويوقَف عنده، وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر والله أعلم”.
 
بقيت مسألة صغيرة لا تقدّم ولا تؤخر: إذا كان الله الذي جعل لكل شيء في هذا الوجود أجَلاً ولكل أجل كتاباً موقوتاً، إذا كان قادراً على تغييره، بل إنه أخبر عن نفسه أنه يغيره فيمحو ويُثبت، فهل كان تعديل الكتاب قبل أن يكون الناس، اعتماداً على علم الله الذي سبق بما هو كائن، أم أن الله يعدّل الكتاب يوماً بعد يوم؟ الذي ورد في المعنى الثاني حديث ضعيف لا يُعتَدّ به، وهو الحديث الذي أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد عن أبي الدرداء: “ينزل الله تبارك وتعالى في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل، فينظر الله في الساعة الأولى منهن في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء” إلى آخر الحديث.
 
هذا الحديث ليس حجة ولا يصلح للاستدلال به لضعفه، والمسألة كلها لا قيمة لها؛ المهم أن الله الذي قدّر الأقدار وأجّل الآجال يمكن أن يغير الآجال وأن يغيّر الأقدار. ولَعمري: لأي شيء يمكن أن يغير الله القدر إن لم يكن استجابةً للدعاء؟ عن ثوبان مولى رسول الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يردّ القدرَ إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البِر” (وهو حديث حسن كما قال الألباني في صحيح الترغيب وصحيح ابن ماجه).
 
نعم، إن المسلم مطالَب بأن يدعو الله وأن يلحّ في الدعاء لتغيير الأقدار ولتغيير الكتاب، وقد رُوي أن عمر رضي الله عنه كان يطوف بالبيت ويقول: “اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحُني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة”.
 
ولذلك كره العلماء دعوة العوام التي يدعونها يقولون فيها: “اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه”. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح الأربعين النووية: هذا دعاء بِدْعي باطل، لأن معناه “افعل ما شئت ولكن خفف”! وهذا غلط، فالإنسان يسأل الله عزّ وجل رفع البلاء نهائياً فيقول مثلاً: اللهم عافني اللهم ارزقني، وما أشبه ذلك. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت” فقولهم: “لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه” أشد.
 
*   *   *
 
ادعوا يا أيها المؤمنون، ادعوا يا أيها الناس، لا تملّوا من الدعاء ولا تيأسوا إن طالت المحنة وتأخرت الإجابة، وإن استبطأتم النصر فاستجلبوه بالتوبة والاستغفار واستعجلوه بالابتهال والدعاء. لقد كان السلف الصالح من هذه الأمة إذا حُبس عنهم قَطْر السماء لجؤوا إلى التوبة والاستغفار، التوبة الحقيقية التي يندم المرء فيها على ما اقترف من ذنب وينقطع عنه ويعزم العزيمةَ الصادقة على أنه لا يعود إليه، ثم يجتمعون في صعيد واحد فيصلّون صلاة الاستسقاء ويَدْعون بأخلص الدعاء، فلا ينصرفون من موقفهم حتى تجود عليهم بالبركات السماءُ ولا يعودون إلا خائضين في الماء.
 
إن الله الذي أجرى السحاب هو الله الذي هزم الأحزاب، وكما يأتي الدعاء بالقَطْر من السماء فكذلك يأتي بالنصر على الأعداء، فاطرقوا الباب وألحّوا بالطرق، وإني لأرجو أن يتنزّل النصر قريباً إن ألححتم بالدعاء وثابرتم على الطاعات وتمسكتم بالتوبة والاستغفار، فإنه ما طُرق باب السماء بمثل هذا الصدق وبكل ذلك الإلحاح إلاّ أوشك أن يُفتَح للطارقين بابُ السماء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين