الدعاء والبلاء ونصر الله ـ 5 ـ

مجاهد مأمون ديرانية

إذا فهمنا قانون “الأجل” الفهمَ الصحيح أدركنا سرّ تأخر استجابة كثير من دعائنا الذي ندعو به في كل يوم، ولعل فهمه سيساعدنا أيضاً على تفسير حديث مهم من أحاديث الدعاء التي قرأناها سابقاً، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “يُستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل”. بل إن فهم هذا القانون الذي اطّرد في كثير من الآيات المُحْكمات في كتاب الله المُبين يفتح للمسلمين فتحاً عظيماً في الحياة، لأنهم سيدركون أن العمل الذي لا يثمر اليوم سيثمر غداً إذا حان أجله، فلا يقطعون العمل يأساً ولا يفقدون الأمل مهما طال الطريق. وهو أيضاً مفتاح لفهم وظيفة العمل في الحياة لأن النتائج تأتي من تراكم أعمال فوق أعمال، فإذا قصّر المسلم فقطع العمل لم يقطف الثمرة.

لقد أثار انتباهي -منذ وقت طويل- التركيزُ الشديد على “قانون الأجل” في القرآن الكريم، سواء في عوالم الأحياء أو الجمادات، فتأملته كثيراً حتى أدركت أنه واحد من أهم قوانين الوجود، فكل شيء في الكون -من الذرات إلى الكواكب والمجرات ومن الأفراد إلى الأمم والجماعات- ينضبط إيقاعُه بانتظام غريب لا يمكن فهمه إلا بوضعه في إطار هذا القانون، ولولا أن أطيل هذه المقالة لأوضحت، على أني أرجو أن يوفقني الله يوماً إلى استكمال بحث في هذه السنّة (القانون) كنت قد بدأت بكتابته قبل الثورة بوقت طويل ولم أتمّه، فمن أحبّني فليَمُنّ عليّ بدعوة بظهر الغيب لعلي أكمله وأنشره بعد الانتصار العظيم لثورة سوريا العظيمة إن شاء الله.

*   *   *

سوف يسأل بعض الناس بمرارة وضيق: فهمنا القانون وعلمنا أنه لا بد منه لعمارة الدنيا، ولكن لماذا يطبقه الله -عزّ وتبارك- على المجرمين؟ لماذا يمدّ لهم ليزدادوا إجراماً؟ لماذا لا يعجّل بأخذهم ويريح منهم الناس؟ لماذا سمح الله لبشار وعصابته بالبقاء ومدّ لهم في آجالهم ليفسدوا في الأرض ويهلكوا العباد ويدمروا البلاد؟

يا أيها المبتلَون الصابرون في أرض الشام: ما أدراكم أن سؤالاً مشابهاً لم تسأله الجماعةُ المسلمة الأولى وهي تعاني ما تعانيه من اضطهاد كفّار قريش؟ وهل ترك الله -تبارك وتعالى- أولئك السائلين بلا جواب؟ اسمعوا الجواب يا عباد الله، فإنها قد تشابهت الأحوال واشتركنا مع تلك الجماعة الأولى في الابتلاء: {ولولا كلمةٌ سبقت من ربك لكان لزاماً وأجلٌ مسمى}.

لكي نفهم هذه الآية يجب أن نلاحظ أن فيها شيئاً من التقديم والتأخير، فالأجل المسمى معطوف على “كلمةٍ سبقت” وهو لذلك مرفوع، ولو كان معطوفاً على “لزاماً” لكان حقه النصب ولقرأنا “لكان لزاماً وأجلاً مسمى”، ومعنى الآية بعد إعادة ترتيب الكلمات: “ولولا كلمةٌ سبقت من ربك وأجلٌ مسمّى لكان لِزاماً”. ما الذي كان لزاماً؟ هنا موضع الشاهد: إنه نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين. أخبرهم ربهم في هذه الآية -وهو أصدقُ مَن أخبر- أنه لولا الأجل المسمى الذي سبق تحديده في لوح القضاء المحفوظ لكان نَصْرهم وتعذيب الكافرين لازماً على الفور وبلا أي تأخير.

قال المفسرون (أو قال أكثرهم) إن الأجل هو يوم بدر، ذلك كان أولَ نصر حققته الجماعة المسلمة. وهذا معناه أن الله يخبر عباده المؤمنين الصادقين الصابرين -من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام- أن عليهم أن يستمروا بالصبر شوطاً آخر قد يطول، وقد طال فعلاً، فإن هذه الآية في سورة طه، وهي مكية باتفاق، أُنزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه لأنه لمّا دخل على أخته فاطمة بنت الخطّاب وخَتَنه (زوج أخته) سعيد بن زيد، كانت عندهما فقرأها فكانت سببَ إسلامه.

لقد نزلت الآية على قوم هم مثلنا اليوم، على قوم مستضعَفين يقاتَلون ويعذَّبون ويَمدّون أياديهم إلى السماء بالدعاء، وإنهم لمن أكرم الخلق ولمن أحب عباد الله إلى الله، ولكن النصر كان ما يزال بعيداً. أسلم عمر قبل الهجرة بخمس سنين، ولنقل إن سورة طه كانت قد نزلت قريباً من ذلك لأنهم كانوا يتعلمونها، ولم يأت النصر الأول في بدر إلا في السنة الثالثة من سنوات الهجرة، وإذن فقد انتظر المستضعفون المعذَّبون سبعَ سنوات أو ثمانياً حتى يأتي الأجل ويتحقق وعد الله اللازم بالنصر.

يا أيها الصابرون على البلاء في أرض الشام: إنكم ترون عبيد الأسد في صفحاتهم كيف يهزؤون بنا وبإلهنا، يقولون: “لو كان ما تقولونه حقاً لما سحقكم ربنا في حمص وفي غير حمص. أين ربكم الذي تزعمون؟” تعالى الله عما يقولون. لقد قالها قبلهم مَن هم أصحابٌ لهم في مدرسة الكفر والعناد، فلم يأخذهم الله أخذاً عزيزاً من فورهم لأن الأجل كان بالمرصاد لهم بعد حين؛ قال فيهم: {أفبعذابنا يستعجلون؟ أرأيت إن متّعناهم سنين، ثم جاءهم ما كانوا يوعَدون؟ ما أغنى عنهم ما كانوا يُمَتَّعون}، وقال: {ولئن أخّرنا عنهم العذاب إلى أمّة معدودة لَيَقولُنّ ما يحبسه؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}.

انتظروا يا عبيد الأسد؛ إن يومكم آت ولو بعد حين. انتظروا، إنا معكم من المنتظرين.

*   *   *

لا ريب أن للتأجيل سبباً ولا بدّ أن فيه حكمة. لو شاء الله لأهلك بشار الأسد وعصابته من الساعة الأولى، ولو شاء لأهلكهم بلا معاناة ولا تضحيات، ولكن كيف سيتم الامتحان عندئذ؟ هل رأيتم قط امتحاناً بلا أسئلة ولا تعب ولا مكابدة؟ نعم، لو شاء الله لأهلك الظالمين وصرف البلاء عن عباده: {ولو يشاء الله لانتصر منهم}، ولكنه لم يفعل. لماذا لم تهلكهم يا رب؟ اقرؤوا تتمة الآية العجيبة: {ولكنْ ليبلُوَ بعضَكم ببعض}. إنه يؤخر هلاك الظالمين لكي يبلوَ بهم عباده المؤمنين، بقتالهم (كما في سبب نزول الآية) أو بغير ذلك، فإن البلاء بالظالمين عام في كل حال.

هنيئاً لكم يا كرام الشام، لقد امتُحنتم فنجحتم في الامتحان، عمّا قليل تعلن النتائج وتحملون “جلاء” الانتصار بإذن الله، ويوم القيامة تحملونه بأيمانكم علامة على النجاح إن شاء الله.

نعم، إن لسنّة الأجل حِكَماً عظيمة يعلمها من يعلمها ويجهلها من يجهلها، ومن تأمل الثورة السورية المباركة أدرك كثيراً من الحِكَم التي ترتبت على “تأجيل النصر”. لو فكرتم بكلمة “التأجيل” لوجدتم أنها مشتقة من “الأجل”، فتأجيل النصر ليس سوى دفعه إلى أجله المحدود في كتاب القدر، وقد ترتبت على هذا التأجيل آلام وتضحيات جِسام، ولكنها ترتبت عليه أيضاً فوائدُ لا تُحصى.

لو تعجل النصر في شهور الثورة الأولى لاكتفى الناس بتغيير جزئي في النظام الحاكم في سوريا، أمَا وقد تطاول إجرام النظام وانتشر حتى شمل أكثر الناس فقد زادت التِّرات والمصائب وتعاظمت الأهداف والمطالب، فلم يعد تجميل النظام سائغاً ولن يقبل الناس بإجراء إصلاحات محدودة في بنائه الخَرِب؛ إن الثوار يزدادون عزيمة وإصراراً على إسقاط النظام كله وإنشاء نظام جديد. وهذه من أبرك بركات تأجيل الانتصار، لأن معناها -بجملة واحدة- أن هذا الجيل سيدفع ثمناً إضافياً ثم ترتاح من بعدُ أجيال وأجيال بإذن الله ذي الجلال والإكرام، ولو تسارع النصر وتقاصرت المحنة لوفر هذا الجيل على نفسه بعض كؤوس المرارة لتتجرعها الأجيال اللاحقة بغير حساب.

ثم إن المعاناة الطويلة غيّرت الناس نحو الأفضل لأن المحنة تصقل الإنسان وتقوّيه. لا، بل لعلّي أستعمل تعبيراً أصدق فأقول إنها أعادت أهل الشام إلى جوهرهم النقي، أزالت قشرة رقيقة من الفحم غلّفهم بها طولُ الاستسلام لظلم النظام وقمعه واستبداده، فإذا هم جواهر من أنقى الجوهر وأغلاه. لقد عرف الناس ربهم وعادوا إليه، وما أعظمَ هذه الثمرةَ وما أبركَها على الثورة. لا تستقلّوا شأنها، فبعد نصف قرن من التجهيل والإفساد وصرف الناس عن ربهم وعن دينهم -تحت الحكم المظلم للبعث والعصابة الأسدية- كان يمكن أن تستغرق رحلة العودة إلى الله عشر سنين أو عشرين، لكن المحنة قصّرت الزمن وأنجزت في الشهور القليلة العصيبة ما يستغرق إنجازه السنوات الطويلة المسترخية. الحمد لله.

في شهور الثورة الأولى علّق الثوار قلوبَهم وآمالهم بدول وأنظمة ومنظمات، ولو أن النصر جاء في تلك الأيام لعبد الناس أميركا من دون الله، ولكن المحنة طالت حتى كشفت الوجهَ القبيح لأميركا كما كشفت الوجه القبيح لروسيا من قبل، فإذا هم في القبح سواء. يا لعظمة هذا الإنجاز الذي حققه طول الأجل، فإن سوريا الحرة يجب أن تعرف العدو وتعرف الصديق، ولو خُدعت الخدعة الخفية اليوم فربما دفعت الثمن عقوداً جديدة من المعاناة. ولم تكن أميركا فقط هي التي كشفها طول الأجل، بل ما أكثر ما كشفت هذه الثورة من دول ورجال، حتى سمّاها من سماها -وهو على حق- بالثورة الكاشفة والثورة الفاضحة. أعظِمْ بها من ثورة عظيمة، بل إنها الأعظم في الثورات.

يا أيها الصابرون على المحنة: إنكم ترون الفوائد والحِكَم التي ترتبت على تأجيل النصر أنّى نظرتم وكيفما التفتّم، فعدّوا ما شئتم ولن تفرغوا من العدّ، ولسوف تحصلون بأنفسكم على جواب السؤال الكبير: لماذا تأخر النصر مع طول الدعاء وشدة البلاء؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين