الدعاء والبلاء ونصر الله ـ 4 ـ

 

 

 

 

مجاهد مأمون ديرانية
 

 
لماذا لا يُستجاب الدعاء من فوره، ولا سيما دعاء المضطر المكروب؟ لماذا لا يتحقق النصر بالدعاء؟ سؤال يلحّ به كثيرون، ولعل أبلغَ ما وصلني تعبيراً عنه رسالةٌ ليست فيها سوى سبع كلمات، أنقلها بنصها: “السلام عليكم. أستاذ مجاهد، لِمَ تأخر النصر؟”
 
قلت سابقاً إن الدعاء المخلص الصادق يمكن أن يصنع أعاجيب ولكنه لا يحقق المعجزات، بمعنى أنه لا يخالف السنن والقوانين الطبيعية. هذه -فيما أحسب- واحدة من أهم القواعد التي نحتاج إلى إدراكها لفهم مسألة الدعاء وفهم السبب في تأخر النصر. هل تبدو مقنعة؟ ربما يوافقني كثيرون ويخالفني البعض، فإن إقناع كل الناس من المحالات. سأكمل مع الذين اقتنعوا بالقاعدة والذين يتساءلون مع المتسائلين: لماذا تأخر النصر؟ وأقول: تأخر النصر لأن الدعاء لا يحقق المعجزات ولا يخالف قوانين الوجود.
 
لنتحدث قليلاً عن قوانين الوجود. الذي يتبادر إلى الذهن غالباً هو قوانين الكون الفيزيائية، كقانون الجاذبية. لقد أدرك الناس على الدوام أن الأشياء تسقط إلى الأسفل إذا بقيت حرةً في الفضاء، ولكنها ليست كذلك، ليس هذا هو “القانون”؛ القانون الذي انتظر طويلاً حتى يكشفه أحد عباقرة الدنيا، نيوتن، يقول إن كل جسمين في الكون يجذب أحدُهما الآخَرَ حسب قانون رياضي صارم (يتجاذب الجسمان بقوة تتناسب طردياً مع حاصل ضرب كتلتيهما وعكسياً مع مربع المسافة بينهما). معنى هذا أن التفاحة المشهورة التي سقطت أمام نيوتن لم تسقط إلى الأسفل بالتعبير العلمي، ولكنها سقطت باتجاه مركز الأرض، وهو قد يكون أسفل أو أعلى حسب الجهة التي يراقب منها مراقبٌ خارجَ الأرض تلك الحادثة. والأغرب من ذلك أن الأرض ليست وحدها التي جذبت التفاحة، لقد جذبت التفاحةُ الأرضَ أيضاً، ولكن لأن كتلتها (كمية المادة فيها) أقل بكثير من كتلة الأرض (كمية المادة في الأرض) فإن جذبها لم يكد يؤثر أدنى أثر.
 
حسناً، لا يهمنا قانون الجاذبية بذاته، ولكن يهمنا أن نقول إن هذا القانون الصارم من قوانين الطبيعة لا يمكن أن يعطّله الدعاء، فلو كنتُ ماشياً في الطريق ومدَدتُ نظري إلى عمارة عالية فتوافقَت لمحتي مع سقوط طفلة صغيرة عن شرفة في الطابق السادس، فلهَج قلبي بالدعاء على الفور: “يا ربّ سلّمْ سلم”. هل يمكن أن ينعكس اتجاه سقوطها فترتفع صُعُداً في الفضاء عائدةً إلى حيث كانت؟ لا، هذه المعجزة تخالف القانون ولا يمكن أن تتحقق حتى مع الدعاء. لكن الدعاء الصادق الخارج من أعماق القلب والواثق بالله قد يحقق أعجوبة من الأعاجيب، قد يهيئ مجموعة من الأسباب غير المتوقعة (ولكنها لا تخالف القوانين) فتنجو الطفلة. وقد عرف جدي رحمه الله -عندما كان قاضي دمشق- حادثة اجتمعت فيها هذه الموافقات الغريبة ورواها في كتابه “صور وخواطر”؛ قال إن ابنة صديق له وقعت عن شرفة في الطبقة السادسة، فتلقّتها حبالُ الغسيل الممدودة أمام الشرفة في الطبقة الخامسة فعاقتها قليلاً قبل أن تنفذ منها إلى حبال الطبقة الرابعة، وما زالت تمر من حبال إلى حبال، حتى إذا بلغت الشارع كانت سَقْطتها على كومة من الرمال صبّتها سيارة صباح ذلك اليوم، فوصلت إلى الأرض بسلام لم يصبها أذى.
 
*   *   *
 
إذا قلت إن الدعاء لا يعطل ولا يخالف قوانين الوجود انصرف الذهن إلى القوانين الفيزيائية، من نوع قانون الجاذبية الذي تحدثت عنه آنفاً، لكن مَن قال إن قوانين الوجود كلها من ذلك النوع؟ أين قوانين الحياة التي تتحكم في التكاثر والوراثة والمرض والشفاء والهرم والموت؟ وقوانين الاقتصاد وقوانين الأنفس والمجتمعات؟ كل هذه العوالم لها قوانين، إلا أن قوانين العالم الفيزيائي “قوانين كمّية” يعبَّر عنها عادة بالمعادلات ذات القِيَم الصارمة والمحدَّدة بدقّة، أما قوانين العوالم الإنسانية، الاقتصادية والنفسية والاجتماعية، فإنها “قوانين وصفية” غير كمية. سأضرب مثلاً بأهم قوانين الاقتصاد، وهو قانون “النُّدْرة”. يقول القانون إن قِيَم المواد تتناسب طردياً مع ندرتها وعكسياً مع وفرتها، فالهواء مثلاً متوفر في كل مكان لذلك فإنه بلا قيمة، مع أنه من أهم المواد اللازمة لاستمرار الحياة، وبعده الماء، وهو متوفر كثيراً وقيمته زهيدة، وهذه من نعم الله على الناس. بالمقابل فإن الألماس من أغلى المواد لأنه من أندرها وجوداً على الأرض.
 
كما تلاحظون فإن قانون الندرة لا يمكن أن نصوغه رياضياً (كمياً)، ولكنه -مع ذلك- قانون حقيقي صارم، وهو الركيزة الأساسية لعلم الاقتصاد، وهو الذي يحكم قِيَم المواد والمنتجات (بالاشتراك مع قوانين أخرى أقل جوهرية ليس هنا محل بيانها). ولكنْ مَن جعل الهواء والماء وفيرَين وجعل الألماس نادراً؟ الذي جعلها كذلك هو خالق الألماس والماء والهواء وخالق الكون بما فيه، وقد جعل ما يحتاج إليه الناس في معاشهم وحياتهم وفيراً وجعل ما لا حاجة لهم به نادراً، فالهواء مجاني، والماء كذلك، إنما ندفع قيمة استخراجه من الأرض وتوصيله إلينا، أما الألماس الغالي فإن غلاءه لا يضر أحداً لأنه من الكماليات، بل إنه -ولا تنقلوا هذا عني للسيدات- من أسخف الكماليات في الدنيا. (وأزيدكم نصيحة: يا ليت سيدات الأمة المسلمة يزهدنَ في الألماس لأن صناعته وتجارته في الدنيا كلها محصورة بأيدي اليهود، وإذا لم تصدقوني فابحثوا بأنفسكم).
 
*   *   *
 
الخلاصة المهمة هي أن الكون محكوم كله بقوانين وضعها فيه الخالق يومَ خَلَقه، منها ما عرفنا ومنها ما لم نعرف، ومنها ما يُعبَّر عنه تعبيراً رياضياً بالكميات والأرقام، وهي قوانين الكون الفيزيائية، ومنها ما يعبَّر عنه بقوانين وصفية غير كمية، وهي قوانين الحياة، العضوية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية. وهل تعلمون؟ إن القرآن مستودع فيه كنز من تلك القوانين، لولا أن يضيق المقام لحدثتكم عنها إلى الصباح، ولكن ليست هذه المقالة هي الموضع المناسب لها. على أني أحتاج إلى قانون واحد على الأقل فاسمحوا لي بأخذه من الكتاب المُبين، فإنه يساعدني على الجواب عن السؤال الكبير: لماذا تأخر النصر؟
 
هذا القانون هو “قانون الأجل”، وهو يَطّرد في القرآن بتركيز عجيب. لا أريد أن أكثر من الشواهد وإنما سأكتفي منها بأقل القليل؛ اقرؤوا قوله تعالى: {وما نؤخّره إلا لأجل معدود}، وقوله: {ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}، وقوله: {إنّ أجَلَ الله إذا جاء لا يؤخَّر لو كنتم تعلمون}، وقوله: {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون}. هذه الآيات تقدّم لنا خلاصة قانون الأجل، وهي “أن الفعل لا يتحقق إلا إذا جاء أوانه المكتوب، وأن زحزحته عن موضعه المحدد في الزمان يخالف القانون”.
 
لولا ذلك لما طالت أعمار الظالمين، ولكن الله يمدّ لهم بانتظار الأجل: {ويستعجلونك بالعذاب، ولولا أجلٌ مسمّىً لجاءهمُ العذاب}، {ولولا كلمة سبقت من ربّك إلى أجل مسمّى لقُضي بينهم}، {وكذلك أخْذُ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة… وما نؤخّره إلا لأجل معدود}، {ولئن أخّرنا عنهم العذابَ إلى أمّة معدودة ليقولُنّ ما يحبسه؟ ألا يومَ يأتيهم ليس مصروفاً عنهم}. وليس هذا الأجل مقتصراً على الجماعة العاصية الظالمة، بل إنه يشمل الجماعة الصالحة أيضاً: {ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمّى}، {يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى}، {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعونِ، يغفرْ لكم من ذنوبكم ويؤخّرْكم إلى أجل مسمى، إنّ أجَلَ الله إذا جاء لا يؤخَّر لو كنتم تعلمون}.
 
إذا فهمنا قانون “الأجل” الفهمَ الصحيح أدركنا سرّ تأخر استجابة كثير من دعائنا الذي ندعو به في كل يوم، وأدركنا أيضاً سبب تأخر النصر في سوريا اليوم، وهذا ما سأبحثه في الحلقة القادمة إن شاء الله.


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين