الدعاء والبلاء ونصر الله ـ 3 ـ

 

 

 

 

مجاهد مأمون ديرانية
 

قلت في الحلقة السابقة أن الدعاء لا يستجاب كله حتماً، بل أقلّه على التحقيق، وهذا أمر يُستدَل عليه بالمنطق وبالمشاهدة كما أوضحت. إذا كان الأمر كذلك فأين نذهب بقول الله تبارك وتعالى ووعده لعباده: {ادعوني أستجب لكم}، وبالآيات الأخرى التي تَعِد الداعين بالاستجابة؟
 
الآن نعود إلى ما قلناه آنفاً عن الصلاة. ألم نتفق على أن الصلاة -وهي عبادة كالدعاء- لا تُفهَم الفهمَ الكامل الصحيح إلا إذا جمعنا ما ورد بشأنها في القرآن والسنّة جميعاً؟ إذا قرأنا آيات الصلاة في القرآن أدركنا أن الصلاة فريضة من أعظم الفرائض وأنها ركن الدين الركين، لكنّا لن نعرف هيئتها وصفتها وشروطها وأوقاتها وعدد ركعاتها إلا من السنّة النبوية الشريفة، والدين يؤخَذ من المصدرين، ألم يقل الله في قرآنه الكريم: {ما آتاكمُ الرسولُ فخُذوه} ويقل النبي عليه الصلاة والسلام: “لا ألفيَنّ أحدَكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه. ألا وإني أوتيت القرآن ومثلَه معه”؟
 
فكما أخذنا جزءاً كبيراً من علمنا بالصلاة من السنّة فإننا أيضاً نأخذ منها جزءاً كبيراً من علمنا بالدعاء. ماذا نجد في السنّة عن إجابة الدعاء؟ باب الدعاء في كتب الحديث كبير كبير، حتى إنه يستغرق في “جامع الأصول” أكثر من مئة وخمسين صفحة، فلا تتوقعوا أن أسرد أحاديثه جميعاً وإلا لتحولت هذه المقالات إلى كتاب عن الدعاء، إنما يهمني بعضها الذي له علاقة بموضوعنا الذي نبحثه، يهمني ما ورد من أحاديث تكمل وتفصل آيات الدعاء وتزيل ما بدا فيها من لبس، فتعالوا نستعرضها معاً.
 
(1) يقول لنا أحد الأحاديث الصحيحة إن الداعي مكلَّف بأن يجتهد في الدعاء، ولكن عليه أن يدرك أن الله يستجيب دعاءه إن شاء، وإن شاء أن لا يستجيب فلن يستجيب. أخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت. وليعزم مسألته؛ إن الله يفعل ما يشاء، لا مُكرِه له”. وفي لفظ مسلم: “فإن الله صانع ما شاء، لا مكرِه له”. الشاهد في قوله: الله يفعل ما يشاء، أو: الله صانع ما شاء، لا مُكرِهَ له.
 
المعنى نفسه نجده في حديث صحيح آخر، حينما وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنواع من الناس يشهدون الجمعة، قال: “يحضر الجمعة ثلاثة نفر”، ذكر منهم: “رجل حضرها بدعاء، فهو رجل دعا الله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه” (رواه عبد الله بن عمرو بن العاص وصححه الألباني في صحيح الترغيب).
 
(2) يخبرنا حديث آخر صحيح أن موافقة بعض الساعات يوجب الإجابة، وبمفهوم المخالفة يَضِح لنا أن عدم موافقتها قد يعني عدم الإجابة أو تأخرها. عن جابر بن عبد الله قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط… ثم ذكر رجلاً من الأنصار لعن بعيراً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من هذا اللاعن بعيرَه؟” قال: أنا يا رسول الله. قال: “انزل عنه، فلا تصحبنا بملعون”. ثم قال صلى الله عليه وسلم (وهنا موضع الشاهد): “لا تَدْعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم” (أخرجه مسلم وأبو داود). فدلّ الحديث على أنها ليست كل ساعة ساعةَ إجابة.
 
(3) الحديثان السابقان يدلان على أن الله ربما استجاب الدعاء وربما لم يستجبه، وعلى أن بعض الأدعية يوافق ساعة إجابة فيُجاب وبعضها لا يوافق الساعة فلا يُجاب. ولكنهما يخالفان -بهذا الفهم- صريحَ القرآن، لأن الله تبارك وتعالى يقول في القرآن: {ادعوني أستجب لكم} ويقول: {أجيب دعوة الدّاعِ إذا دعانِ}، فكيف يتعهد الله بإجابة الدعاء ثم يقول: إن شئت أجبت وإن شئت لم أُجِبْ؟ وكيف يَعِدُ الله بالإجابة مطلقاً ثم نجد أن الدعاء يُجاب في بعض الساعات ولا يُجاب في غيرها؟
 
الجواب في الحديث الآتي الذي أثبتَ الاستجابة وأكّد الآيات المحكمات، ولكنه فصّل أكثر فقال: نعم، الدعاء يُستجاب حتماً، ولكنه قد يستجاب معجَّلاً وقد يستجاب مؤجَّلاً، فإذا كانت في إجابته فسحة فإن التأخر في الإجابة نوع من الإجابة. انظروا إلى هذا المعنى في الحديث الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: “يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يُستجَب لي” (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد ومالك في الموطأ). وفي لفظ مسلم: “لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل”. قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: “يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أرَ يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويَدَع الدعاء”.
 
*   *   *
 
(4) لكن ليس كل الأدعية يحتمل الانتظار. إن لانتصار الثورة في سوريا أجلاً سيأتي بإذن الله، لا يشك في ذلك إلا من يشك في صدق وعد الله، لكنْ حتى ذلك الحين سيموت كثيرون ويعذَّب كثيرون وتُنتهَك حرمات وتُقصَف مدن وتُهدَّم بيوت، ولسوف يدعو الناس بالنصر والفرج كما لا يزالون يدعون منذ حين، فأين يذهب دعاء الناس؟ الجواب في حديث رسول الله عليه صلاة الله. يقول لك يا أيها المحزون: دعاؤك لن يضيع، فإما أن يتحقق في الدنيا ولو بعد حين، أو يتأخر كثيراً حتى يفوت وقته ولا تعود له فائدة، وعندئذ سيأتيك العِوَض في الحياة الباقية، ونِعمَ العوض، وما أحوجَنا يومئذ إليه في تلك الحياة الأخرى.
 
اسمعوا يا عباد الله: “ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجّل له دعوته، أو يدّخر له من الخير مثلها (أي في الآخرة)، أو يصرف عنه من الشر مثلها”. قالوا: يا رسول الله، إذن نكثر؟ قال: “الله أكثر” (الحديث رواه أبو سعيد الخدري وأخرجه الألباني في شرح الطحاوية وقال: صحيح).
 
في هذا الحديث النفيس يشرح لنا نبينا الأكرم -عليه الصلاة والسلام- معنى الاستجابة فنجد أنها على ثلاثة أنواع كلها تسمى إجابة: تحقيق الدعاء بالصورة التي يطلبها الداعي، أو تعويضه في الدنيا بصرف شرّ يكافئ في حجمه الخيرَ الذي دعا به، أو تعويضه بما هو خير منه في الآخرة. فعَدّ التعويض نوعاً من الاستجابة، وبهذا التأويل يكون كل دعاء لكل عبد مسلم مستجاباً حتماً، استجابة معجَّلة أو عِوَضاً مؤجَّلاً.
 
المعنى الذي يقدمه هذا الحديث هو لُبّ الموضوع، وقد رواه عدد من الصحابة بألفاظ متقاربة تؤدي كلها المعنى نفسه، وهذه بعض رواياته الصحيحة: عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل أو كَفّ عنه من السوء مثله، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم” (أخرجه السيوطي في الجامع الصغير وقال: حديث حسن، وتابعه الألباني في صحيح الجامع وصحيح الترمذي). ومثله عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم: “ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله تعالى إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم”. قال رجل من القوم: إذن نكثر. قال: “الله أكثر” (أخرجه الألباني في صحيح الترمذي وفي صحيح الترغيب وقال: حسن صحيح). وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما من رجل يدعو الله بدعاء إلا استُجيب له، فإما أن يعجَّل له في الدنيا، وإما أن يُدّخَر له في الآخرة، وإما أن يكفَّر عنه من ذنوبه بقَدْر ما دعا، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل”. قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعجل؟ قال: “يقول: دعوت ربي فما استجاب لي” (أخرجه الترمذي، قال الألباني: صحيح دون قوله: “وإما أن يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا”).
 
نعم، إن من الأدعية ما لا يُستجاب أبدَ الحياة، ولكن هل معنى هذا أن الداعي خسر دعاءه وأن ما بذله من جهد ووقت في الدعاء ضاع بلا فائدة؟ لا، ولو كُشف الغطاء واطّلع العبد المؤمن على الغيب لفرح بالدعاء الذي لا يستجاب أكثرَ من فرحه بالذي يستجاب منه، لأنه خير مؤجَّل مرحَّل إلى عالم الآخرة، إلى حيث يشتري المرء عذاب الدنيا بطولها من أجل لحظة من لحظات النعيم.
 
(5) ولكن الداعي المكروب الذي يمدّ يديه إلى السماء وهو في أشدّ حالات الضيق والاضطرار لا يريد سوى إجابة الدعاء، وكلما تأخرت الاستجابة طال عليه الكرب وزادت المعاناة. فكيف يمكن إقناع امرئ هذه حالُه بأن في تأخير الاستجابة خيراً؟ الذين يقصف جيش الاحتلال الأسدي في سوريا أحياءهم وقراهم، الذين تستبيح عصابات الأمن والشبيحة بيوتهم وحرماتهم، الذين يُعتقَلون ويعذَّبون ويتساقطون شهداء… هؤلاء كيف لنا أن نُطَمْئن قلوبَهم ونهدئ خواطرهم وهم يدعون دعاء المكروب المضطر فلا يستجاب لهم الدعاء؟
 
انظروا -يا أيها الصابرون على البلاء- إلى هذا الحديث العجيب: يقول نبيكم عليه أفضل الصلاة والسلام: “سَلُوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يُسأل من فضله، وأفضل العبادة انتظار الفرج”. يا الله ما أكرمك! لقد قدّرتَ المقادير وحكمت بتأخير استجابة الدعاء لحكمة أنت أعلم بها، ولكنك لم تبخل على عبادك بالأجر والثواب، بل اعتبرت صبرهم بانتظار فرجك واستجابتك رباطاً وعبادة، بل من أفضل العبادة، وأجريت لهم أجر العابدين وأجر الصابرين. اللهم لك الحمد.
 
*   *   *
لكن لماذا هذا كله؟ لماذا لا يُستجاب الدعاء من فوره، ولا سيما دعاء المضطر المكروب؟ الجواب في الحلقة القادمة وما بعدها إن شاء الله.


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين