الدعاء والبلاء ونصر الله ـ 1 ـ

 
 
 
مجاهد مأمون ديرانية
 
 
تمهيد
 
بدأت بكتابة الموضوع الآتي وليست في ذهني خطة معينة، بل إن كتابته لم تكن من خطتي أصلاً، فقد وصلتني منذ بضعة أشهر أسئلة عن سبب تأخر النصر واستمرار البلاء وعدم استجابة الدعاء، فبدأت أكتب أجوبة مقتضَبة لأفراد طرحوا عليّ الأسئلة، وظننت أن الأجوبة تُغني وأن السائلين قليل، ولكن الاستفسارات صارت تَرِد عليّ جماعات بعدما كانت ترد فُرادى، ثم بدأتُ أجد أمثالها أنّى ذهبت في المنتديات والصفحات، فعلمت أنه سؤال يبحث عن جوابه آلافٌ من الناس وآلاف، بل ربما كان سؤالَ الملايين من المسلمين على التحقيق. ولماذا لا يكون كذلك؟ هل اقتصر البلاء على أهل سوريا، أم أنهم وحدهم الذين يَدْعون الله من دون الناس أجمعين؟
 
فلما وصلت إلى تلك النقطة عزمت على معالجة الموضوع معالجة موسعة، وسألت الله أن يوفقني في كتابته وفي إقناع المتسائلين والمتشككين. لقد استعنت بالدعاء لأكتب عن الدعاء، فلو أني استطعت أن أقنع واحداً من كل اثنين وأن أردّ على قلبه الاطمئنانَ فقد استجاب الله دعائي، ولله الحمد من قبل ومن بعد، عليه توكلت وعليه يتوكل المتوكلون.
 
الموضوع الذي سيأتي في هذه المقالة وما بعدها بدأت بكتابته من نحو شهرين، كتبتُه منجَّماً فقرةً من بعد فقرة، وقد طال حتى استحال جمعه في مقالة، ولو نشرته كاملاً فلن يقرأه إلا الأقلون، فإن من عادة الناس أن ينصرفوا عن المطوّلات وأن يُقبلوا على المختصرات، فمن أجل ذلك قسمته على حلقات، هذه الأولى منها وبعدها سبعٌ تأتي تِباعاً واحدة في كل يوم إن شاء الله. أما الذين يحبون الاختصار ويكتفون بالخُلاصات فما عليهم من بأس ولا حاجة لهم بقراءة الحلقات كلها كاملة، فإني سأنشر في إثرها مقالة تاسعة هي الخلاصة لما في المقالات الثمان بإذن الله، فانتظروها إن شئتم ولا تُتعبوا أنفسكم بقراءة هذه المقالة والسبع التاليات.
 
 
الحلقة الأولى
 
 
ما تزال تصلني منذ عدة أشهر استفسارات يختلف رَصْفُ كلماتها وتتنوع صياغة مفرداتها، ولكنها يمكن أن تُجمَع كلها في هذا السؤال المختصَر: لماذا تأخر النصر؟ ولماذا لا يُستجاب الدعاء؟
 
بل إن بعض الإخوة الكرام أخبروني فَزعين بأن من الناس من بدأ يتسرب إلى قلبه اليأسُ من رحمة الله وبأن فيهم من عصفت بإيمانه عواصفُ الشك، ونقل إليّ أحدهم ما استكبر سماعَه حتى كادت يمينه تعجز عن كتابته، قال إن بعض اليائسين قالوا: لو كان الله موجوداً لما رضي بهذا الظلم والعدوان الفظيع!
 
أرأيتم كم بلغ اليأس بالناس؟ وكيف نردّ على من يقول هذا الكلام؟ سألت الرجل الذي نقله إليّ عن ردّه فقال إنه قاطع قائلَه لأنه عدّه كافراً لا تجوز له معاشرته! لماذا يا أخا الإسلام؟ ومن قال إن معاشرة الكافر لا تجوز؟ ثم لماذا تعجلت بالحكم على قائل ذلك الكلام بالكفر؟ إن الرجل يتأرجح بين اليأس والرجاء وبين الإيمان والجحود، وإن الدفعة الهيّنة إلى هذه الجهة أو تلك لتُرجعه إلى عالَم الإيمان ودار الأمان أو تُرْديه في هوّة الضياع وقرارة الخسران.
 
ليست هذه الأفكار والهواجس جديدة على عقول الناس. إن يكن قالها اليومَ قائلٌ فما أكثرَ ما قالها من قبلُ القائلون! فهل ترون أن قائلها يستحق اللوم والقطيعة؟ أمّا أنا فأتخيله على شفا جرف هار تكاد تنزلق به قدماه إلى هاوية بعيدة القرار، وإني إذن لأوثر أن أمد له يدي فأنتشله إلى الأمان على أن أتركه ينزلق إلى الهاوية. نعم، ما أكثرَ ما قالها من قبل القائلون، ولكنّ أكثر الذين يقولونها إنما يَسْتجدون سامعاً يسمع شكواهم فيُطَمْئن قلوبهم ويستخرجهم من قرارة اليأس والشك والإحباط. إنهم كالمريض المحموم يهذي باحثاً عن الدواء. عاهدوني ‘على أن تمدوا إليهم أيديكم بالدواء، لا تمدوها لتدفعوهم إلى قعر الهاوية.
 
*   *   *
 
كتب إليّ كثيرون يقولون ما معناه: إننا نقرأ في القرآن قول الله تبارك وتعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوةَ الداعِ إذا دعانِ}، فندعو فلا يُستجاب لنا. وإنّا لفي أسوأ حال منذ عام وعلى أعلى درجات الاضطرار، والله يقول: {أمّن يُجيب المضطرَ إذا دعاه ويكشف السوء؟} وإننا ندعو فلا يستجاب الدعاء ولا ينكشف السوء. لماذا؟ لماذا لا يستجاب الدعاء؟ أين الخلل؟ أليس القرآن كتابَ الحق؟ أيمكن أن يَعِدَ الله عباده ثم يُخلف الميعاد؟
 
ثم إني قرأت في صفحات الثورة ومنتدياتها سِجالات طويلة من هذا النوع، فوجدت أن بعض الوعّاظ -من العامة الذين يختلط إخلاصهم بخطئهم- قد تبرعوا بالجواب فنسبوا سبب تأخر استجابة الدعاء إلى تقصير الداعين، فشنّوا على أهل البلاء الذين يجأرون بالدعاء حملة قاسية، فزادوا عليهم المحنة وضاعفوها العددَ من الأضعاف.
 
ولكن هذا ليس أمراً جديداً، فليس الدعاء “ممارسة” جديدة بدأت في سوريا مع الثورة الأخيرة، بل هو ممارسة قديمة عرفها الإنسان من يوم وُجد على الأرض الإنسان. وليس جديداً أيضاً أن الدعاء لا يستجاب كله، بل ربما يصحّ أن أقول إن أكثره لا يستجاب، والذي يستجاب منه قد لا يستجاب إلا بعد الوقت الطويل من الاجتهاد بالدعاء. لماذا إذن قرر القرآن أن الله -عز وتبارك- يستجيب دعاء الداعي إذا دعاه؟ بل لماذا أمر الله عباده أن يَدْعوه فقال: {وقال ربكمُ ادعوني أستجِبْ لكم} وقال: {ادعوا ربكم تضرّعاً وخُفْية}؟
 
 
*   *   *
 
 
يا أيها المؤمنون: إنكم تقرؤون في القرآن أمر الله بالدعاء كما تقرؤون في القرآن أمره بالصلاة. ولقد قلت في الفقرة السابقة إن الدعاء “ممارسة” بشرية قديمة، ألم يعترض أحد منكم على هذا التعبير؟ بلى، كثيرون فعلوا ولا ريب، فإنهم يعلمون أن الدعاء ليس ممارسة كأي سلوك بشري دنيوي؛ إن الدعاء عبادة، بل إنه من أهم العبادات، بل إنه رأس العبادات. لماذا؟ لأنه الدليل على معرفة المخلوق الفطرية بخالقه. إن الصلاة عبادة والصيام عبادة والحج عبادة، ولكنها كلها مما يدلّ المعبودُ عليه العبادَ، أما الدعاء فإنه التوجه الفطري التلقائي من العابد إلى المعبود، وقَلّ أن يضلّ الطريقَ إليه مخلوقٌ لأنه فطرةٌ فُطر عليها الخلق من ساعة الخلق.
 
إذا كان الدعاء عبادة، وهو كذلك، فإن العلم به يأتينا من مصدرين، من القرآن ومن السنّة. أليس كذلك نأخذ الصلاةَ وأكثرَ مسائل الدين؟ لقد ذُكر الدعاء في القرآن كثيراً، عشرات المرات، ولكنه لم يُذكر إلا ذكراً عاماً بلا أية تفاصيل، لا في شروطه ولا هيئته ولا أوقاته ولا أشكال استجابته. والصلاة ذُكرت أيضاً عشرات المرات، وهي تشبه الدعاء تماماً في أنها لم تُذكر إلا الذكر العام، فلم يرد في القرآن شيء من شروطها وصفاتها وأوقاتها وأعداد ركعاتها. فهل يُتّهَم القرآن بالنقص أم يعلم المسلم أن نصوص الصلاة في القرآن والسنّة النبوية يكمل بعضها بعضاً، وأننا لا نعرف الصلاة معرفة حقيقية إلا عندما نجمع ما ورد بشأنها في القرآن والسنّة الصحيحة جميعاً؟
 
ما يقال في الصلاة يقال في الدعاء. لا تَعْجلوا بقراءة بضع آيات وفهمها على ظاهرها مجرّدةً من بيانها وشرحها وتفصيلها، بل ابحثوا عن البيان والتفصيل والتتمة والتكميل في حديث النبي الكريم عليه أتم الصلاة وأفضل التسليم. رافقوني في هذه المقالات إلى نهايتها، وأرجو أن تنجلي المسألة ويزول اللبس إن شاء الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين