الدعاء - الدعاء مخ العبادة

الدعاء ـ 1 ـ

الشيخ : أحمد شريف النعسان

الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
مقدمة الدرس:
فقد عرفنا في الدرس الماضي بأن من آداب الصائم التعجيل بالفطر, وذلك إذا تيقَّن مغيب الشمس, وعرفنا بأن التعجيل بالفطر يجب أن يكون بنية الاتباع حتى ينال الأجر على تعجيله بالفطر, وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات، وإَنمَا لكل امْرِئٍ مَا نَوَى) رواه البخاري, فمن عجَّل بالفطر بدون نية الاقتداء فلا أجر له على تعجيله بالفطر, ومن عجَّل فيه بنية الاقتداء كتب له الأجر على تعجيله بهذه النية.
الدعاء بعد الفطر:
ومن آداب الصائم بعد فطره الدعاء, ودعاؤه مستجاب بإذن الله تعالى, وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ) رواه ابن ماجه.
وهذا من كرم الله عز وجل على خلقه, وقد يسأل أحدنا: لماذا للصائم دعوة لا ترد؟
الجواب: لأنه استجاب لله تعالى عندما أمره بالصيام, وطبعاً هذا من باب الفضل, فالله تعالى هو القائل: {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَان}, فهو سبحانه يحبُّ التبادل بينه وبين خلقه: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}, {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}, {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي}, استجب له يستجبْ لك, وكما قلت هذا من باب الفضل لا من باب العدل.
فالصائم عندما سمع قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} واستجاب له, فالله عز وجل قابل استجابة العبد لأمره باستجابته لدعائه, لذلك قال عقب آيات الصيام: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي}.
فمن هذا المنطلق قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ), فاغتنم هذه الفرصة بالدعاء لله عز وجل, فإنَّ دعاءك مستجابٌ عنده بوعده الذي لا يُخلَف. (وأشركْنا في دعائك يا أخي عند فطرك).
ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتهم:
ويؤكِّد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الإِمَامُ الْعَادِلُ, وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ, وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ).
الصنف الأول: (الإمام العادل):
الصنف الأول من الذين لا تُرَدُّ دعوتهم: (الإمام العادل), ونحن عندما نسمع هذه الكلمة ينصرف ذهننا مباشرة إلى الحُكَّام وهذا صحيح لا غُبار عليه, ولكن ننسى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ, فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ, وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ, وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ, وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ, أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
فما منا إلا وهو راعٍ وإمام في دائرته التي هو فيها, فإما أن تكون دائرتها واسعة إما أن تكون ضيِّقة, وأوسع هذه الدوائر دائرة الإمام الأعلى المسؤول  عن وطنه وأمته, ثم تضيق هذه الدائرة حتى تصبح الدائرة ضيِّقة لا تتسع إلا صاحبها, فيكون مسؤولاً عن نفسه, وهذا المسؤول عن نفسه يجب عليه أن يكون عادلاً مع جوارحه.
الإمام العادل محبوب والجائر مبغوض, هلاَّ فكَّرنا في هذا الكلام جيداً؟! نكره الإمام الجائر ونحبُّ العادل, ولكن لماذا لا نطبِّق هذا على أنفسنا في أسرتنا؟ أين العدل فينا في دائرة الأسرة؟ هل تعدل بين أولادك؟ في القُبلة, وفي المعاملة, وفي العطية؟
روى البيهقي عن أنس رضي الله عنه، أن رجلاً كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء بُنَيٌّ له، فأخذه فقبَّله وأجلسه في حِجره، ثم جاءت بُنَيَّةٌ له، فأخذها وأجلسها إلى جنبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «فما عدلت بينهما». فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال له هذا لأنه لم يسوِّ بينهما في القُبلة والمكان, ولم يرض بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكيف يرضى هذا عندما تعطي من تشاء وتحرم من تشاء من أولادك بدون مبرِّر, إلا أن هذا ذكر وتلك أنثى, وهو صلى الله عليه وسلم يقول لك: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ» رواه البخاري؟
والعطيَّة غير الميراث, الميراث يكون بعد الموت, وهذا تولى الله قسمته فقال: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}. أما في حال الحياة فالعطاء يجب أن يكون بالتساوي بين الذكر والأنثى, أين العدل في نطاق الأسرة؟
روى الطبراني عن الحسن البصري أنه سمع رجلاً يدعو على الحجاج فقال له: لا تفعل, إنكم من أنفسكم أُتيتم, إنما نخاف إن عُزِل الحجاج أو مات أن يتولَّى عليكم القردة والخنازير, فقد روي أن أعمالكم عُمَّالكم, وكما تكونوا يُوَلَّى عليكم.
فكن يا أخي عادلاً إن كنت إماماً في دائرة ضيقة, أم واسعة, فالكلُّ سيسأل يوم القيامة, فمن كان عادلاً كان دعاؤه مستجاباً مهما كان هذا الإمام ومهما كان هذا الراعي, ومن أيِّ دائرة كان.
الصنف الثاني: (والصائم حتى يفطر):
الصنف الثاني من الذين لا تُرَدُّ دعوتهم: الصائم حتى يفطر, وفي هذا الحديث إشارة لطيفة بأن الصائم دعاؤه مستجاب ما دام صائماً, فما دمتَ صائماً فدعاؤك مستجاب بإذن الله تعالى, لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ), لم يقل في هذا الحديث الشريف حين يفطر, بل قال: (حَتَّى يُفْطِرَ).
وهذا من كرم الله عز وجل, فالصائم دعاؤه مستجاب, لأن روحه خفَّت بسبب الصيام والقيام, وصار الصائم القائم قريباً من مولاه, وهذا ما عرفناه من الحديث الشريف الذي رواه البيهقي والطبراني وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فاستقبله شاب من الأنصار يقال له: حارثة بن النعمان، فقال له: «كيف أصبحت يا حارثة»؟ قال: أصبحت مؤمناً حقاً، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظر ما تقول، فإن لكل حق حقيقة , فما حقيقة إيمانك»؟ قال: فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي, وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة كيف يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار كيف يتعادون فيها، فقال: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أبصرت فالزم، مرتين، عبد نوَّر الله الإيمان في قلبه» قال: فنودي يوماً في الخيل: يا خيل الله اركبي، فكان أول فارس ركب، وأول فارس استشهد، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أخبرني عن ابني حارثة، أين هو؟ إن يكن في الجنة لم أبك ولم أحزن، وإن يكن في النار بكيت ما عشت في الدنيا، قال: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أم حارثة، إنها ليست بجنة ولكنها جنان، وحارثة في الفردوس الأعلى»، قال: فانصرفت وهي تضحك وتقول: بخ بخ لك يا حارثة.
الصائم القائم قد يطلعه الله عز وجل على بعض مغيَّباته, ولا غرابة في ذلك, لأن الله عز وجل يجعل من هذا العبد الصائم القائم الذي خفَّت روحه يرى ما لا يراه الناظرون, ويسمع ما لا يسمعه السامعون.
عن عمرو بن الحارث قال: بينما عمر يخطب يوم الجمعة إذ ترك الخطبة فقال: يا سارية الجبل مرتين أو ثلاثاً، ثم أقبل على خطبته، فقال بعض الحاضرين: لقد جُنَّ، إنه لمجنون، فدخل عليه عبد الرحمن بن عوف وكان يطمئن إليه, فقال: إنك لتجعل لهم على نفسك مقالاً، بينا أنت تخطب إذ أنت تصيح: يا سارية الجبل، أي شيء هذا؟ قال: والله إني ما ملكت ذلك! رأيتهم يقاتلون عند جبل يؤتون من بين أيديهم ومن خلفهم, فلم أملك أن قلت: يا سارية الجبل! ليلحقوا بالجبل. فلبثوا إلى أن جاء رسول سارية بكتابه أن القوم لقونا يوم الجمعة فقاتلناهم, حتى إذا حضرت الجمعة سمعنا منادياً ينادي: يا سارية الجبل مرتين، فلحقنا بالجبل، فلم نزل قاهرين لعدونا إلى أن هزمهم الله وقتلهم. فقال أولئك الذين طعنوا عليه: دعوا هذا الرجل، فانه مصنوع له. رواه أبو نعيم في الدلائل.
إذاً الصائم القائم قريب من الله تعالى, وما دام قريباً منه تعالى فإن حوائجه مقضيَّة بإذن الله تعالى, وأنا أضرب مثلاً ولله المثل الأعلى, لو أن إنساناً صار قريباً من ملك من ملوك الدنيا, ألا ترى حوائجه مقضية, وخاصة إذا صار في خلوة مع الملك.
إذا صار في خلوة معه فإنه يستغلُّ ذلك بعرض حوائجه وحوائجه أهله ومن يلوذ به, وأكثرها تُقضى, ولكن قد يتضايق الملك من كثرة الطَّلبات لأنه مخلوق, أما الله تعالى فلا, بل يحبُّ العبد اللحوح فيقضي له حوائجه وحوائج من يسأله.
فاغتنم يا أخي فترة صيامك بكثرة الدعاء, فإن دعاءك مستجاب بإذن الله تعالى, وذلك من خلال بشارة النبي صلى الله عليه وسلم القائل: (وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ), وأشركني في دعاءك وجزاك الله عني خيراً.
الصنف الثالث: (ودعوة المظلوم):
والصنف الثالث من الذين لا تُرَدُّ دعوتهم دعوة المظلوم, فدعوته تُحمَل على الغمام, وتُفتح لها أبواب السماء, ويُقسِم ربُّ العزَّة بأنه ناصر للمظلوم ولو بعد حين, لذلك كن عبد الله المظلوم ولا تكن الظالم, لأن الله تعالى بجانب المظلوم وليس بجانب الظالم, فالظالم خاسر وليس برابح.
ولذلك ربُّنا عز وجل يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلو على الأمة نبأ ابني آدم فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِين * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِين * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِين * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين}.
القاتل هو الخاسر, والمقتول هو الرابح, لأن الله بجانبه, وسوف ينتقم من الظالم, يقول تبارك وتعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَار}.
فيا أيها المظلوم: اصبر ولا تتعجَّل فإن الله أقسم بعزَّته وجلاله أنه ناصرك ما دمت على الحق, وما دمت كاظماً لغيظك, ولا أدلَّ على ذلك من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم, لقد ظلمه المشركون في مكة حتى أخرجوه منها, وقاتلوه وهو في المدينة حتى جاء عام الفتح, وذلك في العام الثامن من الهجرة, يعني مضى على ظلمهم للنبي صلى الله عليه وسلم واحد وعشرون عاماً, دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً, وهؤلاء هم الذين ظلموه, فقال
عفا عنهم لأن قلبه تقي نقي, لا غلَّ فيه ولا إثم ولا حسد, ولماذا الغلُّ والحسد والإثم والله تعالى معه؟
فاعلم يا أيها المظلوم بأن الله معك, وبأن دعوتك مستجابة مع الإمام العادل والصائم, ولا يضيق صدرك فإن الفرَج قريب بإذن الله تعالى.
خاتمة نسأل الله حسنَها:
وأخيراً أقول أيها الإخوة: من آداب الصائم في شهر رمضان الدعاء, ودعاؤه مستجاب بإذن الله تعالى, لأنه استجاب لأمر الله تعالى الذي أمره بالصيام بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}, ووعده باستجابة الدعاء بقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون}.
ومع هذه الآية الكريمة في الدرس القادم إن شاء الله تعالى, اللهمَّ لا تحرمنا خير ما عندك بسوء ما عندنا, وإن كنت لم تقبل تعبنا ونصبنا فلا تحرمنا أجر المصاب على مصيبته. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
ـــــــــــــــــــــــــ

الدعاء ـ 2 ـ

الشيخ : أحمد الشريف النعسان


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
مقدمة الدرس:
فقد عرفنا في الدرس الماضي بأن من آداب الصائم الدعاء, وبأن دعاءه مستجاب ما دام صائماً وعند فطره, وذلك لما رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الإِمَامُ الْعَادِلُ, وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ, وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ, وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ). ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ) رواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
ووقفنا عند قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون}.
وقفة مع هذه الآية الكريمة:
وجدير بنا أيها الإخوة أن نقف مع هذه الآية الكريمة وقفة المتدبِّر لكلام الله عز وجل, وخاصة قد عرفنا بأنها جاءت عقب آيات الصوم, قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون}. والله نرى فيها الرقة والعطف والإيناس وشدة القرب من حضرة مولانا عز وجل.
وعن الصلت بن الحكيم ، عن أبيه ، عن جده رضي الله عنهم، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون}. إذا أمرتهم أن يدعوني فدعوني استجبت لهم) أخرجه ابن جرير وأبو حاتم.
أولاً:فيها إضافة تشريف للخلق:
 قال ربنا عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي}. أضافهم مولانا عز وجل إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم, ما قال: (وإذا سألك العبيد), بل قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي}. هؤلاء الذين تحقَّقوا بالعبودية لله عز وجل, فاختاروا الانقياد لأمر الله تعالى باختيارهم, فتركوا مرادهم لمراد الله, وهواهم لما جاء به الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم , واختيارهم لاختيار الله عز وجل.
وعبوديَّتك لله عز وجل فخرٌ لك, وأما عبوديَّتك لغيره تبارك وتعالى فهل ذلٌّ واحتقار وازدراء لك, لو كان الإنسان عبداً للدينار والدرهم فهو مذموم, ولو كان عبداً لزيد أو عمرو فهو مذموم, لأن الإنسان يكره العبودية لغير الله تعالى, فمن رضي أن يكون عبداً لغير الله فقد ذلَّ نفسه وتعس وانتكس, كما جاء في الحديث الشريف: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ, إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ, تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ) رواه البخاري, فأنت لست عبداً لزوجة ولا لولد ولا لمال ولا لجاه ولا لشهرة ولا لسمعة, أنت عبد لله, وهذا هو عِزُّك وشرفك, لأن عبد الله يأكل من خير سيِّده ومولاه, وأما العبد لغير الله فالسيد هو الذي يأكل خير وجهد عبده.
من منَّا يسأل عن الله تعالى؟ من منَّا يريد أن يتعرَّف على الله تعالى؟ من شقاء العبد أن يدخل الدنيا ويخرج منها ولم يذق أطيب نعيم فيها, وأطيب نعيم فيها هو معرفةُ الله عز وجل, هل سألت عن الله تعالى؟ هل تعرَّفت عليه وعلى أسمائه وصفاته؟
الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل, سألوه لأنه العارف بالله تعالى, فعرَّفهم على الله تعالى, وعندما عرفوا الله عز وجل استقاموا على شريعة الله عز وجل, أما الجاهل بربه والعياذ بالله تعالى فيقع في المعصية دون أن يبالي, وصدق الله القائل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}.
إذاً يجب علينا أن نتعرَّف على الله تعالى, ومعرفته لا تكون إلا عن طريق القرآن العظيم, وعن طريق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صحَّ عنه من الحديث الشريف, لأن هذا أمر عقَدي, والأمر العقَدي لا يكون إلا على أساس من القرآن العظيم والسنة الصحيحة حصراً.
والذي عرف الله تعالى هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأن الله عز وجل هو الذي علَّمه, كما قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}, فنحن نتعرَّف على الله تعالى من خلال هذين المصدرين حصراً, فلا نصف ربنا عز وجل إلا بما وصف به ذاته من صفات وأفعال بدون تشبيه منا ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل, ونقول ما علَّمنا إياه ربُّنا عز وجل في القرآن العظيم: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير}.
ثانياً: لا واسطة بينك وبينه أثناء الدعاء:
 كلُّ سؤال وُجِّه للنبي صلى الله عليه وسلم وذُكر في القرآن, جاء جوابه من الله جلَّت قدرته مصدَّراً بكلمة قل, كما في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}. وقولِه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ}. وقولِه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}. وقولِه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. وهكذا, فكلُّ سؤال كان يُصَدَّر جوابه بقول:{قُلْ}, إلا في هذه الآية الكريمة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}. جاء الجواب مباشرة عليهم منه تبارك وتعالى, فلم يقل له: فقل لهم إني قريب, حتى تعلم أنه لا واسطة بينك وبين الله تعالى في دعائك, فادع الله تعالى باللسان الذي تريد, وباللغة التي تريد, وفي الساعة التي تريد, ادع الله بلسانك, وادع الله عز وجل بحالك, ادع الله تعالى بكلِّ أريحيَّة لأنه ليس بينك وبينه حجاب, فاجعل حوائجك كلَّها على باب مولاك, فهو مولاك وأنت عبده.
ثالثاً: أقرب إليك من حبل الوريد:
يعلِّمك الله تعالى بأن ربك الذي تدعوه هو قريب منك, بل هو أقرب إليك من حبل الوريد, قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}. فإذا كان أقرب إليك من حبل الوريد فناجه بصوت خفيٍّ فإنه يسمعك ويراك.
وهذا القُرب لمصلحتك حيث أنك تناجيه في خلوتك وفي جلوتك, وفي سائر أحوالك, ومع قربه منك فهو حيٌّ قيوم لا تأخذه سِنَة ولا نوم, فناجه في سرِّك وعلانيتك, في ليلك ونهارك, في سائر أحوالك.
لا أحد يستطيع أن يحول بينك وبينه, لأنه معك أينما كنت, وهذا سيدنا يونس عليه السلام ناجاه وهو في ظلمات ثلاث, كما قال تعالى عنه: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين}.
وإذا كان مولاك قريباً منك وهو غنيٌّ عنك, وأنت فقير إليه, وهو يدعوك لأن تسألَه, بل يأمرك أن تسألَه, قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}, فهل يليق بك أن تعصيه وهو أقرب إليك من حبل الوريد؟
بل كيف تجترئ على معصية الله تعالى إذا كنت تعتقد أنه يراك؟ هل رأيت عبداً يخالف حاكماً إذا كان يراه؟ قطعاً لا يجترئ على مخالفته إذا كان يراه, وإذا أراد مخالفته فإنه يخالفه في خفاء عنه, وأنت إذا أردت أن تعصيه فاعصِه في مكان لا يراك فيه.
وإذا كان العبد لا يرى مولاه فإنه يجب عليه أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله تعالى يراه, كما جاء في الحديث الشريف: (الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) رواه البخاري ومسلم.
رابعاً: دعاؤك مستجاب بإذنه تعالى:
يعلِّمك مولاك بأن دعاءك مستجاب, وإياك أن تشكَّ في ذلك, فهو أكرم من أن يرد سؤالك ودعاءك, كما جاء في الحديث الشريف, عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَسْتَحِي أَنْ يَبْسُطَ الْعَبْدُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ يَسْأَلُهُ فِيهما خَيْرًا فَيَرُدَّهُمَا خَائِبَتَيْنِ) رواه أبو داود والترمذي.
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِت ِرضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: (مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِدَعْوَةٍ إِلا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ) رواه الإمام أحمد.
وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلا أُبَالِي, يَا بْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلا أُبَالِي, يَا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً) رواه الترمذي.
فاحذر أن تشكَّ بأن الله لا يستجيب دعاء عبده, لأن الله تعالى أصدق القائلين, قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً}, ومما قاله مولانا عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
فإن لم ترَ استجابةً فالمشكلة عندك حصراً, وهذا مؤكَّد ومحقَّق, واسمع إلى هذا الحديث الشريف الذي يرويه الإمام البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ فَقَالَ: (اسْقِهِ عَسَلاً), ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَالَ: (اسْقِهِ عَسَلاً), ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: (اسْقِهِ عَسَلاً) ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ, فَقَالَ: (صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ, اسْقِهِ عَسَلاً), فَسَقَاهُ فَبَرَأَ.
فإن قال العبد: ما استجاب الله لدعائي, نقول له: كذبت وصدق الله القائل: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ}, فإنه لا يُخلِف الميعاد.
خامساً: حكم الدعاء:
ذهب الفقهاء وجماهير العلماء سَلَفاً وخَلَفاً إلى أن الدعاء مُستحبٌّ, وخاصة بالنسبة للصائم, وبالأخصِّ عند فطره, وهو عبادةٌ لله عز وجل يتقرب بها العبد إلى الله تعالى, لذلك جاء في الحديث الشريف عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ) رواه أحمد. وفي حديث آخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الدُّعَاءِ) رواه الترمذي.
وعن عبد الله بن عمر  رضي الله عنهما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (من فُتِحَ له باب الدُّعاءِ، فُتِحَتْ له أبوابُ الرَّحمةِ، وما سُئِلَ اللهُ شيئاً أحبَّ إليه مِنْ أن يُسألَ العافيةَ) رواه أحمد.
وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدُّعاء يَنْفَعُ مما نَزَلَ ومما لم يَنْزِلْ, ولا يردُّ القضاءَ إلا الدُّعاءُ ، فعليكم عباد الله بالدُّعاء) أخرجه الترمذي.
وعن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض) رواه الحاكم.
والسعيد حقاً من أُلهم الدعاء, فهذا سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: (إني لا أحمل هَمَّ الإجابة، ولكن أحمل هَمَّ الدعاء، فإن ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه).
كلمات عارف بالله عز وجل أدرك أن الله تعالى حين يقدِّر الاستجابة يقدِّر معها الدعاء, فنسأل الله تعالى أن يلهمنا الدعاء, وأن يكرمنا بالإجابة.
احمل همَّ الدعاء:
وكلمة سيدنا عمر رضي الله عنه كلمة رائعة, فإنه لا يحمل همَّ الإجابة, لأن الإجابة من الله تعالى, وهي مُحقَّقة, ولكنَّه يحمل همَّ الدعاء, لأن الدعاء تكليف, والتكليف يجب أن يكون موافقاً لما طلبه المكلِّف, ولأن الدعاء عبادة, والعبادة يجب أن تكون موافقة لما طلبه المعبود, فإذا كان التكليف غير موافق لما طلبه الله تعالى, وكانت العبادة غير موافقة لما طلبه المعبود, فإن العبد يكون قد أتى بالطاعة شكلاً ولم يأت بها حقيقة.
على سبيل المثال: الصلاة, الصلاةُ تكليف ولها ثمرة, وثمرتها أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر, قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}, يصلي الرجل وهو يرتشي, ويصلي وهو يسرق, ويصلي وهو يكذب, ويصلي وهو ينظر إلى النساء, وتصلي المرأة وهي سافرة متبرِّجة, وتصلي وهي عاصية لأمر زوجها في غير معصية الله, هذا العبد صلى وما صلى, كما جاء في الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ, فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى, فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ, وَقَالَ: (ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ), فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى, ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ثَلاثًا, فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي, فَقَالَ: (إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ, ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ, ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا, ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا, ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا, ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا, وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا).
وفي موضوعنا اليوم, نحن ندعو الله لا شك في ذلك, لأنه تكليف لنا, وثمرة الدعاء الاستجابة, وهي على الله تعالى, فنحن لا نحمل همَّ الإجابة, لأنها على الله تعالى, ولكن يجب علينا أن نحمل همَّ الدعاء, فهل ندعو الله تعالى كما أمرنا الله تعالى, وهل حقَّقْنا شروط الدعاء؟ فما هي شروط الدعاء وآدابه؟ هذا موضوع درسنا القادم إن أحيانا الله عز وجل.
أسأل الله تعالى أن يُلهِمَنا الرُّشد في كل أمورنا, وأن يرزقنا الإخلاص مع القبول, إنه خير مسؤول ومأمول. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم, سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

ـــــــــــــــــــ

الدعاء ـ 3 ـ

الشيخ : أحمد الشريف النعسان

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
مقدمة الدرس:
فقد انتهينا في الدرس الماضي بأن من آداب الصائم كثرة الدعاء لله عز وجل ووقفنا عند كلام سيدنا عمر رضي الله عنه: (إني لا أحمل هَمَّ الإجابة، ولكن أحمل هَمَّ الدعاء، فإن ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه).
وقلنا: إنه يجب على العبد المكلَّف أن يحمل همَّ ما كُلِّف به, لا أن يحمل همَّ الجزاء على عمله, التكليف علينا, والأجر وثمرة هذا التكليف على الله تعالى, فلا تنشغل بالجزاء والثمرة, ولكن انشغل بإتقان ما كُلِّفت به.
الدعاء تكليف وعبادة:
يجب علينا أن نعلم أولاً بأن الدعاء عبادة وتكليف من الله تعالى, قال تبارك وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين}.
ففي هذه الآية الكريمة إشارة لطيفة بأن الذي تولَّى تربيتنا هو ربُّنا وربُّ كل شيء, يأمرنا جميعاً بدون استثناء أحد أن ندعوَه في سائر أحوالنا, في المنشط والمكره, وفي الغنى والفقر, وفي العِزِّ والذُّل, وفي الصحة والمرض, وفي السفر والحضر, وعلى سائر الأحوال, ولم يستَثْنِ أحداً من البشر في هذا التكليف. بل وصف ربُّنا عز وجل الصَّفوةَ من البشر الذين جعلهم الله أنبياء ومرسلين بقوله: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين}.
وقال تبارك وتعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين * وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِين}.
وروى أبو داود والترمذي عنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}).
وروى الترمذي كذلك عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ).
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ, فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ).
وروى الطبراني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ فِي الدُّعَاءِ, وَأَبْخَلُ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلامِ).
وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الدُّعَاءِ).
وروى الطبراني عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (لا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلا الدُّعَاءُ).
شروط وآداب الدعاء:
وما دام الدعاء عبادةً وتكليفاً فلا بدَّ من أن نحقِّق شروطه وآدابه, فمن جملة شروط الدعاء وآدابه حتى تُعطى الإجابة:
أولاً: أن يكون رزقك من حلال:
فهذا هو الشرط الأول والأدب الأول لاستجابة الدعاء, فلا بدَّ للداعي من أن يكون مطعمه ومسكنه وملبسه وكلُّ ما معه حلالاً, لما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا, وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}.
ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ, يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ, وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ, وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ, وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ, وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ, فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ).
هذا الحديث الشريف هو أحد الأحاديث التي هي قواعد الإسلام ومباني الإحكام, لأن فيه الحثَّ على الإنفاق من الحلال, والنهي عن الإنفاق من غيره.
وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شُبهة فيه, وأن من أراد الدعاء كان أولى بالاعتناء بذلك من غيره.
وفيه أن العبد قد يطيل السفر في وجوه الطاعات كحجٍّ وعُمرة وزيارة مستحبَّة وصلة رحم وهو يتغذَّى بالحرام, فمن أين يُستجاب لهذا العبد, بل وكيف يُستجاب له؟ وهذا على سبيل الاستبعاد, ولكن يجوز أن يستجيب الله له فضلاً وكرماً, وقد تكون استجابة الدعار له من باب الاستدراج والعياذ بالله تعالى.
كيف يمدُّ العبد يديه إلى الله تعالى بالدعاء, وهو مخالف لأمر الله الذي حرَّم عليه الخبائث وأكل أموال الناس بالباطل؟ بل كيف يستجيب الله تعالى لعبد لا يستجيب هو لأمر الله تعالى؟
إذا عرفنا الشرط الأول من شروط استجابة الدعاء وهو أن يكون الرزق من حلال, عرفنا معنى كلام سيدنا عمر رضي الله عنه عندما قال: (إني لا أحمل هَمَّ الإجابة، ولكن أحمل هَمَّ الدعاء، فإن ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه), نحن قبل هذا كنا نحمل همَّ الإجابة, ونفكِّر هل يستجيب ربُّنا أم لا؟ وهذا من سوء الأدب مع الله تعالى القائل: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
ولكن الآن عرفنا أن الهمَّ يجب أن يكون في الدعاء, فهل نستطيع أن نحقِّق الشرط الأول من شروط الدعاء أم لا؟
لو وضعنا أنفسنا الآن في هذا الميزان لرأيت كم وكم من يتساقط عند الشرط الأول, حيث تجد الكثير الذي لا يبالي بمسألة الرزق, ثم يطول لسانه بعد الدعاء فيقول: لماذا لا يستجيب الله الدعاء؟
هل يفكِّر أحدُنا في مسألة رزقه أن يكون من حلال مشروع لا شُبهة فيه؟ هل يبتعد الواحد منا عن الشبهات حتى لا يقع في الحرام, لأن من وقع في الشبهات وقع في الحرام, كما جاء في الحديث الشريف: (إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ, وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ, فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ, وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ, كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ, أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى, أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ) رواه البخاري ومسلم.
أين الذي يتَّقي الشبهات إذا كان حريصاً على أداء هذه العبادة العظيمة ألا وهي عبادة الدعاء؟
الواقع المشاهد هو انتشار أكل الحرام بدون مبالاة والعياذ بالله تعالى, ولو أردنا أن نعدِّد صور أكل الحرام الصِّرْف الذي وقع فيه الكثير من الناس لضاق الوقت, هذا فضلاً عن الشُّبُهات, ومن صور أكل الحرام الصِّرْف:
أولاً: الرِّبا وبصور متعدِّدة:
أ ـ القروض الربوية الواضحة وضوحاً تاماً في أنها كبيرة من الكبائر, وإن دائرة الربا تتوسَّع بين الأغنياء قبل الفقراء, وهؤلاء يريدون استجابة الدعاء, (فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)؟
ب ـ القروض التي تكون للمزارعين وأصحاب الحليب, وذلك ليقوم المزارع والجبَّان (المستدين) بإنزال مزروعاته ومشتقات الحليب عند الدائن ليبيعها ويأخذ الأجر عليها, والقاعدة الفقهية تقول: (كلُّ قرض جرَّ نفعاً فهو رباً), وهؤلاء يريدون استجابة الدعاء, (فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)؟
ج ـ قاعدة: (ضع وتعجَّل) التي انتشرت انتشاراً واسعاً بين التُّجار في الديون المؤجَّلة, حيث يقول أحدهما للآخر: أضع عنك وتعجَّل في الدَّفع قبل حلول الأجل, أو يقول أحدهما للآخر: كم تضع عني لأتعجَّل في الدفع؟ وهذا باتِّفاق الأئمة الأربعة من أصحاب المذاهب المتَّبعة هو الربا بعينه, وهؤلاء يريدون استجابة الدعاء, (فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)؟
ثانياً: المُقامرة وبصور متعدِّدة:
وما أكثر المقامرة والميسر التي هي من عمل الشيطان, كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}, وصور المقامرة كثيرة جداً منها:
أ ـ عن طريق الهاتف المحمول تأتيك رسالة وتقول لك: اتصل على رقم كذا أو أرسل رسالة فارغة واربح ليرة ذهبية, أليس هذا هو الميسر والمقامرة بحدِّ ذاته؟ وهؤلاء يريدون استجابة الدعاء, (فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)؟
ب ـ عن طريق القسائم التي تكون مع سلعة من السلع, يأخذ المشتري سلعة (ما) ومعها قسيمة ليقام بالسحب عليها, حيث تضرب القرعة بين المشترين لأخذ الجائزة, وهذه القسيمة هي جزء من المبيع, لذلك كانت من الميسر, وهؤلاء يريدون استجابة الدعاء, (فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)؟
ثالثاً: السرقة من الأموال العامة:
وما أكثر صور السرقة من الأموال العامة بحجة أن الدولة ظالمة, وأنها تأخذ أموال الناس بالباطل عن طريق الضرائب, فإذا بالبعض يسرق الكهرباء, والبعض الآخر يسرق الماء, والبعض الآخر يسرق الهاتف, والبعض الآخر يسرق من الخزينة العامة, وهكذا... ونسي هؤلاء السارقون قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا: قَالَ: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ) رواه البخاري. يسرقون الأموال العامة ويريدون استجابة الدعاء, (فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)؟
أما عن أكل أموال الناس بالباطل عن طريق الرشوة, والاختلاس, وشهادة الزور, والأيمان الكاذبة, فحدِّث بدون حرج, وهؤلاء يريدون استجابة الدعاء, (فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)؟
فسيِّدنا عمر رضي الله عنه عندما قال: (إني لا أحمل هَمَّ الإجابة، ولكن أحمل هَمَّ الدعاء، فإن ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه) كان مُحِقّاً في ذلك, لأن الدعاء عبادة, والعبادة يجب أن تكون موافقة للكتاب والسنة بشروطها المذكورة فيهما.
مَثَل رائع من سيدنا عمر رضي الله عنه:
لذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه المثل الرائع في تحرِّي لقمة الحلال, لا في حقِّ نفسه فحسب, بل في حقِّ ذرِّيَّته ورعيَّته, روى الإمام مالك في الموطأ وغيره عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي جَيْشٍ إِلَى الْعِرَاقِ, فَلَمَّا قَفَلا مَرَّا عَلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ, فَرَحَّبَ بِهِمَا وَسَهَّلَ ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَقْدِرُ لَكُمَا عَلَى أَمْرٍ أَنْفَعُكُمَا بِهِ لَفَعَلْتُ, ثُمَّ قَالَ: بَلَى, هَاهُنَا مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ, فَأُسْلِفُكُمَاهُ فَتَبْتَاعَانِ بِهِ مَتَاعًا مِنْ مَتَاعِ الْعِرَاقِ, ثُمَّ تَبِيعَانِهِ بِالْمَدِينَةِ, فَتُؤَدِّيَانِ رَأْسَ الْمَالِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ, وَيَكُونُ الرِّبْحُ لَكُمَا, فَقَالا: وَدِدْنَا ذَلِكَ, فَفَعَلَ, وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا الْمَالَ.
فَلَمَّا قَدِمَا بَاعَا فَأُرْبِحَا, فَلَمَّا دَفَعَا ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ قَالَ: أَكُلُّ الْجَيْشِ أَسْلَفَهُ مِثْلَ مَا أَسْلَفَكُمَا؟ قَالا: لا, فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَسْلَفَكُمَا, أَدِّيَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ.
فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَسَكَتَ, وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا, لَوْ نَقَصَ هَذَا الْمَالُ أَوْ هَلَكَ لَضَمِنَّاهُ, فَقَالَ عُمَرُ: أَدِّيَاهُ, فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ, وَرَاجَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ, فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ عُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, لَوْ جَعَلْتَهُ قِرَاضًا, فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ جَعَلْتُهُ قِرَاضًا, فَأَخَذَ عُمَرُ رَأْسَ الْمَالِ وَنِصْفَ رِبْحِهِ, وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نِصْفَ رِبْحِ الْمَالِ.
كُل ما شِئت فمثله تعمل:
لذلك علماؤنا جزاهم الله تعالى خير الجزاء جعلوا لنا قاعدة فقالوا فيها: (كُلْ ما شئت فمثلَه تعمل), فمن أكل حلالاً وُفِّق للطاعة, ومن أكل الحرام سيقَ للمعصية, وصدق الله القائل: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.
وقد يقول أحدُنا: فلان وفلان يأكل الحرام ويفعل الطاعات, فهو صائم مصلٍّ حاجٌّ معتمر قارئ للقرآن إلى آخر الطاعات, فهو لم يُصرَف عن الطاعات!
نعم قد يفعل آكل الحرام الطاعات, ولكن جميع طاعاته مضروبة في وجهه ولا تكون مقبولة, لأن جسد نبت من سُحت, وكلُّ جسم نبت من سحت فالنار أولى به, فأمثال هؤلاء يقومون بالطاعات رياء وسُمعة والله تعالى أعلم, حتى إذا جاؤوا بهذه الطاعات جعلها الله تعالى يوم القيامة هباءً منثوراً.
هؤلاء الذين غذَّوا أجسادهم بالحرام لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً بسبب الحرام, وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا).
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
تعالوا أيها الإخوة لنعاهد الله تعالى على أن نأكل طيباً ونشرب طيباً ونلبس طيباً ونتغذى طيباً, رجاء أن يقبل الله دعاءنا, اللهم وفِّقنا لذلك يا أرحم الراحمين. ومع تتمة شروط وآداب الدعاء في الدرس القادم إن أحيانا الله عز وجل. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, سبحان ربِّك ربِّ العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

الدعاء ـ 4 ـ


الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
مقدمة الدرس:
فقد ذكرنا في الدرس الماضي قول سيدنا عمر رضي الله عنه: (إني لا أحمل هَمَّ الإجابة، ولكن أحمل هَمَّ الدعاء، فإن ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه), وقلنا بأنه يجب علينا أن نحمل همَّ الدعاء, لأنه عبادة, وكلُّ عبادة حتى تكون مقبولة عند الله ونرى آثارها يجب علينا أن نحقِّق شروطها, وأعظم شرط وأهمُّه هو الرزق الحلال, بحيث يكون المطعم والمشرب والملبس والمسكن من حلال, لا من حرام, واليوم نتابع حديثنا عن شروط وواجبات الدعاء حتى يكون مقبولاً عند الله تعالى ويعطي ثماره لنا في الدنيا والآخرة.
ثانياً: الدعاء في الرخاء قبل الشدائد:
أن يكون دعاؤك في الرخاء قبل الشدائد, وفي العطاء قبل المنع, وفي الرفع قبل الخفض, وفي العزِّ قبل الذُّلِّ, وفي الغنى قبل الفقر, وفي الصحة قبل المرض, وفي الشباب قبل الهرم.
روى الترمذي والحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ فَلْيُكْثِرْ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ). دعاؤك لله عز وجل في الرخاء دليلٌ على تحقُّقك بالفقر لله عز وجل, أما دعاء العبد عند الشدائد والكَرب فقد يكون عبودية لله عز وجل, وقد يكون دعاء عبد مضطر دفعه اضطراره لذلك, ولولا الاضطرار ما دعاه.
ثالثاً: الدعاء بقلب حاضر لا غافل:
إذا أردت استجابة الدعاء فليكن دعاؤك من قلب حاضر مع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين



التعليقات