الدساتير لعبة الربيع العربي

 

• الدستور لا يصنع أمة ، الأمة هي التي تصنع الدستور .

 

الدستور فى الأمم العريقة بالممارسات الديمقراطية يجمع تحت مظلته الوارفة مختلف الأطياف السياسية ، فهو رمز لوحدة الوطن ، وهو الحارس الأمين الذي يكفل استقرار البلاد ، وإعطاء كل مواطن حقه دون تمييز ، أما في بلادنا العربية فمازال الدستور لعبة بأيدي أصحاب السلطان ، فعلى مدى قرن من الزمان تقريباً وجدنا أن أول ما يفكر به الزعيم الذي يأتي إلى السلطة هو تعديل الدستور أو إلغاؤه وتكليف لجنة بصياغة دستور جديد يوافق هوى الزعيم ويحقق مصالحه الشخصية ، ضارباً بالحقوق عرض الحائط ، غير عابئ بالشعب ومصالحه ، وقد كنا نأمل من ربيعنا العربي الراهن أن يخرجنا من حالة التيه الدستوري هذه إلى حالة من الاستقرار كالتي عرفتها الولايات المتحدة مثلاً التي مضى على دستورها زهاء قرنين من الزمان دون أن تفكر بإلغائه أو استبداله بدستور آخر !

ولعل ما جرى في مصر خلال السنتين الماضيتين أكبر دليل على ما نقول ، فحين وصل "الإخوان المسلمون" هناك إلى السلطة بطريقة ديمقراطية حرة سارعوا إلى كتابة دستور جديد بهدف التخلص من عورات دستور العهد البائد ، وعلى الرغم من أن ذلك الدستور حاز على 65% من الأصوات حين جرى الاستفتاء الشعبي عليه فإن خصوم الإخوان لم يترددوا في الانقضاض عليه وعلى شرعية الإخوان ، وأول شيء فعله الانقلابيون بعد الاستيلاء على السلطة هو رفض الدستور الذي صوت عليه الشعب بأغلبية فريدة في تاريخ الدساتير المصرية ، وشكلوا ( لجنة ! ) كلفوها بكتابة دستور جديد يوافق هوى الانقلاب ، فكرروا بهذا الفعل ضد الدستور تلك اللعبة القديمة الجديدة .. لعبة الدساتير .. متجاهلين عن قصد وسابق إصرار وترصد أن الأمم التي تحترم نفسها وتاريخها وضميرها إنما تكتب الدستور للأمة كلها ، لا للمنتصر سياسياً أو انقلابياً ، كما حصل في بلادنا .. ومازال يحصل للأسف الشديد !

ولعل ما يزيد الطين بلة عندنا نحن العرب أن دساتيرنا ــ على علاتها ــ يمكن أن تحقق شيئاً من الاستقرار السياسي والاجتماعي لو أن السلطة الحاكمة احترمتها وطبقتها ، لكن ما رأيناه يحصل في بلادنا حتى اليوم أن الدساتير ليست أكثر من حبر على الورق ، فما أسهل أن يتجاوزها الزعيم حين يجدها لا توافق هواه أو لا تحقق مصالحه الشخصية ، كما حصل مثلاً في سورية عام 2000 حين أرغم النظام الحاكم مجلس الشعب على تعديل الدستور في دقائق معدودات لإضفاء الشرعية على رئاسة بشار الأسد ، ولد حافظ الأسد ، إذ كان عمر هذا "الولد" دون السن القانونية التي تخوله تولي الرئاسة !

يحدث كل هذا اللعب والعبث بالدساتير في الوقت الذي نفخر فيه نحن المسلمين اننا أول أمة وضعت دستوراً مكتوباً في تاريخ السياسة ، هو دستور المدينة المنورة الذي وضعه النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وعرف باسم "الصحيفة" ، وبدل أن نطور ذلك الدستور في سياق التطورات اللاحقة التي طرأت على الدولة الإسلامية بعد انتشار الإسلام في العالم وجدناه يغيب تماماً عن الساحة ولم يعد له ذكر بعد أن تحولت الخلافة الراشدة إلى ملك وراثي عضوض ، وكان علينا أن ننتظر أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان قبل أن نعود للتفكير بوضع دستور ينظم العلاقة بيننا وبين الحاكم ، مستلهمين دساتيرنا الجديدة لا من ذلك الدستور العظيم وإنما من دساتير أوروبا !

وها قد مضى حالنا على هذه الشاكلة نحو قرن من الزمان ونحن مازلنا ندور في دوامة الساتير الجديدة والدساتير المضادة ، وقد شهدت ساحات الربيع العربي صراعاً محموماً في معركة الدساتير ، واتهامات متبادلة بين الواضعين للدساتير الجديدة والمعارضين لها ، وراح كل طيف سياسي يصل إلى الحكم يسارع لصياغة دستور جديد يحقق مصالحه الخاصة ، ويبرر ممارساته ، ويلبي أهواءه ، ويعطيه أوسع مساحة من الصلاحيات ، وبالرغم من أن فكرة الدستور نشأت أصلاً لتحقيق المصلحة العليا للبلاد ، وتجريد الحاكم من سلطته المطلقة .

ومع رفضنا المطلق لمنطق الانقلاب والانقلابيين ، فإننا نرى أن من حق الحزب الذي يصل إلى الحكم بطريقة ديمقراطية نزيهة أن ينفذ برنامجه السياسي الذي انتخبه الشعب على أساسه ، لكن ليس من حقه أن يعيد صياغة الدستور لكي يفصِّله على مقاس حزبه أو عقيدته أو إيديولوجيته أو هواه ، وهذا للأسف الشديد ما عودنا عليه في الماضي كل الذين وصلوا إلى السلطة ، متجاهلين عن سوء نية أن الدساتير لا تكتب عادة من أجل هذا ، وإنما تكتب حفاظاً على ثوابت الأمة ، أو هي تكتب لضمان حقوق من يكتبها عندما تلجئه الظروف للتخلي عن السلطة والانتقال إلى صفوف المعارضة !

هذا ، مع التذكير بأن الأصل في الدساتير الثبات ، فالدستور في العادة لا يلغى ولا يستبدل بدستور آخر ، وإنما يمكن أن تدخل عليه بعض التعديلات عند الضرورة ، وفي أضيق الحدود ، حفاظاً على الاستقرار السياسي في البلاد .

وإذا كان لابد من دستور جديد للبلاد فينبغي أن ينص بوضوح على الفصل بين السلطات الثلاث ( التشريعية ، والقضائية ، والتنفيذية ) وهذا يعني ضمناً إلغاء السلطات المطلقة للرئيس ، وينبغي أن تكون القوانين التي تصدر بعد ذلك متوافقة مع مبادئ الدستور ، وأن لا تتناقض اللوائح التنفيذية لكل قانون مع نصوص القانون نفسه وروحه ، وأن لا تتناقض الإجراءات الخاصة بتنفيذ القانون مع لائحته التنفيذية ، فهذه جملة من أبرز التناقضات التي كثيراً ما يقع فيها التشريع في بلادنا ، ولا ريب بأننا اليوم في أمس الحاجة لمراعاة هذه الضوابط في دساتيرنا ونحن نعيش هذا "الربيع العربي" الذي يشكل نقلة نوعية فريدة في تاريخنا الحديث تعدنا بالانتقال من حالة التخبط الدستوري والاستبداد المزمن إلى آفاق الديمقراطية الحقيقية التي سوف تضع حداً لكل التجاوزات الدستورية التي عانينا منها طويلاً .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين