الدرس العاشر من دروس رمضان : الآثار العميقة للذنوب القلبية حول قصة يوسف عليه السلام
 
العلامة الشيخ يوسف القرضاوي
 
الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على معلم الناس الخير، وهادي البشريَّة إلى الرشد، سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن دَعَا بدعوته، واهتدى بسنَّته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين.
 
معاصي القلوب والأبدان:
فمما قرره العلماء: أن أشدَّ المعاصي خطرا، وأبعدَها أثراً، هي ما سمّوه: (معاصي القلوب).
فالمعاصي نوعان: معاصي أبدان، ومعاصي قلوب. وهي ما يطلق عليها أيضا: معاصي ظاهرة، ومعاصي باطنة. كلها معاصي، وكلها تؤدي إلى الجحيم والعياذ بالله، ولكن الشد خطرا هي معاصي القلوب.
 
فمعاصي الأبدان، مثل: الأكل الحرام، شرب الخمر، الزنا، وهي من كبائر الذنوب ومن الموبقات.
 ولكن الأخطر منها، وهي التي يغفل الناس عنها، ولا يلقون لها بالا، هي معاصي القلوب، والتي سمَّاها الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين): المُهْلِكات. أي: التي تهلك الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة.
 وقد أخذ هذا العنوان من الحديث الشريف، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه". هذه الأشياء الخطيرة، وقد سمعتم الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر، وهو يحدثكم أول أمس، عن قوله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} فالإعجاب بالنفس، كاد أن يؤدي إلى هزيمتهم، ومثله الرياء، والحسد، والبغضاء.
 
من أخطر معاصي القلوب: الحسد:
وقد قال رسول الله: "دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين".
ولذلك رأينا الأسر أبناء الرجل الواحد، يتقاتلون فيما بينهم، من أجل هذه المعصية الباطنة، المعصية القلبية، معصية الحسد.
 
وقد ذكر لنا القرآن قصتين، في ذلك:
الأولى: قصة ابني آدم، والتي ذكرها الله في سورة المائدة، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} فأول جريمة في الأرض كان سببها الحسد، وللأسف كان الحسد من أجل أمر دينيّ، وليس أمراً دنيوياً، فقد قرّبا قربانا إلى الله، فتقبَّل الله قربان أحدهما ونزلت النار لتأكله، ولم يُقبل قربان الثاني. فقال: لأقتلنَّك.
انظروا الظلم والعدوان، حسد أخاه لأنه تُقبل قربانه! ولعلك أنت مرائي أو مخادع بعملك، فلم يُقبل منك، فلماذا تقتله؟!
وكان رد أخيه عليه : {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}
وكانت النتيجة: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الآيات من سورة المائدة:27-30].
 
أصبح من الخاسرين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتل نفس إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها"[1]. يأخذ جزءا من الإثم في هذه الجريمة.
فما يحصل في أفغانستان الآن، وفي فلسطين، وما حصل في الحروب العالمية، ...الخ ملايين القتلى..كل هؤلاء له في دمهم نصيب، لأنه أول من سنَّ القتل.
وهذا نتيجة تلك المعصية القلبية: أن حسد أخاه على ما أتاه الله من فضله.
 
وأما القصة الثانية: فقد استمعنا إليها اليوم في سورة يوسف، حين حسد إخوة يوسف أخاهم بلا ذنب ارتكبه، فقط لأن أباه يحبه! وما ذنب يوسف؟
وقد قال الأعرابي قديما، لما سئل: أي أولادك أحب إليك؟ قال: صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، ومريضهم حتى يُشفى.
وكان يوسف أصغر الإخوة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ماتت أمه، فيستحق العطف؛ لأنه يتيم الأم هو وأخوه الآخر: بنيامين. ومن ناحية ثالثة: آتاه الله حظا من الجمال، والذكاء، ومثل هذا الطفل يجذب الانتباه، فأحبَّ يعقوب يوسف وأخاه أكثر من غيره.
 فماذا قال إخوته: {قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)} من أجل أن نكسب وُدَّ أبينا لا بد أن نغيِّب هذا الذي يشغله عنا تماما.
ولذلك كان من حكمة يعقوب عليه السلام، حينما قصَّ عليه ابنه الصغير يوسف  الرؤيا التي رآها، قال له: { يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)} لأنهم إذا عرفوا هذه الرؤيا، أيقنوا أن هناك مستقبل مبشر لك، فيكيدوا لك {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}؛ لأن الشيطان يقف للإنسان بالمرصاد، حتى لا يريد أن يبقي مودة بين أخ وأخيه، إن استطاع أن يوقدها نارا مشتعلة بين الإخوة لا يدَّخر وسعا، وهذا هو الشيطان.
فيعقوب عليه السلام من أول الأمر، عرف أن الإنسان هو الإنسان. فالله عز وجل وصف الإنسان بقوله: {إنه كان ظلوما جهولا}، وقال: {إن الإنسان لظلوم كفار}، ولذلك أخذ أبو الطيب المتنبي من هذا قوله:
         والظلم من شِيم النفوس فإن تجد       ذا عفَّــة فلعلة لا يظلم
 
من شيم النفوس: أن تظلم، ولذلك حذر يعقوب عليه السلام ابنه من أن يفشي هذه الرؤيا لإخوته، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود"[2].
كان يعقوب عنده امرأتان، ماتت إحداهما، وتركت يوسف وبنيامين، والأخرى عندها عشرة من الأولاد.
حينما رأى هؤلاء العشرة، أباهم يعطي يوسف من الاهتمام والعناية أكثر منهم، حسدوه، وهذا هو شأن الإنسان دائما.
 
درس مهم في التربية:
وهذا يعطينا درساً، أن الأب عليه أن يكون حذراً ويقظاً، ومتنبِّهاً، فلا يعطي العناية لبعض أبنائه ويهمل البعض الآخر، لأن أبناء الأنبياء لم يطيقوا هذا، أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فهم أولاد نبي ابن نبي ابن نبي. بيت من بيوت النبوة العريقة، ومع ذلك أفسدهم هذا الأمر.
 
ولذلك لا يجوز أن يعطي بعض أولاده أكثر من الآخرين، خصوصا إذا كان عنده زوجتان، فيهمل أولاد القديمة، ويهتم بأولاد الجديدة، أو يهتم بالذكور، ويهمل الإناث، أو يهمل الذكور القدامى، ويهتم بالذكر الأخير، (آخر العنقود سكر معقود) كما يقولون. 
لا بد أن يُعنى الأب بهذا، حتى لا يُحدث مشكلة بين أولاده، فالإنسان هو الإنسان ولو كان ابن نبي.
فيعقوب عليه السلام رغم أنه معذور في حبه ليوسف كما قلت لكم، لأنه صغير، ولأنه يتيم... ولكن لم يطق الأولاد هذا، فقالوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} نحن الجماعة، نحن العُزوة، نحن من يزرع ويقلع، ونحرث الأرض، نُهمل، وهذا الولد الصغير، هو الذي يأخذ قلب أبينا! {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)}.
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)}
 
نهج القرآن في ذكر الخير بجانب الشر:
 نهج القرآن دائما- أيها الإخوة-  أن يذكر الخير بجانب الشر، فلا يوجد في الدنيا شرٌّ محض، بل لا بد أن يوجد في خلال الشر شيء من الخير.
 
فكل قصَّة يخرج فيها واحد من أهل الخير، مثل أصحاب الجنة: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ}[القلم:28]. لا بد أن يخرج من بينهم من به بقايا من الخير، لا يمكن أن يكون الناس كلهم أشرارا؛ لأنه لو كان الناس كلهم أشرارا، فلا بد أن تطهرهم السماء حتى لا يبقى على الأرض هذا الشر الكامل.
ولهذا تحرك قلب أحد إخوته، فقال لهم: لماذا نقتله، أليس المهم أن نغيَّبه عن وجه أبينا، ارموه في أحد الآبار القديمة، فيمر عليه أحد المسافرين، ويأخذه أحدهم ويبيعه بعيدا عنكم، ويكون حصل المقصود. وكان هذا اقتراحا طيبا نجى الله به يوسف عليه السلام.
 
تحايل إخوة يوسف على أبيهم:
وظلَّ هذا الحسد الذي يَغْلي في قلوب إخوة يوسف غَلْيَ الماء في القِدْر،  يعمل عمله، حتى تحايلوا على أبيهم: { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)}.
وما زال إخوة يوسف يلحُّون على أبيهم حتى قَبِل أن يأخذوه معهم، ومن استعجالهم على الشر أنهم لم ينتظروا أول مرة، ثم يتخلصوا منه في المرة الثانية، وإنما انتهزوا أول فرصة، فتخلصوا منه، ورموه في البئر.
وأخذوا من كلمة أبيهم: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} معتمدا لهم ومتكئا، ومبرراً لهم في عدم عودة يوسف معهم.
 
دموع التماسيح:
{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}، جاءوه بدموع التماسيح، {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} جاءوا بعنزة فذبحوها، ثم لطخوا القميص من دمائها، وجاءوا يبكون: يقولون: أكله الذئب. ولم يكن القميص ممزقا، فهل خلع الذئب قميص يوسف؟! ولذلك قال لهم يعقوب عليه السلام: إن هذا الذئب لحليم إذ أكل يوسف ولم يخرق ثوبه.
وكما يقولون: لا توجد جريمة كاملة، فكل مجرم لا بدَّ أن يترك أثراً لجريمته، فقال يعقوب عليه السلام: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
 
إخوة يوسف في مصر:
وهؤلاء الإخوة الذين فعلوا في يوسف ما فعلوا أحوجهم الله إليه، ففي وقت الشدَّة والأزمة والمجاعة، السبع السنين العجاف، التي أصابت المنطقة كلها، مصر وما حولها، وكانوا هم في فلسطين، ولم يجدوا مؤونة إلا في مصر.
وكان عزيز مصر في ذلك الوقت هو يوسف عليه السلام، الذي وُكل إليه أن ينفذ الخطة التي أشار إليها حين قصَّ عليه الملك قصة السبع بقرات العجاف والسمان..الخ، فجعله على خزائن الأرض، فكان بيده الزراعة والتموين والماليَّة والتَّخصيص.. وكل هذه الأمور.
جاء إخوة يوسف إليه فعرفهم، ولم يعرفوه، وذلك لطول زمن بُعده عنهم، فقد وضعوه في الجب وهو طفل صغير لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ولما بلغ مبلغ الرجال راودته التي هو في بيتها عن نفسه، ثم سجن فلبث في السجن بضع سنين، ثم بعد ما خرج مكث سنين الخصب السبعة، ثم بدأت سنين العجاف، فجاءوه، وهذا يعني أنه بلغ الأربعين سنة أو قريبا من ذلك، فتغيَّر شكله، ولكنهم لأنهم كانوا كبارا عنه، عرفهم وهم له منكرون.
 
إكرام يوسف لإخوته والتماسه العذر لهم :
أكرم يوسف إخوته، وقال لهم: {ائتوني بأخ لكم من أبيكم..}، ووصلت القصة إلى أن قال لهم أبوهم: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} فقد كانوا يأتون ببضاعة يستبدلون بها ما يحتاجون من الطعام، فقالوا له: جئنا ببضاعة لا قيمة لها. {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}. في قمة الانكسار.
 
فقال لهم يوسف راحما لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} ؟!
ومن كرم يوسف عليه السلام أنه التمس لهم العُذر، فقال: {إذ أنتم جاهلون} يعني أيام الطيش والشباب! فانتبهوا وقالوا: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}.
 
 كيف يتعامل الأخ مع أخيه؟
انظروا إلى الموقف أيها الأحبة، فهو قادر الآن أن ينتقم وأن يأخذ بحقه، ولكنه عفا وتسامح، وغَلبت الأُخُوَّة، والناس يقولون دائما: الدم لا يستحيل ماء.
 نسي يوسف ما أصابه طوال هذه السنين من الكيد والمحن، محنة وراء محنة، فمن محنة الجب إلى محنة البيع، إلى محنة الخدمة في البيوت، إلى محنة مراودة المرأة له عن نفسه، إلى محنة السجن، محن وراء محن، نسي ذلك كله، وقال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}.
 
وحينما جاء أبواه ورفعهما على العرش وخرُّوا له سُجَّدا، قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}. ولم يقل: أخرجني من الجب، حتى لا يحرج إخوته أو يذكرهما بما مضى. {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)}. نسب كل ما حدث بينه وبين إخوته للشيطان.
 
هكذا تكون الأخوة أيها الأحبة، فيوسف عليه السلام ضرب لنا مثلا، كيف يتعامل الأخ مع أخيه، وهكذا يجب أن يتعامل الإخوة بعضهم مع بعض، ليسوا وحوشا يأكل بعضهم بعضا، بل ينبغي أن يتسامحوا بعضهم مع بعض، وأن يتنازل كل منهم لأخيه، وأن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.



[1]- متفق عليه: رواه البخاري في الديات (6867)، ومسلم في القسامة (1677) عن ابن مسعود.

[2]- رواه الطبراني في الكير (20/94)، والبيهقي في الشعب في ترك الغل والحسد (6655)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (943) عن معاذ بن جبل 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين