الدرس السادس والعشرون من دروس رمضان : رحمة الله ومغفرته وسعت كل شيء

 
العلامة الشيخ يوسف القرضاوي
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتَّقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربُّه رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وحبيبنا، وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين.
أما بعد..
 
سرعة مرور الزمان:
فما أسرع ما تمر الأيام، إنها تمرُّ مرَّ السحاب، وخصوصا أيام الخير والفضل والنفحات، مثل أيام رمضان ولياليه المباركة.
فبالأمس القريب كنا نستقبل هذا الشهر، وما أسرع ما مرَّ علينا، وهانحن في الليلة السابعة والعشرين منه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل حظنا منه الرحمة والمغفرة والعتق من النار.

ليلة السابع والعشرين من رمضان:
وهذه الليلة (ليلة السابع والعشرين من رمضان) هي من ليالي العشر الأواخر، التي تلتمس فيها (ليلة القدر)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان"، فهي أرجى ما تكون في هذه العشر الأواخر، وفي الليالي الأوتار منها، وهي الليالي الفردية: (21 ، 23، 25، 27، 29).
والمشكلة - أيها الإخوة- أنَّ المسلمين يختلفون في بدايات الشهور، فنحن الآن في ليلة (27) وبعض بلاد المسلمين هي ليلة (26)، ولذلك فالمطلوب من المسلم الذي يريد أن يخرج من هذا الشهر بمغفرة ورحمة، التماسا للأجر الذي في الحديث: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
 
الوقت هو الحياة :
فلكي يضمن المسلم أنه سيقوم ليلة القدر، فعليه أن يعمل شيئا، وأن ينشط في الليالي العشر كلها، فما أكثر ما نضيع أوقاتنا، وما تضيع إلا في لهو ولغو، لا يفيد في الدنيا ولا في الآخر، وقد وصف الله المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، فالأوقات ثمينة جدًا، ولكن الناس يضيعونها. وبعض الحكماء يقول: الوقت من ذهب، ولكن الأستاذ الإمام حسن البنا رحمه الله، له كلمة يقول فيها: الوقتُ هو الحياة. فالذهب يمكن أن يُعوَّض، وقيمته محدودة، أما الوقت أغلى من الذهب وأغلى من الماس، وأغلى من أي جوهر نفيس، لأن الوقت هو الحياة، والحياة: هي الوقت الذي تقضيه من مهدك إلى لحدك، من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة، من صرخة الوضع إلى أنة النزع. وهذا الوقت هو حياتك، وإذا ضيعت وقتك ضيعتَ حياتك. ولذلك الذين يقولون: تعالوا نقتل الوقت، إنهم يقتلون أنفسهم، ينتحرون وهم لا يشعرون، ولذلك فعلينا أن ننتفع بالوقت، وخصوصاً في الأيام المباركة، التي نتعرض فيها لنفحات الله، كما قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: "ألا إن لله في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها".
وكان أبي بن كعب يحلف بأن ليلة السابع والعشرين هي ليلة القدر، وابن عباس وابن عمر يقولان بذلك أيضا. وخالفهم غيرهم.
فعلينا أن ننتفع بهذه الأوقات في الطاعات، والسيدة عائشة رضي الله عنها قالت: يا نبي الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أقول ؟ قال: "تقولين: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني". فأفضل ما يُطلب من الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. 
وبقي أن نقف وقفة مع بعض ما استمعنا إليه من آي القرآن، في هذه الليلة، وأقف معكم عند قول الله تعالى من سورة النجم:
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}.
الله له هذا الملك (ملك السموات والأرض)، وقد أقامه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)}
 
مجازاة الحسن على إحسانه والمسيء على إساءته:
فمن مقتضى ملك الله عز وجل، ومن مقتضى هذا الملك لهذا الكون: أن يُجزى المحسن على إحسانه، والمسيء بإساءته، وهذا مقتضى ملك الله، وإلا كانت الأمور فوضى، فيقتل القاتل، ويظلم الظالم، ويسرق السارق، وينهب الناهب، ثم ينفض هذا السرادق كله، ولا يأخذ المظلوم مثوبته، ولا الظالم جزاءه.
فيعمل شارون وعصابته السفَّاحون ما يريدون، يقتلون ما يقتلون، ويسفكون ما يسفكون، وتكون نهايتهم والمقتولين واحدة. فهل هذا معقول؟!
إن الله يقول: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:27-28].
 هل من المعقول أن يصبح المتقون كالفجار، والمؤمنين كالكفار، والذين عملوا الصالحات كالذين عملوا السيئات؟! {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُون} [الجاثية:21]. لا يمكن أن يستوي هذا، فأين العدالة الإلهيَّة؟! فمقتضى الملك أن يكون الملك عادلا، ومن مقتضى العدل، أن يأخذ الظالم عقوبة ظلمة، والمظلوم يأخذ مثوبته، وعامل الصالحات يثاب، وعامل السيئات يُجزى بسيئاته. هذا هو مقتضى العدل الإلهي فكان لا بد أن يجزي الله {الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}.
 
منزلة المحسنين عند الله:
إن كل إنسان يحب أن يكون من الذين أحسنوا، يحب أن يكون من المحسنين، لما لهم من منزلة عند الله، فهو سبحانه يحب المحسنين، ويزيد المحسنين، ولا يضيع أجر المحسنين، كما قال تعالى: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58]، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]، {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120]، {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37]، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
 
من هم المحسنون؟
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ }.
للمحسنين مقام عظيم عند الله. فمن هم هؤلاء؟ يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}.
فما أعظم مغفرة الله، وما أوسع أبواب الله، فالمحسنون هؤلاء ليسوا ملائكة مُطهَّرين، ولا أنبياء معصومين، إنهم أناس لهم ذنوب، ولهم معاصي، قد تذل أقدامهم، وقد يتورطون في بعض السيِّئات، لكنهم يجْتنبون كبائر الإثم والفواحش، كما قال الله في سورة الشورى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:36-37].
فهؤلاء المؤمنون المتوكلون هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أما الصغائر فلم يسلم منها أحد، فيرغِّبنا الله في الابتعاد عن الفواحش، والموبقات من الزنى والخمر والسحر والعقوق، وشهادة الزور، وقذف المحصنات..الخ لأن بتركها يغفر الله الصغائر، التي لا يخلو منها أحد، وهذا فضل عظيم من الله عز وجل.
{ إِلَّا اللَّمَمَ }
 
فسَّر العلماء (اللَّمم) بتفسيرين:
التفسير الأول: إما أن يكون صغائر الذنوب، وهي عادة ما تكون مقدِّمات الكبائر، فالزنى – مثلا- من الكبائر، وله مقدِّمات: النظر بشهوة إلى المرأة الأجنبية، أو لمسها.. فتعد هذه من الصغائر، فلو منعت نفسك عن الكبيرة، يغفر الله لك هذه المقدمات، وهذا ما صرَّح به القرآن: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31].
وفي صحيح مسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر"[1]. فابتعد عن هذه المهلكات، وسيغفر الله لك هذه الصغائر بالصلوات والجمع وصيام رمضان إن شاء الله.
 
بل أكثر من ذلك: أن المصائب التي تنزل بالإنسان تكفِّر هذه الصغائر، حتى الشوك يشاكها، يكفِّر الله بها من الخطايا. فجعل الله لك أنهارًا تغتسل فيها، نهرًا بعد نهر، فالصلوات الخمس نهر تغتسل فيه من بعض أوساخك، والجمعة كذلك، والصدقات، والتسبيح، والتهليل، والتكبير، وصلة الرحم، ..الخ، وبعد ذلك: المصائب التي تنزل بك، وعذاب القبر يكفِّر.. وهكذا، ومن لم تطهِّره هذه المُطهِّرات كلها، لا يُطهِّره إلا النَّار، والعياذ بالله، إلا أن يعفو الله عنه.
 
سعة عفو الله تعالى: 
فجانب العفو والرحمة من الله، جانبٌ واسعٌ جدًا، وهو أقوى من جانب العدل، ولذلك جاء في الحديث القُدسي: "إنَّ رحمتي سبقت غضبي"[2]. {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}[الأعراف:156]. ولذلك يجازي الله على السيئة بمثلها أو يعفو، أما الحسنة فبعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، أو يزيد، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:40]. فلا يضع عليك سيئات غيرك، ولا يضيع حسناتك ليأخذها غيرك، بل يعطي الحسنة بعشر أمثالها، وليس هذا فقط، بل {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}.

تغليب بعض الفرق لجانب العدل عند الله على جانب الرحمة:
هذه القضية غفل عنها الخوارج والمعتزلة، ومن لفَّ لفهم، وقالوا: وعيد الله لا بد أن يُنفَّذ، وأنَّ مرتكب الكبيرة خالد في جهنم. فأخرجه الخوارج من الملة، وكفَّروه بكبيرة واحدة. وأما المعتزلة فقالوا: يدخل في جهنم لا يخرج منها، ولكنه في منزلة بين المنزلتين. ولذلك: أنكروا الشفاعة، إلا شفاعة رفعة الدرجات.
 
إنكار مصطفى محمود للشفاعة: 
ووقع في هذا الخطأ، أخونا الدكتور مصطفى محمود، فأنكر الشفاعة في الآخرة، واعتبرها ضربًا من المحسوبيَّة والمحاباة، وليس عند الله محسوبية ولا محاباة. ونسي جانب الرحمة من الله تعالى، غلَّب جانب العدل ونسي جانب الفضل.
 
وأنا أقول له: هذه الشفاعة أشبه بلجان الرأفة، في لجان الامتحانات، فقد يكون الطالب بحاجة إلى درجة أو درجتين لينجح، على شفا حفرة كما يقولون، ويحتاج إلى درجتين أو ثلاثة لينجح، فتقول لجنة الرأفة: أعطوهم له لئلا يعيد هذه السنة. فهذه رأفة البشر للبشر. فكيف والله هو الرؤوف الرحيم، وهو أرحم الراحمين، فلماذا تُنكرون هذا؟

المحسنون ليسوا معصومين من الذنوب:
فالذين أحسنوا هم {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}، أي: ليسوا هم المعصومين من الذنوب، فالله حين وصف المتقين، قال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، يعني هذا أن الشيطان يُمكن أن يمسَّ هؤلاء المتَّقين، ولكن سرعان ما يعودون، ويتوبون،   وتستيقظ ضمائرهم، يمكن أن يقع في الفاحشة والمعصية، كما وصف الله المتقين، في سورة آل عمران: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:133-135]. وهل يفعل المتقون فاحشة؟! نعم.
 
ولذلك لما سئل الجُنيد -وهو المربي الصوفي الكبير-: أيزني الولي؟! فأطرق برأسه إلى الأرض، ثم قال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]، يمكن كل شيء يقع، ولذلك قال الله هذا عن المتقين، والأولياء هم المتقون. {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34].
 
المحسنون لا يستمرؤون المعصية:
فالله يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} ميزة هؤلاء أنهم لا يستمرؤون المعصية، ولا يسيرون في طريقها، فالمعصية ليست خطا أساسيا في حياتهم، وإنما واقعة يقعون فيها: {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فميزة المتقين أنهم لا يصرُّون على المعاصي، ويستدركون على أنفسهم، وسرعان ما يرجعون، ويقرعون أبواب الله، ويقولون ما قال آدم وحواء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
 
هذا هو التفسير الأول لـ(اللمم): أن يكون المقصود به: صغائر الذنوب والسيئات، التي يقع فيها الإنسان، ولا يخلو منها إنسان، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "إن تغفر اللهمَّ تغفر جمّا. وأيُّ عبد لك ما ألمَّا؟!"[3] يا رب إن تغفر، تغفر الجمَّ والكثير من الذنوب، وأيُّ عبد من عبادك لم يلمّ بالذنوب؟
 
أما التفسير الثاني لـ(اللمم): أنه الكبيرة يقع فيها العبد تزل قدمه مرة أو مرتين، فهو رجل مستقيم ولكن تقع له أحيانا، تتعرض له فتنة فينسى نفسه ويضعف، ويتمكن الشيطان منه، فيقع في حُفرة المعصية، ثم سرعان ما يستيقظ، ويستدرك على نفسه، ويرجع إلى ربه، ويتوب إلى الله عز وجل. ويدل عليه –كما مر معنا-قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
 
{إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}
 
فانظروا فضل الله عز وجل، فالذين أحسنوا هم: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} ومن سعة مغفرة الله، أنه أدخل عباده هؤلاء في عباده المحسنين: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} رحمته وسعت كل شيء، فليس هناك ذنب يستعصي على مغفرة الله، مهما كان هذا الذنب، فإذا كان ذنبك عظيما، فإن مغفرة الله أعظم وأوسع، وهو يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
 
{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}
من سعة مغفرته أنه يعلم بضعفكم: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أنتم مخلوقون من طين، والطين لا يخلو من الكدر، ومن ينتظر أن يكون الطين صافيا صفاء البلور، لم يخلقكم من الماس ولا من البلور، ولا من غيرها وإنما من الطين، وما دام الإنسان من الطين، فلا عجب أن ينزع إلى الطين، ويُخلد إلى الأرض، ويرجع إلى أصله، ويقع في المعصية، ولكن المهم أن لا يستمر في طريق المعصية.
ولأن الله أعلم بنا كما قال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} يعرف ضعفنا منذ نشأتنا، وسَّع مغفرته لنا، ورحمته بنا.
فعلينا أن نعرف عظمة هذه المغفرة، وسَعَة هذه الرحمة، لنُقبل على الله عزَّ وجل، إذ ليس معنى هذا أن نقول: رحمته وسعت كل شيء. ثم نسير في طريق المعاصي، وركب الشيطان.
 
بين الخوف والرجاء:
بل يجب أن نذكر قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف:56]، فعلينا أن نكون بين الرجاء والخوف دائما، نحذر الآخرة، ونرجو رحمة ربنا، كهؤلاء الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]، لا نيأس من روح الله، ولا نقنط من رحمة الله، {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف:87]، {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56].
 
نحن نسأل الله تبارك وتعالى، في هذا الشهر الكريم، وفي هذه الليالي المباركة، وفي هذه الليلة العظيمة، أن يغفر لنا ويرحمنا، ويتقبلنا في الصالحين من عبادة، ويتوب علينا توبة نصوحا، ويتم علينا نعمته، وينزل في قلوبنا سكينته، وينشر علينا فضله ورحمته، وينصر إخوتنا المجاهدين في سبيله، ويخذل أعداءنا أعداء الإسلام، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
 
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147] اللهم آمين.
وصلِّ اللهمَّ وسلم على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


[1]- رواه مسلم في الطهارة (233)، واحمد (9197) عن أبي هريرة.
[2]- متفق عليه: رواه البخاري في التوحيد (7553)، ومسلم في التوبة (2751) عن أبي هريرة.
- رواه الترمذي في التفسير (3284)، وقال: حديث حسن صحيح غريب. والحاكم في الإيمان (1/54) وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الجامع (1417) عن ابن عباس.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين