الدرس الرابع والعشرون من دروس رمضان :موقف قريش ومشركي العرب منالرسول والرسالة
العلامة الشيخ يوسف القرضاوي
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
 
ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين. أما بعد..
فنقف هذه الليلة عند ما استمعنا إليه من قول الله تبارك وتعالى من سورة الزخرف:
{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)}
يحدثنا القرآن في هذه الآيات، عن موقف قريش ومشركي العرب من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الرسالة، التي قامت البيِّنات، والدلائل القاطعة على صحَّتها، وأنها من عند الله، ولكن للأسف، هؤلاء الناس غرهم متاع الحياة الدنيا، فما كانوا فيه من متاع، وما كانوا فيه من غنى ومال، ألهاهم عن الحق، وشغلهم عن النظر في حقية هذه الرسالة، ولذلك قال القرآن { بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ(29)} والرسول المبين هو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله بالبينات والهدى.
{وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)}
وموقفهم من الإسلام موقف عجيب جدا، فأحيانا يقولون: سحر، وأحيانا يقولون شعر، وأحيانا يقولون: كهانة، وكلها أباطيل، وأحاديث خرافة، لا تقوم على أيِّ أساس من برهان، أو عقل.
والقرآن يتحدث عنهم في سورة أخرى:{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ[الأنبياء:5]، لا يثبتون على رأي، هو أضغاث، هو افتراء، هو شعر، مرة يقولون عن محمد: هو كاهن، ومرة يقولون: هو شاعر، والله يقول لهم: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الحاقة:41-43].
ففي هذه السورة يحكي الله عنهم قولهم: {هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)}، ثم انتقلوا إلى شيء آخر، {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} فالشك إذا ليس في الرسالة، ولكن في المرسَل إليه، وكأن لا اعتراض لهم على القرآن، وإنما الاعتراض على من أنزل عليه القرآن.
والقريتان هما مكة والمدينة، فالقرآن حين يتحدث عن القرية، لا يقصد بها ما نقصده نحن، فالقرية في مصطلحاتنا هي: البلدة الصغيرة. وفي القرآن: القرية هي المدينة، ولذلك قال سبحانه: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا}[يوسف:82]، وقد كانوا في مصر، في عاصمة مصر. وسمَّى الله مكة أم القرى.
 
{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)}
أي من مكة أو المدينة، وعُنوا بالعظيم الذي قصدوا إليه: الوليد بن المغيرة في مكة، أو عروة بن مسعود الثقفي في المدينة، وهما من ذوي المال والثراء والجاه، فالعظمة عندهم تتمثل في المال والجاه، والمنظر الرائق عند الناس، والعزوة، ووجود الناس حوله. هذه هي العظمة.
والوليد بن المغيرة، هو الذي أنزل الله فيه قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}[المدثر:11-17]. وهو أبو خالد بن الوليد.
 
فهم يريدون رجلا صاحب مال وثراء ومنزلة وجاه.
أما محمد الفقير اليتيم، الذي لا يملك القصور، ولا البساتين، ولا يملك العقارات والأملاك، ولا يملك الدراهم والدنانير، فمن أين له العظمة؟!
وقد أخطأ هؤلاء فهم العظمة حقيقة، فهموا أنَّ عظمة الإنسان في ماله وجاهه، وهذه لا تُكسب الإنسان عظمة، والله يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:124]. ولذلك جعل الله في أنبياء ذوي عُقول ناضجة، وذوي إرادات سابقة، وذوي أخلاق فاضلة، وبهذا يتفاضل الناس، لا بالأموال ولا بالجاه، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55].
 
فليس المال دليل العظمة، ولا الجاه، والمنزلة الاجتماعيَّة، ولا المركز الاجتماعي، كل هذه الأشياء ليست دليلا للعظمة، وإنما تنبع العظمة من النفس البشرية نفسها، فالإنسان العظيم تنبع عظمته من نفسه ومن أخلاقه ومن عقله، ومن علمه، ولذلك وصف الله محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4]، هنا تتجلى العظمة حقا، عظمة في الأخلاق، والرسل جميعا، اختارهم الله من خيار الناس، من أفاضل الناس، ليقوموا بالرسالة.
 
صفات الرسل عليهم السلام:
ولذلك قال العلماء: يشترط في الرسل صفات أربع: الصدق، والأمانة، والتبليغ، والفطانة.
(الصدق، والأمانة) من الناحية الأخلاقية. و(التبليغ): ليكون قادرا على تبليغ دعوته بالفصاحة وحسن التعبير، و(الفطانة): الذكاء وحسن التصرف، ووضع الأمور في مواضعها بحكمة. وهكذا كان الأنبياء جميعا صلوات الله عليهم أجمعين.
 
رسالة الرسول العالميَّة:
ولمحمد صلى الله عليه وسلم النصيب الأوفى، والقِدْح المُعَلَّى، وهذا معقول؛ لأن كل رسول بعث إلى قومه، كما قال الله في كتابه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود:25 ، المؤمنون:23 ، العنكبوت:14]. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:54]، { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]، {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ}[العنكبوت:16]، {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ} [الصافات:123-124].
 
فكل نبي أرسل إلى قومه فقط أما النبي صلى الله عليه وسلم، بعث للعالمين، بعث للناس كافة، كما قال الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف:158]، {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة"[15].
فما دام أن هذا الرسول سيكون مبعوث الله للعالمين، كان لا بد أن يعده الله ويهيئه، لتحمل هذه الرسالة العامة في المكان والعامة في الزمان أيضا، لأنه ليس بعد محمد نبي، ولا بعد القرآن كتاب، ولا بعد الإسلام شريعة، ولا بعد أمة محمد أمة، فهي الأمة الخاتمة والرسالة الخاتمة.
فهذا الرسول الذي أوتي هذه الرسالة العامَّة الخالدة، لا بد أن يمنحه الله من المواهب والقُدر والملكات والطاقات، ما يكافئ هذه الرسالة.
 
ومن هنا كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الناس، وأعظم الناس، في أخلاقه، واستعداداته، وملكاته، ومواهبه، العقليَّة والروحيَّة.
 
تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم وحكمته:
 بعض الناس يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم، هو فقط يوحى إليه. يتصرف بالوحي، وكأنه ليس له شأن. وهذا خطأ، فهو نعم يوحى إليه، لكن له تصرفات واجتهادات، يجتهدها بعقله ورأيه وحكمته، ولذلك وجدنا من المسلمين من يؤلفون في هذه العظمة المحمدية، فالعقاد رحمه الله ألف كتابا سمَّاه (عبقرية محمد)، وأراد أن يقول أن محمدا رسول ونبي يوحى إليه، ومع ذلك هو عبقري من العباقرة في العالم، وذكر عبقرية محمد في أمور حياته كلها، عبقرية محمد الزوج، الأب، المدير، الرئيس، الصديق، القائد، حتى إنه عقد مقارنات بين محمد صلى الله عليه وسلم، وبين نابليون، الذي اشتهر في العالم بقيادته العسكرية، وبعبقرياته وانتصاراته.
 
ووجد أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل في كثير من المجالات من نابليون، مع أن محمدا صلى الله عليه وسلم، قبل أن يخوض هذه الحروب، لم تكن له تجربة بذلك، فلم يحضر حربًا أبدا، إلا وهو صغير، حضر حربا تُسمى (حرب الفِجار) كانت بين قريش وكنانة.
ورأينا حتى من العسكريين، مثل اللواء الركن محمود شيت خطاب العراقي، ألَّف كنابًا سمَّاه: (الرسول القائد)، وألَّف اللواء جمال الدين محفوظ من العسكريين في القاهرة عن عبقريات الرسول في غزواته، وألَّف الكثيرون عن جوانب العظمة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنك إن أردت التحدث عن الرسول القائد، أو الرسول الداعية، أو الرسول المعلم، أو الرسول الأب، أو الرسول القاضي، أو الرسول الرئيس أو السياسي..ستجد أنه صلى الله عليه وسلم هو القمة في كل ناحية.
وأحد الغربيين ألَّف عن المائة العظماء في التاريخ، وجعل الأول هو محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنه ليس مسلما، لكنه حينما قاس بمقاييسه البشرية، التي يُقاس بها العُظماء، فوجد أن محمدًا هو الأول في عظماء التاريخ.
 
مقاييس العظمة في الإسلام:
ولكن هؤلاء المساكين، الذين قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)}، نظروا إلى مسألة واحدة فقط، هي المال والجاه، إنما الإسلام لا ينظر إلى عظمة الناس بالمال، ولا بالجاه، ولا بالأجسام الضخمة، وفي الحديث الصحيح: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة"، وقال: "اقرءوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا[لكهف:105ٍ]. قال الله عن بعض المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] فالمسألة ليست بالأجساد.
فعبد الله بن مسعود كان من عظماء الصحابة، ومن أئمة العلم والهدى، ولكنه كان نحيفا نحيلا، صعد شجرة يوما ليأتي لرسول الله بسواك من أراك، وكان في ساقيه دقة، فضحك القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يضحككم من دقة ساقيه، والذي نفسي بيده إنهما أثقل في الميزان من أحد"[16]. فليست العظمة إذا بهذه الأشياء التي نظر إليها العرب.
وقد رد الله عليهم بقوله:
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}
هل أعطى الله هؤلاء الرحمة، ليقسموها بين العباد، ويختاروا من يستحق، ومن لا يستحق؟!
إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يُقسم رحمته كيف يشاء، فهو العليم بحال عباده، فالله يقول: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} أهؤلاء الذين اصطفاهم الله ليكونوا من أهل الإيمان، فالله يرد عليهم: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [العنكبوت:10]. فهم لن يقسموا الرحمة، فالله هو الذي يقسم الرحمة، ويقسم المعيشة بين الناس، اعتبروا أمور المعيشة هي أساس كل شيء، والله يقول:
{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}
 
الحياة مصنع كبير:
حينما قسم الله الأرزاق، والأموال، لم يُعط الرزق حسب الأموال، ولا حسب الأخلاق، ولا حسب الفضائل، وإنما قسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، لتستقيم الحياة، التي لا بد أن يكون فيها رفيع وخفيض، وكبير وصغير، ورئيس ومرؤوس، ومهندس وعامل، فالحياة أشبه بمصنع كبير، لا بد أن يكون فيه مدير عام، وتحته مديرين أقسام، مديرين إدارات، ورؤساء أقسام، ومهندسين، وعمال درجة أولى، وعمال درجة ثانية، وخفراء وكناسين..ولا يستقيم أمر هذا المصنع إلا بهؤلاء جميعا، فالكناس مطلوب في المصنع، مثل رئيس المصنع ومديره العام، والعامل، ..الخ، ولهذا يقول الله:
{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}
لكي يسخر كل واحد من تحته، يكون له عليه حق الأمر والطاعة، حتى تنتظم أمور الحياة، وهناك مثل يقول: ( إذا كنتُ أنا أمير، وأنت أمير** فمن يسوق الحَمير؟!).. لا بد أن تُساق الحمير، وتحمل الأثقال، ولا بد لها من سائق.
 
فالحياة بحاجة إلى أمير، وإلى سائق الحمير، وليس معنى هذا أن الأمير أفضل من سائق الحمير، فلعل سائق الحمير أفضل عند الله من أعظم أمير، فالأمور ليست بالمهن، ولا بالحرف، ولا بالأموال، فرسول الله يقول: "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"[17].
 
وفي الحديث الصحيح عند البخاري، أن رجلا مرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا"[18].
 
هذا الذي تحتقرونه لفقره، وقلة ماله، هو خير عند الله من ملء الأرض مثل هذا.
فبهذا يُقاس الناس، لا بما له من رصيد، كم مليون.. أو كم قصر من القُصور، أو كم عنده من الخدم والحشم، أو كم وراءه ممن يطوف به ويلوذ به، وكم .. وكم
ولهذا ختم الله الآية بقوله تعالى:
 
{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)}
ما عند الله من رحمة وفضل، هو خير ما تحرص عليه، كما قال تعالى في آية أخرى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:58].
أسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعلنا في هذا الشهر الكريم من عتقائه من النار، ومن المقبولين، وصل اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته



[1]- رواه مسلم في الزكاة (1015)، وأحمد (8348)، والترمذي في تفسير القرآن (2989) عن أبي هريرة.
[2]- رواه الطبراني في المعجم الكبير (6/310)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1812) عن ابن عباس.
[3]- رواه أبو نعيم في الحلية (8/156)، من حديث  معاذ بن جبل.
[4]- رواه مسلم في الجهاد (1763)، وأحمد (208)، والترمذي في التفسير (3081) عن عمر بن الخطاب.
[5]- جامع بيان العلم وفضله (2/12-13).
[6]- رواه البخاري في البيوع (2083)، وأحمد (9620)، والدارمي في البيوع (2536) عن أبي هريرة.
[7]- رواه البخاري في (4686)، والنسائي في الكبرى (6/365)، عن أبي موسى.
[8]- متفق عليه: رواه البخاري في الدعوات (6340)، ومسلم في الدعاء (2735) كما رواه أحمد (10312) عن أبي هريرة.
[9]- رواه أحمد (18352) وقال مخرجوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين. وأبو داود في سجود القرآن (1479)، والترمذي في تفسير القرآن (2969) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه في الدعاء (3828)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3407)عن النعمان بن بشير.
[10]- رواه أحمد (11133) وقال مخرجوه: إسناده جيد. والبخاري في الأدب المفرد في الأذكار (710)، والحاكم في الدعاء (1/493) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وصححه الألباني في الأدب المفرد.
[11]- رواه  الترمذي (2065) وقال حديث حسن صحيح . وابن ماجه (3437) كلاهما في الطب. والحاكم في الإيمان (32) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ثم لم يخرجاه. ووافقه الذهبي. ، وضعفه الألباني في سنن الترمذي.
[12]- رواه مسلم في البر والصلة (2577)، وأحمد (21420)، عن أبي ذر.
[13]- رواه مسلم في الصلاة (482)، وأحمد (9461) عن أبي هريرة.
[14]- رواه الحاكم في الصوم (1/422)، وقال: إسحاق هذا إن كان ابن عبد الله مولى زائدة، فقد خرج عنه مسلم ، وإن كان ابن أبي فروة فإنهما لم يخرجاه. وابن ماجه في الصيام (1753)، وصحح البوصيري إسناده في زوائد ابن ماجة (636)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1965) عن عبد الله بن عمرو بن العاص
[15]-  رواه البخاري في الصلاة (438)، والنسائي في الغسل والتيمم (432) عن جابر بن عبد الله.
[16]- رواه أحمد (3991)، وقال مخرجوه: صحيح لغيره. والحاكم في معرفة الصحابة (5385) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وابن حبان في مناقب الصحابة (7069)، والطبراني في الكبير (9/78)، و صححه الألباني في الصحيحة (3192) عن ابن مسعود.
[17]- رواه مسلم في البر والصلة (2622)، والحاكم في الرقاق (7931) عن أبي هريرة.

[18]- رواه البُخاري في النكاح (5091)، وابن ماجه في الزهد (4120)، عن سهل بن سعد الساعدي  

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين