الدرس الرابع عشر من دروس رمضان : صور من النماذج البشرية في سورة الكهف

 
العلامة الشيخ يوسف القرضاوي
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربه رحمةً للعالمين، وحجَّة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157] ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين. أما بعد..
 
فيا أيها الإخوة والأخوات:
سلكنا من شهر رمضان نصفه، وبدأنا النصف الثاني، وهكذا تنقضي الأيام سراعاً، تمرُّ مرَّ السَّحاب، وكلها من أعمارنا، كما قال الشاعر:
 
يسرُّ المرء ما ذهب الليالي*** وكان ذهابهن له ذهابا
 
كل ليلة تذهب هي صفحة تطوى من عمرك، والسعيد من طويت صفحاته، وهي مليئة بالخير والصالحات، والشقيُّ من لم يكن كذلك، ونسأل الله سبحانه أن يجعلنا من السعداء، وأن يجعل يومنا خيرا من أمسنا، ويجعل غدنا خيرا من يومنا.
 
كان بعض السلف يقول: من كان يومه كأمسه فهو مغبون، ومن كان يومه شرا من أمسه فهو ملعون. فالذي يستوي يومه مع أمسه مغبون لأنه لا يتقدَّم، كالتاجر الذي لا يربح، يوشك أن يضيع رأس ماله، أما الذي يكون يومه شرا من أمسه فهذا ملعون والعياذ بالله، لأنه ينحدر ويهوي إلى الأسفل، فالواجب على المسلم أن يحاول ليكون يومه خيرا من أمسه، وغده خيرا من يومه، ولهذا ندعو دائما: اللهمَّ اجعل يومنا خيراً من أمسنا، واجعل غدنا خيراً من يومنا.
 
في وقفتنا اليوم مع القرآن، وقد ختمنا سورة الكهف، وسورة الكهف مليئة بالنماذج البشريَّة، ممَّا يقدمه القرآن للناس دائما، أن يقدم لهم المعاني والقيم، والمفاهيم والفضائل والرذائل، في نماذج بشريَّة، مجَّسمة متحرِّكة، حتى يحسّها الناس، فالناس لا تتعامل مع النظريات التجريديَّة، مع الفلسفة المجرَّدة، وإنما تتعامل مع الوقائع المحسوسة الملموسة، ولهذا يحرص القرآن الكريم أن يقدم لنا هذه النماذج في قصصه، فالقصص ليس المقصود بها التسلية، وإنما كل قصة بها عبرة، {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} يجسد لك في كل قصة، معنى من المعاني، ونموذج من النماذج.
وإذا رأينا وتأملنا في سورة الكهف، وجدنا فيها عددا من النماذج البشرية، ودعونا ننظر في هذه النماذج خلال هذه الجلسة.
 
نموذج فتية أهل الكهف:
نموذج الشباب حينما يؤمن ويستقر الإيمان في قلبه، ويصبح الإيمان قضيته الأولى، وفي هذه الحالة، لا يبالي ما يصيبه من أذى، وما يناله من لأواء، ويقدِّم عنقه وروحه، فداء لعقيدته. هؤلاء هم فتية أهل الكهف.
 
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} هذه الأدلة المزعومة يعبدونها بلا أدلة ولا براهين {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)}.
 
عناية القرآن بالعبر والمعاني لا بالأماكن والأسماء:
هذا النموذج من الشباب يحدثنا عنه القرآن، وتجده لا يهتم بالتفاصيل التاريخية، فالقرآن ليس كتاب تاريخ، ولذلك لم يذكر لنا من هم هؤلاء الشباب؟ وما هي أسماؤهم، وفي أي عصر كانوا، وفي أي زمن كانوا، وفي أي بلد كانوا؟ وما أعدادهم؟
وقد ذكرت الاسرائليات أسماءهم، وعددهم، ولكن القرآن لم يهتم لهذا، حتى احتار البعض في أي بلد كان هذا الكهف! قالوا في الأردن، وقالوا في سوريا، وقالوا في تركيا، وفي كل هذه الأماكن قبور يقال عنها لأصحاب الكهف، والقرآن لم يهتم بذلك.
 
ولكن القرآن لم يذكر هذا، وقد اهتم بذكر الكلب الذي كان معهم، بل كرَّر ذكره أكثر من مرة، فقال: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}، وقال: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وكأن الكلب أصبح واحدا منهم، لأنهم هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، ولو كان كلبا، فالكلب دخل التاريخ لصحبته أهل الإيمان، فيذكره الله عدَّة مرات في كتابه الخالد.
أما عددهم، فقد اختلفوا فيه، والله قال: { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)} لا تتعمَّق في الجدل في هذه القضية، فإنها لا تستحق، ليعلقنا بالمعاني أكثر ما يعلقنا بالأسماء، أسماء الأماكن، أسماء الأشخاص، وأعدادهم ، وتواريخهم..الخ، فالقرآن لم يهتم بهذا، إنما اهتم بالعبرة.
 
نموذج صاحب الجنتين:
بعد أن ذكر الله لنا في هذه السورة نموذج أصحاب الكهف، ذكر لنا نموذجا آخر، نموذج الغني الفاجر، الغني الذي لا يشكر نعمة الله عليه، صاحب الجنتين، فقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} جنات وأنهار، وزرع وخضرة، ومع ذلك لم يشكر نعمة الله بل طغى وتكبر، كما قال الله: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7].
 
يقول الله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا(38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا(41)} وقد كان، فقد أهلك الله هذه الجنة، وأصبح هذا الرجل -كما قال القرآن-:{يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)}
وقد يسأل أحد الناس: من هو هذا الرجل؟ وفي أيِّ بلد كان؟ وفي أيِّ عصر؟ وما اسمه؟ القرآن لم يهتم بهذا، لأنه أراد بهذه القصة، أن يوصل لنا نموذجا للغنيِّ الذي لا يعدُّ المال نعمة من الله عليه، وأنه مستخلف فيه، وأنه أمانة في عنقه، وأن عليه أن يؤدي شكر هذه النعمة، وحق هذا المال، ويعترف لربه بما أتاه، ويقول ما قاله سليمان عليه السلام: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}[النمل:40].
 
نموذج الراحل في طلب العلم:
ذكرت لنا سورة الكهف نموذجا آخر، نموذج الراحل في طلب العلم، وقد أوتي علما كثيرا، ولكن العلم بحر لا شاطئ له، ولا يشبع منه أحد، هذا النموذج هو: موسى عليه السلام، أحد الرسل الكبار، من أولى العزم من الرسل، والذي جمعهم الله في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7]، {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] هؤلاء الخمسة هم أولو العزم.
 
فموسى عليه السلام الذي آتاه الله التوراة، وكلمه تكليما، واصطفاه برسالاته، وبكلامه، ومع هذا أراد أن يطلب العلم، حينما عرف من الله تعالى أن هناك عبدا عنده من العلم ما ليس عند موسى عليه السلام، فلم يجمع أحد العلم كلَّه، ولكنه لما عرف أن هذا الرجل يعرف من العلم ما ليس عند موسى، وعرف مكانه، أخذ فتاه ورحل.
 
كان هذا المكان هو مجمع البحرين: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)} أين هو مجمع البحرين؟ لا نعلم. بعض العلماء قال: ما بين خليج العقبة وخليج السويس؛ لأن موسى عليه السلام كان في صحراء سيناء، فمن المعقول أن يكون مجمع البحرين، هي نقطة التقاء خليج العقبة مع خليج السويس. وعلى كل حال فلم يهتم القرآن بهذا، ولا يهمه تلك التفاصيل الجغرافية والتاريخية.
 
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)} يبدو أنهم يسيرون على أقدامهم، فتعبوا وأنهكت قواهم.
 { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)} ما اسم العبد، لم يذكر ذلك القرآن، ولكن جاءت بعض الروايات الصحيحة تثبت أن اسمه الخضر، ولم يهتم القرآن أيضا بذكر العبد الذي كان مع موسى؛ لأن القرآن يهتم دائما بالعبرة من القصة. القرآن يهتم برؤوس العبر، والمسلمون للأسف يجعلون أكثر اهتمامهم بالتفاصيل.
 
أدب طالب العلم:
قابل موسى عليه السلام هذا الرجل، وقال له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)}، وانظروا إلى هذا الأدب النبوي العظيم، فلم يقل: أرافقك، ولا أصاحبك، وإنما قال له {أَتَّبِعُكَ} أكون تابعا لك، لأني سأتعلم منك، وما دمت سأتعلم منك، فأنت سيدي وأنا تابع لك. وهذا يظهر مدى الأدب وحسن الخلق والتواضع عند موسى عليه السلام.
 
فرد عليه الخضر: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)} الإنسان عادة لا يستطيع الصبر على الشيء الذي لا يعرف اسمه وأصله، وحكايته.
 فردَّ موسى عليه السلام: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)} واتفقا على ذلك.
لم يصبر موسى عليه السلام، وهو يرى العجائب الذي يفعلها هذا الرجل، من خرق للسفينة، وقتل للغلام، وبناء الجدار، ولكن الله هو الذي أرسله إليه، فلا بد أن وراء هذه الأفعال حكمة، كما قال له في نهاية القصة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي بوحي من الله. ولذلك فالقول الصحيح أن هذا العبد ( الخضر) نبيٌّ من الأنبياء.
 
كان موسى عليه السلام يعترض ويسأل في كل مرة: {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}
{قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}
{قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}.
وكان الخضر يرد عليه، فقال في المرة الأولى: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)}.
 وفي الثانية: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)}.
 وفي الثالثة: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ..(78)}
 
هل نتَّبع الحقيقة أم نتَّبع الشريعة؟
وهناك مسألة خاض فيها الكثير: هل نتبع الحقيقة أم نتبع الشريعة؟ والحق أننا نتبع الشريعة، فلو حصل مثلا أن ادَّعى أحد الناس أنه من الأولياء، وقتل شخصا، أو خرق سفينة، ماذا يكون موقفنا؟ موقف موسى أم موقف الخضر؟ لا شك: أننا سنقف موقف موسى، ونسأل: لماذا خرقتها؟ ولماذا قتلت هذا؟ لا بد أن ننكر. وهذا موقف الشريعة، فإن الخضر قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، ولا يمكن لشخص بعد محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا، فإن الوحي انقطع بموته صلى الله عليه وسلم. فموقفنا موقف موسوي، وأي شيء نراه مخالفا للشرع لا بد أن ننكر عليه، ولا يوجد أحد يدَّعي أنه فوق الشرع، أو أن له شرعا خاصا به؛ لأنه لا يوجد أحد له شرع بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
 
نموذج الحاكم العادل:
والنموذج الأخير في سورة الكهف، هو نموذج الحاكم العادل، والذي يتمثل في ذي القرنين: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)}
من هو ذي القرنين؟ القرآن لم يخبرنا بهذا.
البعض قال: إنه الاسكندر المقدوني، ولكن هذا أيها الإخوة لم يكن مؤمنا، بل كان وثنيا، ولما دخل مصر سجد لإله المصريين في ذلك الوقت (رع أو آمون رع). ولم يُعرف عنه أنه كان من المؤمنين.
ومنهم من قال أنه من أذواء اليمن، من ذي يزن، الخ
وهناك أقوال أخرى..
 
وأكثر الأقوال قبولا وأرجحها عندي: هو ما انتهى إليه العلامة الهندي (مولانا أبو الكلام آزاد) وهو من كبار علماء الهند، كتب بحثا من أعظم ما كتب عن شخصية ذي القرنين في القرآن، وقال: هو (قورش) الملك الفارسي، الذي احتفل شاه إيران في نهاية حياته، بمناسبة مرور 25 قرنا على وفاة (قورش).
و(قورش) ذكر في التوراة، وهذا ما جعل اليهود يسألون النبي عنه، كما قال الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ.. والظاهر: أن اليهود هم الذي سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، عن ذلك وعن الروح...وغيرها.
 
فذكر أبو الكلام أن له من الفتوح شرقا وغربا، وأتى بصورة تمثال له في إيران، وله جناحان، وقرنان، ليبيِّن أن كلمة (القرنين) لها أصل.
 
وذكر عن قبائل يأجوج ومأجوج أنها قبائل هناك في بلاد الشرق، وأنها قبائل همجية..الخ
العبرة هنا: أن الله ذكر لنا في القرآن نموذج الحاكم العادل، فرغم أنه وصل مغرب الشمس، ووصل مطلع الشمس، وآتاه الله من كل شيء سببا، ومكَّن له في الأرض، وخضعت له الأمم، ومع هذا كله، لم ينس ربَّه عزَّ وجل، فكان مؤمنا، يقول: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ..} {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ..}.
 
إثابة المحسن ومعاقبة المسيء:
وكان رجلا عادلا، يثيب المحسن، ويعاقب المسيء، وهذه سنة الله في الكون، والحاكم العادل، الذي يثيب من أحسن، ويعاقب من أساء، لأن الناس إذا أمِنوا العقوبة اساؤوا الأدب، وأساؤوا التصرف.
أما أن تترك الناس، فلا تشكر المحسن، والمسيء تتركه، وإذا كان له واسطة أو قريب يدفع عنه، لا يستطيع أحد ان يكلمه! فهذا هو سبب الفساد.
أما ذو القرنين، فقالوا له: { يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}.
 
تعاون الحاكم مع الشعب:
وعندما جاءه جيران يأجوج ومأجوج: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)} من الشعوب المستضعفة، والتي تريد أن تدفع مالا، وتترك غيرها ليدفع عنها، فقالوا له: {نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ولكن ذو القرنين أراد أن يرتفع بمستوى هؤلاء القوم، الذين يريدون أن يدفعوا خرجا ليدفع عنهم غيرهم، فقال لهم: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي: ما يقدرني الله على فعله سأفعله، {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} اعملوا معي، أعينوني، ولهذا قيل: إذا تعاون الحاكم مع الشعب، كانت بلاده قوة هائلة.
 
 ومشكلة الحكام أنهم لا يتعاونون مع الشعوب، لا يستعينون بقوى الشعوب، والشعوب عندها قوة مذخورة، تحتاج إلى من يحركها ويستثيرها، ويستفيد منها: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} اجمعوا لي قطع الحديد القديمة (الخردة)، {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أي: بين الجبلين {قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)} أعطوني نحاسا مذابا لأصبَّه على هذا الحديد المُذاب ليزداد قوةً وصلابةً، وأقام هذا السدَّ العظيم بالتعاون بينه وبين الشعب، دون أن يأخذ منهم خرجا أو شيئا من ذلك. {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)}.
 
إرجاع الفضل لله عز وجل:
ولما أقام هذا السد قال: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)} وهذه صفة الإنسان المؤمن، إذا آتاه الله نعمة، ومنَّ عليه بشيء كبير، يُرجع الفضل إلى الله، مثل سليمان عليه السلام، حين جاءه عرش ملكة سبأ في لمح البصر: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40].
 
هذا نموذج رابع ذكرته آيات سورة الكهف، وعلينا أن نستفيد من هذه النماذج القرآنيَّة، في فهم هذا الكتاب العظيم، الذي أورثنا الله إيَّاه، عسى أن نكون من أهل القرآن، وعسى أن يشفع لنا القرآن، ويشفع لنا رمضان، فالقرآن والصيام يشفعان للعبد يوم القيامة، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم[1].
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا ممن صام رمضان وقامه إيمانا واحتسابا فغُفر له ما تقدم من ذنبه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


[1]- إشارة إلى الحديث: " " الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه"، قال: "فيشفعان". والحديث: رواه أحمد (6626)، وقال مخرجوه: إسناده ضعيف. والحاكم في فضائل القرآن (1/ 554) وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3882) عن ابن عمرو.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين