الدرس الخامس عشر من دروس رمضان : قصة آدم أبي البشر من سورة طه

العلامة الشيخ يوسف القرضاوي
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين.
خير ما أحييكم به أيها الإخوة والأخوات تحية الإسلام، تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،أما بعد:
 
هل (طه) اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فقد فرغنا الليلة من سورة طه، وما معنى طه؟ لأن بعض الناس فهم أن (طه) هو اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنهم فهموا أن (يس) كذلك اسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا نجد كثيرا من المسلمين، يسمّون أبناءهم (طه) و(يس)، ولماذا لا تسمون (حم) و(طس)، لماذا اخترتم (طه) و(يس) وتركتم غيرها؟!
والحق -أيها الإخوة- أن (طه) و (يس) حروف مقطَّعة، مثل (الم)، (الر) (طس)..الخ، وكلها حروف مقطعة تشير إلى إعجاز القرآن، وأن القرآن مكون من مثل هذه الحروف، القرآن الذي أعجزكم أيها العرب مكوَّن من (الم) و (حم) و(طس) و(ق) و(ن)..الخ، لا يخرج عن الحروف التي تتكلمون بها، فكيف أعجزكم؟ فعليكم أن تتأملوا في هذا..
 
ولذلك فغالبا ما يأتي ذكر القرآن بعد هذه الحروف، {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1-2]، {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1-2]، {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1-2].
فهذا معنى (طه) أحببتُ أن أنبِّه أن التسمية بـ (طه) و(يس) غير مستحبة، وكأنك تسمِّي شخصا بحرفين، ولذلك بعض الإخوة كان اسمه (طه) ولما عرف هذه الحقيقة، ذهب وغيَّر اسمه، وسمى نفسه: (عبد الله).
 
سورة طه سورة الكليم :
وسورة طه أيها الإخوة من السور المكيَّة، وكان بعض السلف يسمِّيها: سورة الكليم؛ وهو موسى عليه السلام؛ لأنها تحدثت عن قصة موسى من أول ما وُلد، وفترات من حياته طويلة، وسبَحت في هذه القصة سبْحا طويلاً، والعجيب أن موسى عليه السلام، هو أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن، وقصته أخذت من القرآن مساحة واسعة، حتى قال بعض المفسرين: كاد القرآن يكون لموسى وبني إسرائيل. ومع هذا لم توجد سورة تسمى باسم موسى.
يوجد في القرآن سور بأسماء الأنبياء، مثل: يونس وهود ويوسف وإبراهيم ونوح.. ولكن لم توجد سورة تسمى باسم موسى عليه السلام، فبعض السلف كان يسمي سورة طه باسم الكليم.
 
قصة آدم أبي البشر في آخر سورة ( طه):
تحدثت هذه السورة عن قصة موسى عليه السلام، وتحدثت في آخرها حديثا موجزاً مركزا، عن قصة أبي البشر آدم عليه السلام، قال تعالى:
 
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)}
عهد الله إلى آدم، أن يسكن الجنة، ويأكل من كل شيء فيها رغدا، {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35]. هذا هو عهد الله إلى آدم، ولكنه – للأسف- لم يلتزم بهذا النهج، كما قال الله {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}.
 
 سبب عصيان آدم:
سبب عصيان آدم لم يكن رفضاً لأمر الله، ولا تمرُّداً على طاعة الله، وإنما كان نسيانا وضعف إرادة، {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا النسيان والغفلة، عن أمر الله، وعن التحذير من هذا العدو إبليس، واستجاب لوسوسة إبليس اللعين، وقد قالوا:
 
وما سمِّي الإنسان إلا لنسيه
وما القلب إلا أنه يتقلب
 
بعض الناس يقول: الإنسان سمِّي إنسانا من النسيان، والبعض يقول: لا بل من الأنس؛ لأن الإنسان يأنس بالإنسان، فإذا عاش وحده كان مستوحشا، ولهذا تُعدُّ أكبر عقوبة يُعاقب بها الإنسان، هي السجن الانفرادي. كفاكم الله شره.
 وقد قال المحدَثون: الإنسان مدني بطبعه. وقال المحدَثون: الإنسان حيوان اجتماعي. يعني يألف ويؤلف، ويعيش مع غيره، ويكوِّن جماعة، ولهذا قالوا: سمي الإنسان لأنسه بغيره.
وسواء كان المعنى هذا أو ذاك، - فعلى كل حال- لقد نسي آدم وضعُف عزمه، واستجاب للشيطان وعصى أمر ربه.
 
الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس:  
ومعصية آدم على خلاف معصية إبليس، فكلاهما عصى الله، ولكن فرق بين المعصيتين، فمعصية إبليس كانت رفضا لأمر الله، قال: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61]، {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:33].
(لم أكن لأسجد) يعني: ما ينبغي لي أن أسجد. فهو إذا رفض لأمر الله، وكفر به، ولذلك قال تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، رفض الأمر الإلهي، والحكم الإلهي، كفر. أما الضعف عن هذا الأمر، والنسيان له، يعتبر معصية.
 
ففرق بين من تقول له: صلِّ. فيقول: ما الصلاة! نحن في القرن الحادي والعشرين، وما زلتم تقولون لنا: اركع واسجد.. الخ. وهذا كفر.
 
تقول لهم: تعالوا نحكِّم شرع الله. يقولون: تريدون أن تعودوا بنا إلى أربعة عشر قرنا مضت، لنقطع يد السارق، ونجلد شارب الخمر.. الخ، إنها حريَّة شخصيَّة، ليستمتع الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، والرجال بالرجال، والنساء بالنساء.. ومن يقول هذا، لا شك أنه كافر.
 
أما لو زنى شخص؛ لأن شهوته غلبت عليه، فاستجاب للغريزة الجنسيَّة، وارتكب الفاحشة، وهو يعلم أنها حرام، فإذا حدثته بحرمة هذا، لا ينكر أنه وقع في الحرام، فهذه معصية، وقد تكون كبيرة من الكبائر، لكنها لا تصل إلى حد الكفر.
 
ففرق بين معصية آدم وبين معصية إبليس. معصية آدم من معاصي الجوارح، ومعاصي الجوارح هينة، أما معصية إبليس فهي من معاصي القلوب، ومعاصي القلوب خطيرة.
 
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)}
هذا الذي نسيه آدم، نسي هذا التحذير الإلهي، {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى وقوله: {فَتَشْقَى} فقط؛ لأن المقصود به شقاء الدنيا، والسعي في الأرض، يزرع ويفلح ويحصد.. الخ من المشقات؛ (وذلك معصوب برأس الرجل) كما يقول الزمخشري. فالشقاء والقدح من أجل الرزق، الأصل فيه أن الرجل مسؤول عن هذا، ولهذا قال: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}، فأنت في الجنة سعيد مرتاح، وكل ما تريد من الحاجات الأساسية مكفيَّة لك، وهي ما عبَّر عنها القرآن بقوله:
{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)}
الأكل والشرب واللباس، والكسوة، والمأوى من الشمس، فلا يضحى، المهم وسوس الشيطان لآدم، وتبعه آدم، وطمَّعه بالملك والخلد.
 
هل حواء سبب في معصية آدم ؟ 
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى(121)}
وفي القرآن نجد أن الله ينسب المعصية إلى آدم، والخطاب إلى آدم، لأنه هو الأساس، على خلاف ما تقول التوراة، أن الذي أغرى آدم بالمعصية، هو حواء امرأته، ظلت تغريه بالأكل من الشجرة حتى أكل منها.
والقرآن لم يذكر هذا أبدا، ونسب المعصية إلى آدم.
ولكنه قال تعالى: {فَأَكَلَا مِنْهَا يعني شاركته في المعصية، فلقيت جزاءه.
 فالمعصية الأساسية لآدم، ومعصية حواء تبع لآدم، فما دام أنها شاركته فتتحمَّل المسؤولية، لأن النَّهيَ لهما.
 وهذا أيضاً ممَّا يدلُّ على تكريم المرأة، أن أول تكليف إلهي، كان للرجل وللمرأة معا، قال: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فالمرأة مكلفة مثل الرجل، ولذلك ما دامت أكلت وعصت الأمر الإلهي، سواء أكلت تبعاً أم أنها الأصل، كانت مسؤولة، ولا بد أن تتحمَّل المسؤولية.
 
لا يرث أحد من البشر معصية آدم:
 ومن فضل الله تعالى أنه قال: { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)}
مُحيت الخطيئة، وغُسلت بالتوبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولذلك لم يعد هناك مبرر لأن يقال: إن معصية آدم يظل يرثها البشر، إلى قيام الساعة، ويتحملون هذه الخطيئة، وأنه محتاج إلى من يخلصه من أوزار هذه الخطيئة، وآثارها، فأرسل الله ابنه ليضحِّي به، كي يُطهِّرهم من هذه الخطيئة، كما هي العقيدة المسيحيَّة، وهذه عقيدتهم، ولكن ليس لها مبرِّر في منطق الإسلام؛ لأن في منطق الإسلام، لا يتحمَّل أحدٌ وزْر أحد، {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:38]، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، فكيف يتحمَّل الإنسان خطيئة لم يعملها، هو ولا عملها أبوه، ولا جده السابع ولا العشرين، يحمل خطيئة من أول البشرية!
 
وأمر آخر: أن هذه الخطيئة غُسلت بالتوبة، وكأنها ما كانت.
وكانت النتيجة أن هبط آدم من هذه الجنة، سواء كانت الجنة، هي جنة الآخرة، أو جنة بربوة في الدنيا، حديقة في مكان عالي، وقال له: {فَاهْبِطْ مِنْهَا} فهناك خلاف بين المفسرين.
 ففي النهاية أنه هبط: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)}
 
قانون إلهي:
هذا هو القانون الإلهي: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الدنيا ولا في الآخرة.
 {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} هذا في الدنيا أما في الآخرة: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.
نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين