الدرس الحادي والعشرون من دروس رمضان : تفسير قول الله تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث...

 

 

العلامة الشيخ يوسف القرضاوي

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
 
ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين. أما بعد..
فالوقفة التي نقفها اليوم مع كتاب الله، عند قوله تعالى في سورة لقمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}
 
لهو الحديث:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} لهو الحديث: هو ما يلهي الناس ويشغلهم. وفسَّره بعضهم بما كان يأتي به بعض العرب، وبعض رجال قريش من قصص الفرس وملوكهم، وكسرى، ونحو هذه البلاد، ويحكيها لهم، ليشغلهم عن سماع القرآن الكريم. وهذا أحد التفسيرات. فهو يأتي بهذه القِصص، ليشغلهم عمَّا أتى به القرآن من قَصص قوم عاد وثمود ولوط وإبراهيم، وموسى وعيسى..الخ. وهو يظن أن هذا بديل عن القرآن.
 
هل يصح تفسير لهو الحديث بالغناء؟
وهناك من فسَّر لهو الحديث بالغناء. وجاء هذا عن ابن مسعود، وورد أنه أقسم أن لهو الحديث هو الغناء. وأخذ بعض الناس من هذا القول أن الغناء حرام؛ لأنه لهو الحديث، وقد ذمَّه الله في الآية الكريمة.
وهذا في الحقيقة لا يمكن أن يُستدلَّ به على حرمة الغناء في حدِّ ذاته، لأن الغناء يعني: صوت طيب، بكلام موزون مؤثر في النفس.
 
وهذا قد يكون فيه الحلال، وقد يكون فيه الحرام، وقد يكون فيه المكروه، وقد يكون فيه المستحب، حسب الموضوع وحسب طريقة الأداء.
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتناشدون الأشعار، ومن ذلك قولهم:
 
اللهم لولا أنت ما اهتدينا    ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة عليــنا     وثبت الأقدام إن لاقينا
 
وكان الصبيان الصغار، يخرجون لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم، وينشدون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
 
وهذه الأصوات والإنشادات، ليس فيها حرج، إنما الحرج في موضوع الغناء نفسه، وهدف الغناء. ففرق بين من يغني، ويقول:
يارب سبِّح بحمدك كل شيء حي
 
أو:
ست الحبايب يا حبيبة يارب خليكي يا أمي
فمثل هذه الأشياء لا مانع فيها، لأن موضوعها طيب. لكن لو غنى أحد بقول أبي نواس:
دع عنك لومي فإنَّ اللوم إغراء  
وداوني بالتي كانت هي الداء
 
ويقصد بذلك الخمر وهو القائل: (ألا فاسقني خمرًا وقل لي هي الخمر) يعني: أحب اسمها حتى. أو لو غنى أحد بقول أحمد شوقي:
رمضان ولَّى هاتها ياساقي   مشتاقة تسعى لمشتاق
 
فموضوع هذه الأناشيد، لا يقرُّه الإسلام، لأن فيها مخالفة لأحكام الشريعة. ومثل ذلك التشكيك في العقيدة، مثل قصيدة الطلاسم لإيليا أبو ماضي، والذي قال فيها:
جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتيت
ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري!
ولماذا لستُ أدري
لست أدري
 
فهذه أغنية تشكك في الدين والألوهية وفي الآخرة، وفي كل شيء، إنه يشك، ويشك أنه يشك. فمثل هذه الأغنية تشكك في العقيدة. وقد وُضعت هذه الأغنية بالعامية أيضا وسميت (من غير ليه).
مثل هذه الأغنيات، لا يقر الإسلام موضوعها؛ لأن موضوعها ضد ما جاء به الإسلام، فيها تشكيك في العقيدة، وتشكيك في الشريعة. وهذا لا يُقبل.
 
ومثل ما يرفضه الإسلام أيضا: ما كان مخالفا للشريعة والسلوك الإسلامي، أن يكون كلاما ضد ما جاء به الإسلام، كمن يقول: الدنيا سيجارة وكاس. هذا لا يُقبل. ومن يقول: أبو عيون جريئة، فهذا يخالف قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، و{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31].
 
فهذا النوع من الأغاني الذي يكون موضوعه مخالفا للعقيدة، ومخالفا للشريعة، ومخالفا للقيم الإسلامية التي جاء بها الإسلام، فهذا يُرفض.
 
طريقة أداء الغناء:
ومن ناحية أخرى: إذا كانت الأغنية كلامها مقبول ديانة، وعقيدة، وشريعة، وأخلاقا، ولكن طريقة الأداء طريقة مثيرة، فيها تكسر، وتخلُّع، وتميُّع، فهذا يحرم أيضا. فالله تعالى يقول في الكلام العادي: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}[الأحزاب:32]، الخضوع بالقول يُطمع الذي في قلبه مرض الشهوة والغريزة، فما بالك إذا كان معه اللحن والنغم والموسيقى والإثارة، فهذا يكون أشد إثارة وأشد خطرا.
 
ولا بد أيضا أن يكون خاليا من الاقتران بأيِّ محرَّم، فلا يكون الغناء في مجلس خمر، أو مجلس خلاعة، أو رقص، والأغاني الآن التي في التلفزيون، كلها مصحوبة بالرقص، لا بد أن يأتوا بجماعة يرقصون حول من يُغني، فكل الأغاني التي في التلفزيون الآن، أصبحت حراما، لأنها لم تعد مجرد سماع، بل صارت رقصا.
 
ولا بد أن لا يُكثر الإنسان من سماع الأغاني، حتى لو كانت موضوعها مباحا، وخالية من المحرمات، فلا يجوز للإنسان أن يُكثر من سماع الأغاني، ويظل طول نهاره، يتنقل من إذاعة إلى إذاعة، ومن قناة إلى قناة، وكأنَّ الإنسان ليس وراءه من عمل إلا أن يستمع فقط! وماذا لدينه؟ وماذا لدنياه؟ وماذا لأهله؟ وماذا لولده؟ وماذا لعمله؟ بل يكون كما قال الإمام علي رضي الله عنه: أعط الكلام من المزح، بمقدار ما تعطي الطعام من الملح. يعني: لا تعط للمزح واللهو من كلامك، إلا مثل ما تعط الطعام من الملح، أي: يسيرًا. فاللهو لا بد أن يكون بمقدار معين.
 
النهي عن الغلو في العبادة:
وإذا كان شرعا لا يجوز للإنسان أن يغلو في العبادة، وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل ويصوم النهار، ويتلو القرآن، ولا يفرغ من عبادته، وشكاه أبوه عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبه، فقال له: "ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟" قال: بلى، يا نبي الله، ولم أرد بذلك إلا الخير. قال: "فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام" قال: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك. قال: "فإن لزوجك عليك حقاأي في المؤانسة والإمتاع- ولزورك عليك حقاأي المجتمع الذي حولك- ولجسدك عليك حقا" أي: في الراحة.
 
قال: "فصم صوم داود نبي الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أعبد الناس" قال: يا نبي الله، وما صوم داود؟ قال: "كان يصوم يوما ويفطر يوما".
 
قال: "واقرأ القرآن في كل شهر" قال: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك. قال: "فاقرأه في كل عشرين" قال: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك. قال: "فاقرأه في كل عشر". قال: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك. قال: "فاقرأه في كل سبع، ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقا، ولزورك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا"[1].
 
إعطاء كل ذي حق حقه:
فينبغي أن يُعط الإنسان كل ذي حقٍّ حقه؛ لأنه إذا أعطى ذي حق حقا وبالغ فيه، لا يكون ذلك إلا على حساب الحقوق الأخرى، فلا بد أن يكون الغناء بحساب، فبهذا لا مانع من أن يسمع الناس، وقد كان في بيت السيدة عائشة رضي الله عنها جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، فدخل سيدنا أبو بكر، فسمعهما، فقال: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكان ذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا"[2].
 
بعض الناس يقول: كانوا صغارا ونحو ذلك. ولو كانوا صغارا كما يقولون: ما غضب أبو بكر رضي الله عنه هذا الغضب، بل هذا دليل أنهما كبار، وأنهما فعلا شيئا يستوجب الغضب.
 
لا دلالة في القرآن على تحريم الغناء :
ولذلك أنا أقول: لا دلالة في القرآن على تحريم الغناء، وهذه الآية التي معنا {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} ليس مجرد ذم لهو الحديث، وإنما ذمَّت من يشتري لهو الحديث -وليس من يسمع لهو الحديث أو يقول لهو الحديث- ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا. فلو أن أحدا اتَّخذ الغناء ليضل الناس عن سبيل الله، ويصدهم عن القرآن وعن الإسلام، فهذا هو المذموم، ويقول ابن حزم: وهذه صفة من فعلها كان كافرا، لأن الإضلال عن سبيل الله، واتخاذ آيات الله هزوا، ويسخر منها، فهو يستحق الوعيد الذي في الاية: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
 
ولذلك يقول ابن حزم: لو أن إنسانا اشترى مصحفا ليضلَّ به عن سبيل الله بغير علم، يكون مذموماً ويدخل في الوعيد. فما ذمَّت الآية من يستمع إلى الغناء ليروِّح به عن نفسه، فإن القلوب إذا أُكرهت عُميت، وروِّحوا القلوب ساعة بعد ساعة، وإن النفوس تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة. ساعة وساعة.
 
ولله مني جانب لا أضيِّعُه
                 وللهو مني والبطالة جانب
 
 فما ذم الله هذا، وإنما ذم من يشتري هذا، ليضل عن سبيل الله ويتخذها هزوا، فهؤلاء لهم العذاب المهين.
 
الناس في قضية الغناء طرفان ووسط:
هذا أمر واضح، وللأسف الناس في هذه القضية، طرفان وواسطة، ناس تحرم كل شيء في الغناء، وناس تريده أن تبيحه، وتفتح الباب على مصراعيه، للغناء العاطل والباطل، والحلال والحرام. ونحن نريد الوسط.
 
سألني أحدهم: الغناء حلال أم حرام؟ فقلت له: الغناء الحلال حلال، والغناء الحرام حرام. يعني كل أحد يعرف ما هو الغناء الذي يُمكن سماعه، والغناء الذي لا يُمكن سماعه.
 
الكفّ عن الغناء المباح في شهر الصيام والقرآن:
وفي شهر مثل شهر رمضان، أولى بالناس أن يكفُّوا عن الأغاني وعن هذا اللهو، وأن يعكُفوا على كتاب الله، وعلى ذكر الله، وعلى التسبيح والاستغفار، والدعاء، وعلى عمل الخير، وخير العمل، فالأوقات المباركات أولى بها أن تصان عن اللهو، حتى وإن كان مباحا.
 
إذا كنت تستطيع أن تنفق وقتا في عمل مباح، ويمكن أيضا أن تنفقه في عمل تكسب به أجرا كالجبال، رصيدا هائلا، فكيف تضيعه؟!
 
الجاهل والخائب من يضيع أوقاتا يباهي الله بها ملائكته، ورحم الله من أرى الله من نفسه خيرا، في هذا الشهر الكريم. والشقي فيه من حرم رحمة الله عز وجل.
 
أسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع قريب، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



[1]- رواه البخاري (1975)، ومسلم (1159) كلاهما في الصوم عن عبد الله بن عمرو.

 

 

 

 

 

 

 

 

- متفق عليه: رواه البخاري (952)، ومسلم في (892) كلاهما في العيدين، عن عائشة.

 

 

 

 


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين