الدرس الحادي عشر من دروس رمضان: توازن الأمن و الخوف من الله في قلب المسلم من خلال سورة الحجر

العلامة الشيخ يوسف القرضاوي
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين. ثم أما بعد..
فقد استمعنا الليلة من سورة (الحجر) إلى قوله تعالى – يخاطب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم- :
{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}
بعد أن ذكر الله قصة الإنسان الأول (آدم عليه السلام)، وقصة عدوه إبليس لعنه الله، وذكر الله عز وجل أهل النار، فقال: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)}.
 ثم ذكر أهل الجنة: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)}
ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}.
 
جميع الخلق عباد الله: الطائعون والعصاة:
وهنا ينبغي أن نقف وقفة مهمة، وخصوصا للذين يهتمون بالدعوة؛ دعوة الناس وإرشادهم ووعظهم.
الله تعالى يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)} من هم عباده؟ هل عباده هم الصالحون المطيعون لأوامره، المجتنبون لنواهيه، فقط! أم أن عباده هنا يشمل العصاة والخاطئين، والمنحرفين عن الطريق المستقيم؟
لا شك أن الجميع عباده، المطيع من عباده، والعاصي من عباده.
 
والآية الأخرى في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزمر:53]، فالذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي، وارتكاب ما نهى الله عنه، لم يحرمهم الله من شرف الانتماء إلى عبوديَّته، وقال: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ..}.
وهنا في هذه الآية: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) } يشمل المطيعين والعصاة. فحتى العصاة لم يُحرموا من مغفرة الله ورحمته.
 
الله غفور رحيم :
{أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }وكلمة الغفور في اللغة العربية، تدلُّ على المبالغة، فعلماء اللغة يقولون: هذه صيغة مبالغة. ورحيم أيضا: صيغة مبالغة. فهناك: (غافر)، وهناك (غفار). و(غفور) و(غفار) يدلان على عِظَم المغفرة، أي: لا يدانيه في المغفرة أحد، وكذلك هناك (راحم) وهناك (رحيم). والرحيم صيغة مبالغة في الرحمة من الله عز وجل.
فالله غفور: يغفر لمن أساء وأذنب، مهما كانت إساءته، ومهما كان ذنبه، فمغفرة الله أعظم وأوسع، فإياك أن تظن أن ذنبك أعظم من مغفرة الله، ولذلك قال الله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزمر:53].
حتى أعظم الذنوب، وهو الشرك والكفر، يغفره الله بالتوبة، قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}[الأنفال:38]، مهما كان كافرا بالله، ملحدا، جاحدا، إذا دخل في الإسلام، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، انتهى هذا الماضي، وبدأتْ صفحة جديدة، وعفا الله عما سلف، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)}.
فالله غفور، وهو رحيم أيضا، فهناك ما هو أكبر من مجرد الستر والعفو والمسامحة في الإسلام، فحين يسرق منك إنسان مالا، وتسامحه، هناك ما هو أكبر من ذلك، وهو أن تعطيَه على ذلك مالاً أيضاً، هذه هي الرحمة، فالله يعفو ويغفر ويسامح، ويُدخل الجنة أيضا؛ فالجنة هي رحمة الله، لأنها دليل على ذلك، ولذلك قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[آل عمران:107].
وروي أن أحد الخلفاء، أساء إليه بعض خدمه، وغاظه، فأراد أن يعاقبه، فقرأ الخادم قول الله في سورة آل عمران:
 
-       {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}
-       كظمتُ غيظي.
-       {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}
-       عفوتُ عنك
-       {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
-       اذهب فأنت حر لوجه الله.
فالله يغفر ويرحم، ورحمته وسعت كل شيء، كما قال الملائكة في دعائهم للمؤمنين، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}[غافر:7]. فكما أن علم الله يسع كل شيء، فرحمة الله تسع كل شيء، كما قال الله لموسى {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}[الأعراف:156]، فخصَّ في العذاب، وعمَّ في الرحمة.
 
أسماء الملك والحمد والجلال والجمال:
 
{وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}
بعض الناس يذكر المغفرة والرحمة، وينسى العذابَ والبطش، والقرآن الكريم دائما ما يذكر أسماء الله بنوعيها، ما يدل على الملك وعلى الحمد، {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ}[التغابن:1]، أو ما يدل على الجلال وما يدل على الجمال، أسماء الجلال، وأسماء الجمال، أو ما يدل على البطش والقوة، وما يدلُّ على الرحمة، فلا ينبغي أن يُذكر هذا، وينسى أو يُهمل هذا.
 
ولهذا يقول الله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}[الرعد:6].
ويقول: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ}[فصلت:43].
ويقول: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:98].
ويقول: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنعام:165].
{وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ}[الحديد:20].
فلا بد أن يذكر الإنسان المؤمن الأمرين، {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}[البروج:12-14].
 
توازن الخوف والرجاء:
بهذا يتوازن الرجاء والخوف في نفسيَّة الإنسان المؤمن، لا يغلب عليه الرجاء حتى يأمن من مكر الله، فالله يقول: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[الأعراف:99].
وكان عمر رضي الله عنه يقول: لو نادى مناد يوم القيامة، كل الناس يدخلون الجنة إلا واحدا، لخشيت أن أكون أنا ذلك الواحد، ولو قال: كل الناس في النار إلا واحدا، لرجوت أن أكون ذلك الواحد. فالرجاء والخوف متوازنان عنده.
 فإذا ذكر الإنسان الرجاء، فلا ينبغي أن يبالغ فيه، حتى يصل إلى الأمن.
 
وإذا ذكر الإنسان الخوف من الله، فلا ينبغي أن يبالغ فيه، حتى يصل إلى القنوط من رحمة الله: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف:87]، {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}[الزمر:53].
فيجب أن يكون المؤمن كما قال الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}[الزمر:9].
{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}[الإسراء:57].
ولذلك القرآن الكريم دائما، يذكر لنا الوعد مرتبطا بالوعيد، الجنَّة مع النار، ليتوازن هذان المعنيان في نفس الإنسان المؤمن، الرجاء والخوف دائما، فلا يغلب عليه الرجاء، ولا يغلب عليه الخوف.
 
غلبة الرجاء بالأماني دون عمل :
بعض الناس يغلب عليه الرجاء، ويسير في طريق الشيطان، ويتَّكل على الشفاعة، كما كان المشركون يتكلون على شفاعة آلهتهم، قال الله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}[مريم:81-82]. {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر:48].
وكان كثير من أهل الكتاب - أيضاً- يظنُّون أنَّ أنبياءهم، وأحبارهم، ورهبانهم، سيشفعون لهم يوم القيامة، مهما عملوا، والنصارى إلى اليوم، يعتقدون أن المسيح سيشفع لهم، لمجرد الإيمان به، ولذلك يسمُّونه المخلص، فكل مولود – في زعمهم- يولد محملا بخطيئة أدم الأولى، والذي يُخلصه هو الإيمان بالمسيح.
ولهذا رد القرآن عليهم، حينما قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} رد عليهم: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون}[البقرة:111-112]. يستحق الإنسان الجنة بإسلام الوجه لله، وإحسان العمل، وليس بمجرد العنوان، أن يكون نصرانيا، أو يهوديا، أو مسلما.
ولهذا جاء في سورة النساء: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}[النساء:123-124].
 
المبالغة في التخويف:
القرآن أمرنا أن نكون متوازنين، فكما أن هؤلاء يكثرون من جانب الرجاء، فكثير من الناس يبالغون، في قضية التخويف أيضا، خصوصا بعض الدعاة، يكثرون من الترهيبات والأحاديث الضعيفة، والأحاديث الموضوعة، والقصص والحكايات، حتى قال لي أحد الآباء: إن ابنتي تصحو من النوم مفزعة، قلت: وما السبب؟!
قال: سمعت شريطا عن عذاب القبر. فأصابها هذا الخوف المرعب المزعج، وأثّر عليها بمرض نفسي.
وحين تقرأ القرآن، تجد أن فيه إشارات عن عذاب القبر، ولكن ليس فيه الحيَّات التي كالأفيال، وعقارب كالبغال، تلدغ أحدهم اللدغة، فيحدث كذا وكذا..
وفي سنة من السنوات، أرسلت لي إحدى الأخوات، تقول لي: حدثنا عن عذاب القبر، فقلت: أنا أسير مع القرآن، فإذا جاء مكانها من القرآن تحدثنا عنها، بما ذكره الله، أما هذه التهويلات، فلست من أنصارها، وإنما أسير مع القرآن، وأهتم بالشيء كما اهتم به القرآن.
 
معيار الاهتمام بما اهتم به القرآن:
وخذ هذا المعيار، فإذا أردت أن تعرف قيمة الشيء في الإسلام، انظر إلى أيِّ حدٍّ اهتمَّ به القرآن، فإذا كان القرآن اهتمَّ به وكرره وأكده، فاعرف أن هذا شيء مهم في الإسلام، وإذا كان القرآن لم يهتم به ولم يذكره، فاعرف أنه ليس له قيمة في الإسلام.
فمبالغات هؤلاء الناس، الذين يخوفون بها الناس، ليست من الإسلام في شيء. ولذلك يقول القرآن: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}
فجعل المغفرة والرحمة من أسمائه، والعذاب من أفعاله، فلم يقل: إني أنا المعذب الأليم. وليس من أسمائه المعذب.
حتى أن الإمام ابن القيم يقول عن الحديث الذي ذكره الترمذي في الأسماء الحسنى، وعدّ منها (المنتقم) يقول أن هذا الحديث لم يصل إلى درجة الصحّة، ففي سنده كلام، ويقول: إن القرآن قال: (ذو انتقام) لكن ليس في القرآن اهتماما بأن يجعل الانتقام من صفات الله.
 
دعوى المُبَشِّرين في وصف إله المسلمين بالبطش والجَبَروت:
والمبشرون وأعداء المسلمين، يقولون: إن إله المسلمين، إله بطش وقوة، وجبروت، وانتقام، وليس إله رحمة، ولا إله محبة، وهذا كذب، فالقرآن يذكر الله بأسماء الجلال، وأسماء الجمال، بل إن أسماء الرحمة وأسماء الجمال، وأسماء العفو والمغفرة هي الغالبة، بدليل أننا نبدأ سور القرآن، بقول الله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
واقرأ في الكتاب المقدَّس، وانظر كم ذكرت كلمة الرحمة هذه فيه، لكن إن نظرت إليها في القرآن، تجدها في أوائل السور، وفي داخل السور، تجد الرحمن الرحيم، وتجد الرحمن، والرحيم، والغفور..الخ
بل إن الإمام الغزالي يقول عن قول الله تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}[ق:33]، لم يقل الله (خشيَ الجبَّار)، أو (خشي القهار)، وإنما قال: {خَشِيَ الرَّحْمَنَ}، ويقول: هو تحريك في تسكين، وتخويف في تأمين، حيث ذكر خشية الرحمن، لا خشية القهار أو خشية الجبار، أو خشية القوي المتين.
 
خير الراحمين وأرحم الراحمين:
وتجد في القرآن، خير الراحمين: {رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}[المؤمنون:118].
 ونجد أرحم الراحمين، ذكرت في القرآن على لسان عدد من الأنبياء، موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأعراف:151].
 ويعقوب عليه السلام: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف:64].
 ويوسف عليه السلام: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف:92].
 وأيوب عليه السلام: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء:83].
فالقرآن يشيع دولة الرحمة، ليس كما يزعمون، أنه إله انتقام، وأنه إله جبروت، مع أن من صفاته الجبروت، ولكنه سبحانه يُغلب جانب الرحمة، ولذلك حينما قال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} جعل البطش من الأفعال، ثم قال: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}[البروج:12-14]. جعل المغفرة والود من أسمائه، وكلمة الودود، الذي يودك ويحبك، ويحب لك النجاة، ويحب لك السعادة.
هذا هو الله تبارك وتعالى، كما ذكره القرآن الكريم، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}
فينبغي أيها الأخ المسلم، أن يتوازن في قلبك الرجاء والخوف، فتخاف الله عز وجل بدرجة لا تصل إلى اليأس والقنوط من رحمته، وترجو ثواب الله ومغفرته، بدرجة لا تصل إلى الأمن من مكره.
 
العالم الحقيقي والفقيه الحقيقي :
يقول سيدنا علي رضي الله عنه: ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه، من لم ييئس عباد الله من روح الله، ولم يؤمنهم من مكره.
هذا هو العالم الحقيقي، والفقيه الحقيقي، الذي لا ييئس الناس من روح الله، ولا يؤمِّنهم من مكر الله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يفقهنا في كتابه، وأن يجعلنا من الذين يرجون رحمته، ويخافون عذابه، إنه سميع قريب.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين