الدرس الثاني والعشرون  من دروس رمضان  تثبيت الله للمؤمنين في غزوة الأحزاب

 
العلامة الشيخ يوسف القرضاوي
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين. أما بعد..
 
فيا أيها الإخوة والأخوات:
استمعنا الليلة إلى الآيات الكريمات من سورة الأحزاب، والتي تصور عناية الله وتثبيته للمؤمنين في غزوة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)...} الآيات.
وغزوة الأحزاب – أيها الإخوة- من الغزوات الكبار، وتسمَّى أحيانا: غزوة الخندق؛ لأن المسلمين حفروا فيها خندقا حول المدينة، وسميت غزوة الأحزاب؛ لأن قريشا حزَّبت القبائل معها، لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقر دارهم.
 
الإسلام انتصر على السيف ولم ينشر به:
 ويقول المستشرقون: إن الإسلام انتشر بالسيف، بل إن الإسلام هو الذي انتصر على السيف، فالسيف رُفع في وجه الإسلام والمسلمين من أول يوم. استخدمت القوة ضد المسلمين، لفتنتهم عن دينهم.
ولهذا نجد القرآن المكي يقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}[العنكبوت:2]، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}[العنكبوت:10].
فالمسلمون تعرضوا للفتن في دينهم، طوال ثلاثة عشر عاما، يعذَّبون، ويؤذون، وتصب عليهم سياط العذاب؛ ليفتنوا ويرجعوا عن دينهم، ولذلك لما شرع الإسلام القتال، قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}[البقرة:193]، أي: حتى لا يفتن أحد في دينه، ويظل الناس أحرار، من أراد أن يسلم فليسلم، ولا يرده أحد، ولا يفتنه أحد.
لقد غُزي الإسلام أكثر من مرة في عُقر داره، فغزوة بدر كانت محاولة لغزو المسلمين في عُقر دارهم، حينما سمعوا أن الرسول قد تعرض لعيرهم وقافلتهم التجارية، جمَّعوا جموعهم، وحشدوا حشودهم، ليقابلوا محمدا هناك ، في المدينة، ثم عرفوا أن قافلتهم نجت، وحاول البعض منهم أن يوقف القتال، ويعود بهم إلى مكة، لكن أبا جهل انتفض، ورفض العودة إلا أن يذهب إلى بدر بالقرب من المدينة، ويشرب الخمور، وينحر الجذور، وتعزف القينات، وتسمع بهم العرب، فلا يزال يهابونهم أبد الدهر. فكانت تحديا للمسلمين بالقرب من دارهم.
 
أما غزوة أحد، فكانت في عُقر الدار بالفعل، حتى كان الرأي: أن ينتظروا في دورهم داخل المدينة، ثم يضربونهم حين يدخلون المدينة في طرقاتها، وأزقتها.
ثم كانت المرة الآخرة في غزوة الأحزاب، حينما تجمعت قريش وغطفان، وأحابيشهما، (القبائل الصغيرة ومن حولهم)، فكان تحالفا من المشركين ضد هذه الجماعة المؤمنة، التي ظهرت في المدينة، وسمى القرآن هذا التحالف الكفري بـ (الأحزاب).
 
وهذه الغزوة كانت عزوة خطيرة، أرادوا بها أن يبيدوا خضراء المسلمين، أن لا يبقوا لهم من باقية، أن يستأصلوا شأفة الإسلام في عُقر داره، وكما قيل: ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا.
كانت محنة كبيرة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، حيث كانت أعدادا كبيرة هائلة، جاءت تغزوهم في عُقر دارهم، كما حدث الآن في أفغانستان، تغزى في دارها.
 
الإشارة بحفر الخندق:
استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأشار عليه سلمان الفارسي بأن يحفروا خندقا حول المدينة، ولم يكن هذا من أساليب العرب، فلم يكن عندهم صبر أن يحفروا شهرا كاملا لمثل هذا. ويسهُل عليهم المواجهة على ذلك.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحسن هذه الفكرة، وهذا الواجب على القائد، أن يستشير جنوده، ويأخذ بأصوب الآراء أو أقربها إلى الصواب.
استحسن النبي فكرة الخندق، ولم تكن من مكائد العرب، حتى أن المشركين حينما جاؤوا ورأوا ذلك، قالوا: إن هذه مكيدة ما كانت لتكيدها العرب. ولكن الإسلام جاء للعرب وللعجم، وللناس جميعا، فهو يأخذ بأحسن الأساليب الممكنة.
 
الأمل في أوقات المحنة:
 فحفر المسلمون الخندق، في الجهة التي كانت غير محصنة بجبال ولا بهضاب، ولا بشيء من هذا، وظلوا فترة طويلة يحفرون، ويشاركهم النبي في الحفر، ويضرب بفأسه، وبشرهم فيها ببشارات، فتح اليمن، وبلاد بصرى من الشام، وبلاد كسرى، وأخذوا ينظرون لبعضهم، ويقول بعضهم: محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن الذهاب للخلاء وحده. وفي هذا قال الله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[الأحزاب:12].
 
خيانة يهود بني قريظة:
هذا التجمع الهائل الذي جاء من قريش وغطفان وأحابيشهما، أُضيف إليه تجمع آخر من الداخل، وهو تجمع (يهود بني قريظة)، وهي القبيلة التي بقيت من قبائل اليهود الثلاثة، التي كانت تعيش بضواحي المدينة، (بنوقينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير).
بنو قينقاع جلوا في أول الأمر، ثم تبعهم بنو النضير، ولم يتبق إلا بنو قريظة. وكانت الاتفاقية بين النبي وبين بني قريظة، أنه: إذا أغار مغير على المدينة، أن يكونوا بأنفسهم وأموالهم مع الرسول وأصحابه. لأن المدينة لهم، فإذا أغار أجنبي، فبطبيعة الحال، الواجب عليهم الدفاع.
ولكن اليهود غلبت عليهم طبيعتهم، وغدرهم، وعدوانهم، ونقضوا العهد، وانضموا إلى الأعداء المغيرين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبعثوا إلى المشركين يقولون لهم نحن معكم.
 
الزلزلة الشديدة وظهور النفاق:
ولذلك صور القرآن هذا المشهد بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)} وانظر حين يخاطب القرآن النبي وأصحابه، بهذا القول، هنا كانت ساعة الامتحان،  {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)}.
أي ابتلاء أصعب من هذا، {وَزُلْزِلُوا}: وكلمة الزلزلة هذه تفيد الهز الشديد، ولم يقل زلزلوا فقط، بل {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}، كان الوقت عصيبا عليهم، وكان امتحانا رهيبا، وكان زلزالا شديدا، ظهر فيه النفاق، وبرز للعيان، فئة تقول: { مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، وطائفة أخرى تقول: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)}.
هكذا ظهر النفاق، لأن هذه أوقات الامتحانات، يتميز فيها المؤمن من المنافق، والخبيث من الطيب، {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران:179].
 
الشدائد تظهر المؤمنين وتزيدهم إيمانا وتسليما:
بان الخبيث وظهر، وبان الطيب أيضا: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)}.
عندما اجتمع الأحزاب، لم يتخلف المؤمنون، وإنما ثبتوا وقالوا {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، وعدنا الله ورسوله أن هؤلاء لا يزالون يقاتلوننا حتى يردونا عن ديننا، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[البقرة:214].
 
{وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)} وما المؤمن الحق يزداد يقينا بالشدائد، كالذهب الأصيل، لا تزده النار إلا صفاء ولمعانا، هذا هو المعدن الأصيل الحقيقي، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}[آل عمران:173-174].
 
محاولة اقتحام الخندق:
كانت محنة عظيمة، هذه المحاصرة للمسلمين، حيث جاء المشركين بقضهم وقضيضهم، وحاصروا المدينة حصار السوار للمعصم، وارادوا اقتحام الخندق، حتى أن بعضهم حاول ذلك مثل عمرو بن عبد ود، وغيره، ووقعت بينهم وبين على بن أبي طالب وغيره من المسلمين، مناوشات، ونصر الله المسلمين، حتى أن عمرو بن عبد ود من فرسان العرب المشاهير نصر الله عليه علي بن أبي طالب، وكان قد استهزأ به في أول المعركة لأن عليا صغيرا في السن، وعمرو هذا من كبار القوم، ومن أشجع فرسان قريش. لكن الله الذي وعد المسلمين بالنصر، نصر عليا عليه.
 
دور نُعيم بن مسعود في التخذيل عن المسلمين:
وفي هذا الوقت نصر الله المسلمين بشيء بسيط جدا، حيث أسلم نعيم بن مسعود من غطفان، وجاء لرسول الله ليجنده عنده، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "اذهب فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة" وبالفعل قام بدور كبير بين غطفان وبين اليهود، وزلزل علاقتهم ببعضهم، والقصة معظمكم يعرفها.
المهم أن نعلم أن جنديا واحدا استطاع أن يقوم بدور يخدم المعركة، ويوجه النتيجة لصالح المسلمين، استطاع أن يخذل عن المسلمين، ويوقع بين اليهود وغطفان.
 
نعمة الله على المؤمنين بإرسال الريح والملائكة:
ثم كان بعد ذلك وقبل ذلك يد الله، التي عملت ووجهت النصر للمسلمين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)}.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} أرسل الله عليهم عاصفة قلعت خيامهم، وقلبت قدورهم، وأفسدت شأنهم كله.
{وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} في معارك ثلاثة في القرآن الكريم، أرسل الله جنودا لم يرها الناس، من الملائكة، في غزوة بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:9-10].
وفي غزوة الأحزاب هذه: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}.
وفي غزوة حنين: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}[التوبة:25-26].
هذه جنود الله عز وجل وجل، ينزلها في الوقت الذي يريد، وهذه الجنود التي نزلت في بدر، وفي الأحزاب، ويوم حنين، ويوم الغار {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}[التوبة:40] هي موجودة، ويمكن أن تنزل في أي وقت، ولكن جنود الله لا تنزل ولا تتنزل على فراغ، إنما تتنزل على مؤمنين، والله يقول: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}[الأنفال:12]، هؤلاء المؤمنون غُلبوا، فكان الأمر من الله بنزول الملائكة لتثبيتهم، أما إذا لم يوجد الذين آمنوا، فعلى من تنزل الملائكة، لا بد إذا أن يوجد الذين آمنوا، المؤمنون الصادقون.
ولذلك نزل جند الله، حينما كان المسلمون في حاجة إليه، عندما بذلوا ما عندهم، وقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}، واحتاجوا مددا من السماء، فأنزله الله، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}.
ولذلك كانت النتيجة المحسومة للمؤمنين، كما قال الله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} .
 
وكفى الله المؤمنين القتال:
ولنا وقفة عند هذه الكلمة -أيها الإخوة- يغفل عنها الكثيرون، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} يدل على أن هذا الدين ليس متعطشا للدماء، لا يريد أن يقيم المعارك بين  الناس، فلو فاتت معركة، وفاز فيها المسلمون بدون قتال، نقول: الحمد لله، كفى الله المؤمنين القتال، فهذه عبارة يجب أن نقف عندها، فهذا الإسلام لا يريد أن يحارب ولا يريد أن يسفك الدماء، هو الذي حورب، ثلاث مرات يغزى في عقر داره، ولذلك بعد هذه الغزوة طمأن رسول الله المسلمين، بأنه بعد هذه الغزوة " سنغزوهم ولا يغزوننا" ، ولهم الحق، فلله سنن، والأيام دول، والدهر قلَّب، يوم لك ويوم عليك، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران:140].
علينا أن نعلم، أن الإسلام لم يكن أبدا متعطشا للدماء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أحب الأسماء إلى الله عز وجل: عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها: حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة"[1]. فحتى كلمة الحرب كرهها الإسلام، وقد كانت من أسماء الجاهلية، فأبوسفيان بن حرب، فهل هذا دين متعطش للدماء؟ وهل هذا نبي متعطش للدماء؟ هل محمد كما يقولون جاء بالسيف يقطع رقاب الناس.
ولقد سمَّى الله صلح الحديبية فتحا، فقال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1]، حتى سأل الصحابة رسول الله: أفتح هو يا رسول الله؟! "نعم والذي نفس محمد بيده إنه لفتح"[2].
والقرآن يمتن على رسوله وعلى المؤمنين، بقوله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}[الفتح:24]. فجعل من المنن التي امتن بها على المؤمنين، أن كف أيديهم عن المشركين.
ما أحلى أن ينتشر الإسلام بالدعوة وبالحكمة، وبالسماحة وبالحرية، وهذا هو ديننا العظيم.
 {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)}.
أسأل الله عز وجل أن يؤيدنا بنصر من عنده، وبجنود لا نراها، وأن يؤيدنا بنصر كنصر المؤمنين في الأحزاب، وكنصر المؤمنين في حنين، وكنصر المؤمنين في بدر، إنه سميع قريب.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


[1]- رواه أحمد (19032)، وقال مخرجوه: إسناده ضعيف. وأبو داود في الأدب (4950)، وصححه الألباني في صحيح أبي دواد.
- رواه أبو داود في الجهاد (2736)، والطبراني في المعجم الكبير (19/ 445)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين