الدرس الثاني عشر من دروس رمضان : من نعم الله على الإنسان في سورة النحل

 
 
العلامة الشيخ يوسف القرضاوي
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربُّه رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين.
 
أما بعد..
فخير ما أحييكم به أيها الإخوة والأخوات تحية الإسلام، تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
 
سورة النحل تُسمَّى سورة النعم:
فقد فرغنا من تلاوة سورة النحل، وسورة النحل كان يسمِّيها كثير من السلف: سورة النِّعم.
فهناك بعض السور لها أكثر من اسم، فمثلا سورة الإسراء، تسمى سورة بني إسرائيل، وسورة غافر تسمى سورة المؤمن، وسورة محمد تسمى سورة القتال، وهكذا..
وسورة النحل تسمى سورة النعم؛ لأن موضوعها يتحدث عن نعم الله تعالى على خلقه، نعم كثيرة، وأخذت السورة شوطا، وسبحت سبحا طويلا في أوائلها، تتحدث عن نعم الله التي خلقها للإنسان، مثل قوله تعالى:
{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} .
 
توالي النعم يفقد الإحساس بقيمتها:
هذه كلها من نعم الله عز وجل يُذكر بها الناس؛ لأن توالي النعم على الإنسان، يفقده الإحساس بقيمتها، وإنما يعرف قيمة النعمة، إذا فقدها وحُرم منها، ولذلك قالوا: وبضدها تتميز الأشياء.
 
الإنسان الذي يعيش في نعم متتابعة متتالية، لا يكاد يحس بأن لها أي قيمة، هناك أناس تأكل ما لذ وطاب، في كل يوم وفي كل وجبة، لا تحس بهذه النعمة، لكنك تجد الإحساس بهذه النعمة عند الإنسان الفقير المعدم عندما ينال شيئا من هذه النعم.
 
شعور الصائم بنعمة الشبع والريِّ:
ولذلك كان من ضمن حِكَم تشريع الصوم: أن يشعر الإنسان بقيمة النعمة، قيمة الشِّبَع، ونعمة الرِّي، فإنَّ توالي شِبَعه وريِّه لا يجعل لهذه النعم قيمة، فأراد الله أن يفرض عليه جوعا إجباريا، شهرا كاملا، ليحس بالجوع والعطش، وخصوصا في أيام الحر، فدرك مدى نعمة الله عليه في النِّعَم والرِّي.
 
النعم المادية والمعنوية في سورة النحل:
والنعم العظيمة التي ذكرها القرآن في سورة النحل، نعم ماديَّة ونعم معنويَّة، حتى النعم الجمالَّية، يقول تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} يعني تستدفئوا بأصوافها وأوبارها، {وَمَنَافِعُ} ركوبها والحراثة بها، والنسل{وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يعني تأكلون لحومها وتشربون من ألبانها.
 
{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} لو أنَّ أحدهم رسم لَوْحَة وفيها أبقار وأشجار ومرعى وخضرة، تقول: ما أجمل هذه اللَّوحة. انظر إلى اللوحة الأصلية، التي صنعتها يد الخالق هذه، لماذا لا تمعن النظر فيها؟ {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون}
 
عناية سورة النحل بالعنصر الجمالي:
وهذه السورة اهتمّت بالعنصر الجمالي، حتى قال سبحانه: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} ليس فقط الركوب بل الزينة، العنصر التجميلي.
 وقال كذلك: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} أسماك وجمبري ونحوها {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} تستخرجون من البحار اللؤلؤ والمرجان، وهذا العنصر الجمالي في الطبيعة يمتن الله به على العباد.
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)}
 
وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ :
في قضية وسائل النقل والمواصلات، كانت الإبل التي قال عنها: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} وأيضا: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} فذكر الله هذه المخلوقات التي يستخدمها الإنسان للركوب، والتنقل، ثم ختم الآية بقوله: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
 
أي: أن هناك وسائل من وسائل النقل سيخلقها الله تعالى، ويخلق منها ما لا تعلمون. وقد صدَّق الواقع الكوني هذه النبوءة التي ذكرها القرآن، خلق لنا ما لم نكن نعلم، بل ما لم نكن نتخيل.
 
فلو أنَّ الأقدمين قيل لهم: الإنسان يمكن أن يبتكر شيئا يسبق الحصان، ويحمل كذا وكذا من البضائع، مثل السيارة أو القطار، ما كان يصدق، بل لو قيل له عن الطائرات التي تسير في جوِّ السماء ما صدق ذلك. فالله يقول: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ}[النحل:79]، الآن صارت هناك طيور أخرى حديدية تسبح في جو السماء. بل هناك سفن الفضاء والصواريخ.. ونحوها. فهذه نعم أنعم الله بها، وكل هذه تدخل في قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
 
وذكر القرآن إنزال الماء من السماء، وإنبات الشجر، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم مسخرات بأمره: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهوقال: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)}
ثم قال بعد ذلك: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)}
للأسف! عبد المشركون من لا يخلق، عبدوا الأصنام والحجارة، {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}[الأعراف:191].
 
نعم الله لا تعدُّ ولا تحصى:
ثم قال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)}
نعم الله على الناس، لا تعد ولا تُحصى، وقد عددت السورة كثيرا من هذه النعم، في أول السورة، كما مر معنا..
وفي وسط السورة، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وتقي البرد طبعا {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} أي: في الحروب، يعني تلك الأشياء التي يلبسونها واقية في الحروب، من ضربات السيوف، أو طعنات الرماح، أو رميات الرماح، مثل: المجن والدرع.. ونحوها{كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)}
 
نعمة الألبان:
كما عدد القرآن في هذه السورة كثيرًا من النِّعم، كالألبان، قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)} هذه نعمة عظيمة، نعمة الألبان، واللبن في الحقيقة خلقه الله للحيوانات، ليرضع صغارها من كبارها، وأباح الله للإنسان الانتفاع به، دون إضرار بالصَّغير، وهذه نعم من الله عز وجل، يخرج اللبن سائغاً للشاربين، لا يحتاج إلى صناعة، إذا لم تمسه يد الإنسان وتلوثه، فهو بطبيعة خلقته خالص سائغ للشاربين.
 
ويقول تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}، وسَكَرًا هنا: من مادة السُّكَّر، مثل المربِّيَات ونحوها.
 
عسل النحل:
ويقول الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}.
 
وكم قامت دراسات على عسل النحل، قام بها اساتذة بيولوجيون متخصصون في علم الحيوان، أو في علم الحشرات، أو في علم النحل، وتكلموا عن خصائص هذا العسل، لأن القرآن يقول: { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} فهو غذاء وفيه شفاء للناس، وهذه إشارة إلى أن من الأغذية ما يكون شفاء، فليس الشفاء فقط في الأدوية الرسمية، بل من الغذاء ما يكون شفاء، ومنها هذا العسل.
 
نعمة الموت:
وذكر القرآن أشياء كثيرة، مثل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} نلاحظ هنا- أيها الإخوة - أن الله سبحانه جاء بهذه الآية في معرض النِّعم، فهل يكون الموت نعمة؟ نعم الموت نعمة، فلو أن الناس يولدون ولا يموتون، كيف ستكون النتيجة، فالكرة الأرضية الآن رغم (الموت) فيها 6 مليارات من البشر، ومن سنتين تقريبا بدأ المليار السابع، ويشكوا الناس الآن من قلة الموارد، ومن شحِّ الموارد، ويريدون تحديد النسل.. الخ، ولو لم يكن كتب الله الموت على الناس، كان لا بد أن يجتمع الناس، ويجتمع كل قرية ويبحثوا في مشكلة العدد الزائد من الناس، وربما وجد البعض الحلَّ أن نقطع رقاب كبار السن؛ حتى يتيحوا فرصة للجيل القادم، فلا يمكن إلا هذا، فسيقول الشباب: لماذا يحتل هؤلاء هذه الأماكن، ويحجزون عنا الترقي، لماذا لا يدع هؤلاء أماكنهم للجيل الصاعد والواعد، حتى يأخذ حقه، ويحتل مساحته.. الخ.
 
فسيتصرف الناس عندئذ ليقضي بعضهم على بعض، وربما تحصل مشكلات بين الناس واختلافات، فتقول قبيلة: نترك شيوخنا حتى المائة، وآخرون يقولون: بل للثمانين، وآخرون: للسبعين.. قطعا سيختلف الناس. فكان هذا الحل من الله تبارك وتعالى، بأن الموت يقضي على الناس أولا بأول.
 
وفي القصص الإسرائيلية: أنه لما كثر أبناء آدم، قالوا: يا رب كيف تسعهم الأرض بعد حين؟! فقال لهم: إني جاعلٌ موتى. قالوا: كيف يعيش الناس إذا رأوا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم يموتون أمام أعينهم؟! قال: إني جاعل أملاً! الذي يجعل الناس يَحْيون مع مرارة الموت، هو حلاوة الأمل. فرغم الموت يأمل الإنسان أن يعيش ما قدر له أن يعيش، فهو يعيش فترة من الزمن، تطول ما تطول، ثم تنتهي بالموت، {ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها}.
ولذلك يقولون: تطول يا ليل لا بد من فجر، وتطول يا عمر لا بد من قبر.
هذه هي سنة الله في الحياة.
 
ولذلك كان الموت نعمة، فربما يستغرب بعض الناس أن توجد في سورة النعم، أن يمتنَّ الله على الناس أنه يتوفاهم، بل هي نعمة من الله تبارك وتعالى.
 
شكر الله تعالى على النعم :
والواجب على الإنسان أن يشكر ربه على نعمه، ولا يكفرها، كما ذكر الله لنا في هذه السورة، سيدنا إبراهيم عليه السلام: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يَكُ من المشركين * شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم}.
 
فإبراهيم عليه السلام وصفه ربه بأنه (شاكرا لأنعمه) يعرف قدر نعمة الله تبارك وتعالى عليه، والإنسان ينبغي أن يعرف نعمة الله عليه، وهي نعم كثيرة جدا، فلو فكر الإنسان في اللقمة التي يأكلها، كم اشتغل فيها: الملائكة الذين سخَّرهم الله لتدبير بعض هذه الأشياء، فهناك مخلوقات غير معروفة، وهناك مخلوقات نعرفها: الفلاَّح الذي زرع القمح، وربما كان هذا القمح قادمًا من بلد بعيدة غير بلادنا هذه، وكم شخص قد عمل من أجل أن تصل إليك، فالأرض التي خرج منها هذا القمح، كم شخص اشتغل فيها، من يحرثها، ومن يبذر فيها، ومن يحصد منها.. بل هناك النجار الذي صنع المحراث، والحداد الذي صنع سلاح المحراث، فهناك آلاف اشتغلوا حتى وصلت إليك اللقمة، هذه كلها نعم.
 
نِعَمُ الحواس :
ومن نِعم الله الكثيرة: نعَم الحواس، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)}، أدوات المعرفة، التي تطلُّ بها على الكون من حولك: السمع والبصر والفؤاد والعقل، كل هذا يحتاج منك شكر نعمة الله تعالى عليك.
 
عاقبة كفر نعم الله تعالى:
وأخطر شيء أن يكفر الإنسان بنعم الله، ولا يعرف قدرها، كالذين ذكرهم الله في هذه السورة، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)} هؤلاء هم أهل مكة، كانوا يعيشون في مكة آمنين مطمئنين، يعيشون في نعم الله، فكفروا بهذه النعم، والتي أعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}

شر ما تصاب به المجتمعات: آفتا الجوع والخوف:
 وشر ما يصاب به مجتمع من المجتمعات، هاتان الآفتان: الجوع والخوف. ومن أفضل ما يناله مجتمع من المجتمعات: الكفاية والأمن؛ الرخاء والأمن. كما امتن الله على قريش، فقال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}.
 
شكر النعم بالألسنة ولقلوب والجوارح:
فعلينا أن نشكر نعم الله عز وجل، نشكرها بلساننا فنقول: الحمد لله على نعمه، الحمد لله حمدا يكافئ نعمه.
ونشكرها بقلوبنا، بأن نعترف بأن كل هذه النعم، التي نتقلب فيها ليل نهار، إنما هي من الله، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النحل:53].
 
ونشكرها بجوارحنا، فنستخدم نعم الله في طاعة الله، "إن الله عز وجل يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين