الدرس الثامن من دروس رمضان   معالم النصر في غزوة بدر

 

العلامة الشيخ يوسف القرضاوي

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين. ثم أما بعد..
خير ما أحييكم به أيها الإخوة والأخوات تحية الإسلام، تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.
 
احتفال القرآن والملائكة والرسول والصحابة ببدر:
ففي مثل هذا اليوم من ألف وأربعمائة وواحد وعشرين سنة (1421 سنة)، حدثت موقعة هي أشرف مواقع التاريخ، إنها موقعة بدر.
 
احتفل بها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وذكر اسمها بالنص، فقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}[آل عمران:123]، وسمَّى يومها يوم الفرقان: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}[الأنفال:41]، وأنزل في شأنها سورة تتلى هي سورة الأنفال.
 
احتفل الله سبحانه وتعالى ببدر، واحتفلت بها الملائكة، فإنَّ جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما تعدُّون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين" أو كلمة نحوها، "قال جبريل: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة".
 
واحتفل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينما ارتكب أحد الصحابة خطيئة كبيرة، تعد في عصرنا نوعا من الخيانة العظمى، حين أراد أن يُفشيَ سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أراد فتح مكة وغزو مكة، وأرسل إلى قريش بخبره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يباغتهم بالفتح، فيجبرهم على التسليم بأقل الخسائر الممكنة، أو بدون خسائر، وقال: "اللهم خذ العيون والأبصار عن قريش".
 
ولكن هذا الصحابي الجليل: حاطب بن أبي بلتعة ضَعُفت نفسه، ووسوست له الوساوس، فأراد أن يتَّخذ يدا عند أهل مكة، ويقدِّم لهم خدمة؛ لأنه لم يكن من ذوي عصبية معروفة، وليس له عشيرة قوية، فأراد أن يخدم أهل مكة، وقال في نفسه: ما دام إن الله سينصر نبيه فلن يضره هذا.. وهكذا.
 
ولما اكتشف أمره، أراد عمر بن الخطاب أن يقتله، وقال: يا رسول الله دعني أضرب عنقه فقد نافق.
فقال رسول الله لعمر: "يا عمر، وما يدريك لعل الله اطَّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فإني قد غفرتُ لكم".
 
يعني: أن الإنسان تشفع له سوابقه، لا ينبغي أن يعامل أصحاب السوابق معاملة عادية، فلو أن إنسانا له تاريخ مجيد، وله أعمال طيبة، وله مواقف حميدة، ثم وقع في خطيئة، لا ينبغي أن نهدم ماضيه كله بهذه الخطيئة، بعض الناس يفعلون ذلك، يريد أن يقضي عليه قضاء مبرما بضربة قاضية.
 
واحتفى الصحابة رضوان الله عليه وسلم بأهل بدر، فكانوا يقولون: فلان كان بدريا، يعني ممَّن شهد بدرا، ويقولون: كان أبوه بدريا، أو كان جده بدريا، يعني كابرا عن كابر. فيمس الأبناء والأحفاد خير بدر وفضل بدر.
 
ما السر في تمجيد بدر، وتكريم بدر، وتعظيم بدر وأهل بدر إلى هذا الحد، فما هي بدر؟
إن بدرًا من حيث الزمن هي ضحوة نهار، يعني لم تستمر كما استمرت حرب البسوس عند العرب ، لمدة أربعين سنة، ولا مثل الحرب العالميَّة الأولى أو الثانية لمدة خمس سنوات، وإنما هي ضحوة نهار. فهي من حيث الزمن بسيطة جدا.
وأما بدر من حيث الأعداد الذين اشتركوا، فليس عددا كبيرا، ليس مثل الحرب العالمية، التي اشترك فيها ملايين، وعشرات الملايين، ومئات الملايين، بل كان عدد المقاتلين من المسلمين نحو (310 رجلا) والمشركون ثلاثة أضعاف المسلمين، يعني حوالي الألف. 
ومن حيث عدد الضحايا فليست بالملايين كما الحرب العالمية، بل لم يتجاوز عدد الشهداء من المسلمين (14 شهيدا) ، وكان عدد قتلى المشركين (70 قتيلا) ومثلهم من الأسرى.
 
هذا يدل على أن هذه المعركة كانت بسيطة، فما سر هذا الاهتمام بهذه الغزوة؟
إن سر الاهتمام بهذه الغزوة، أنها كانت أول معركة يلتقي فيها الإسلام والكفر، يلتقي فيها التوحيد والوثنية، يلتقي فيها معسكر الرحمن ومعسكر الشيطان، معركة بين الله والطاغوت.
كان هؤلاء بالعدوة الدنيا، وهؤلاء بالعدوة القصوى، ولكن فرق ما بين هؤلاء وهؤلاء، هو فرق ما بين الحق والباطل، فرق ما بين أبي جهل ومحمد صلى الله عليه وسلم، فرق كبير جدا.
وكانت أول مرة يلتقي هذان الفريقان وجهاً لوجه، فلو هُزم الإسلام في هذه المرة، لكانت كارثة، ثم هناك أمر هناك، هو أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، والقرآن آخر كتب الله نزولا، والإسلام آخر شرائع السماء، وهذه الأمة آخر الأمم، ليس هناك أمة بعدها.
 
فلو هُزم المسلمون والرسول فهذا يعني أنه لن يعد هناك أحد يعبد الله وحده، وينتهي التوحيد من الأرض، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم في بدر، بحرارة وحُرقة شديدة، يقول: " اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم أنجز لي ما وعدت، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، فلن تُعبد في الأرض بعد اليوم" وظلَّ يلحُّ على ربه، وسيدنا أبو بكر يربت على كتفيه، ويقول: هوِّن عليك يا رسول الله، فوالله لينصرنك الله، وليُبيضن الله وجهك.
فهذه هي قيمة هذه المعركة، النتيجة المترتبة عليها، وهي بقاء التوحيد في الأرض، فلو ذهب محمد وأصحابه، سينتهي بذلك دور التوحيد في الأرض.
 
لو انتصر الألمان على الإنجليز، أو انتصرت كوريا على اليابان، أو انتصر الروس على الأوربيين، ماذا سيحصل؟! دولة تنتصر على دولة، وبعد مدة من الزمن تأخذ هذه دورها من جديد، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران:140].
ليس هناك نتيجة عظيمة خطيرة مثل هذه النتيجة التي تترتب على انتصار الإسلام والمسلمين أمام الوثنية والمشركين في يوم بدر.
ولذلك كان نصر بدر، نصرا له قيمته في التاريخ، وكان جديرا أن يحتفي به القرآن، وتحتفي به السنة، ويحتفي به الصحابة، ويحتفي به الصحابة، إلى يومنا هذا.
وكان جديرا أن نذكر الناس في كل عام بهذا الحدث.
 
عناية السلف بتعليم أولادهم غزوات الرسول :
 وكان الصحابة رضوان الله عليهم يعلمون أولادهم أخبار هذه الغزوات، كما قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كنا نُرَوِّي أبناءنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نعلمهم السورة من القرآن.
 
كانوا يحفِّظون أولادهم ويحكون لهم ما حدث في بدر، وما حدث في أحد، وما حدث في الأحزاب، ويوم حنين، وفي خيبر وغيرها، وهكذا ينبغي أن نتعلم منهم، ونحكي لأولادنا هذه الأحداث، بدلاً من أن نحكي لهم قصة (الشاطر حسن)، و(ست الحُسْن والجمال)، وبدلا من الأفلام والمسلسلات في عصرنا، نعلم أولادنا مغازي الرسول، وبطولات أصحابه، وروائع البطولات والتضحيات في التاريخ الإسلامي.
 
أيها الإخوة: كان الصحابة رضوان الله عليهم أقلّ عددا، وأقلّ عُدَّة، وأقلّ استعدادا، وأضعف من كل النواحي، ومع هذا نصرهم الله.
ما خرجوا في بدر للقتال، وإنما خرجوا ليقتصوا من قريش، ويضربونهم ضربة اقتصادية، فقد أخرجتهم من ديارهم وأموالهم، وتركوا كل شيء في مكة، فأرادوا أن يعوِّضوا شيئا من خسائرهم، فيضربوهم ضربة اقتصادية، ويستولوا على القافلة القادمة من الشام.
 
وهذه سنة الله في الصراع بين الحق والباطل، وشاء الله أن تنجو القافلة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إما العير وإما النفير"، والصحابة رضوان الله عليهم، كانوا يريدون العير، كما قال الله: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}[الأنفال:7].
فالصحابة كانوا يريدون الأمر السهل، الهيِّن عليهم، ولذلك لم يكن عندهم استعداد للقتال: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال:5-6]، حكم الطبيعة البشريَّة أنها تكره الضراء.
ولما عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، كره ذلك كثير من الصحابة، لأنهم ما خرجوا لقتال، وإنما خرجوا للعير، لم يستعدوا للقتال.
وقريش جاءت بصناديدها، وفرسانها، مستعدين بكل العُدد، ولكن الله قدر ذلك، {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}[الأنفال:7].
 
ومع قلة العدد وقلة العُدد، وقلة الاستعداد، جاء نصر الله، {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:9-10].
 
هل نطمع في نصر كنصر بدر؟!
لم لا نطمع أيها الإخوة في نصر كنصر بدر؟! الله هو الله، ولكن بشرط أن نكون مؤمنين كإيمان أهل بدر، نمشى على أقدامهم.
أما أن نطمع في نصر كنصر بدر، ونحن جالسون لا نقدم شيئا، ولا نبذل شيئا، ونقول: يا رب انصرنا!
لا بد أن ندعو ونحن نستعد للمعركة، وندعو ونحن في المعركة، في الميدان، كما جاء في القرآن: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ}[البقرة:250-251].
النصر ممكن جدا، والملائكة التي نزلت في بدر، موجوده، جبريل عليه السلام وأعوانه موجودون، ولكنهم لا يتنزلون إلا على المؤمنين، {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان}[الأنفال:12].
انظروا إلى توزيع الأدوار في الآية، الملائكة: تثبت الذين آمنوا. والله سبحانه يلقي في قلوب الذين كفروا الرعبة. وأنتم: اضربوا فوق الأعناق..الخ.
 
نريد أن يتحقق الإيمان أيها الأحبة، فادْعوا الله تعالى أن يرزقنا صدق الإيمان، وأن يجعلنا أهلا لنصره، الذي وعد به المؤمنين، وأن يمن علينا بيوم كيوم بدر، تقر به العيون، وتنشرح به الصدور، وتبتسم به
الثغور، ونسأل الله أن يكون ذلك عن قريب.
 
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين