الدرس الثالث والعشرون من دروس رمضان : الدعاء المستجاب من سورة غافر

العلامة الشيخ يوسف القرضاوي

 

 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربُّه رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وحبيبنا، وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين.
أما بعد..
 
فقد استمعنا الليلة، إلى الآية الكريمة من سورة غافر، حيث يقول الله تبارك وتعالى:
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}
نتوقف عند هذه الآية الكريمة، التي ينادينا الله فيها، بل ويأمرنا أمرًا، أن ندعوَه، ويَعِدُنا بأن يستجيب لنا، ولذلك كثيرا ما نبدأ دعاءنا بقولنا: (اللهم إنا ندعوك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا).
 
لماذا لا يستجاب دعاؤنا؟
يقول الله {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} هذا شرط وجزاء، وهنا يسأل كثيرٌ من الناس: نحن ندعو ولا يستجاب لنا؟! دعونا على الأمريكان والبريطانيين، والصهاينة، وغيرهم من الظلمة، ولا زالوا يعيثون في الأرض فسادًا، لا زالوا يَطغَوْن في البلاد، ويُكثروا فيها الفساد، ولم يصبّ عليهم ربنا سوْط عذاب، ما بالنا ندعو فلا يُستجاب لنا؟!
 
هذه الأسئلة وغيرها، غالبًا ما تُحاك في صدور بعض الناس، وفي الأسئلة التي أجبنا عنها بالأمس، أحد الإخوة يقول: كنا نتوقع أن يزلزل الله الأرض تحت أقدام الأمريكيين، وينزل عليهم صواعق تحرقهم من السماء..الخ.
 
فربما ظن بعض الناس أن الله أخلف وعده، أو أن الله قال كلاما لا ينفذ، ومعاذ الله، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}[النساء:87].{وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}[النساء:122]، إن الله لا يخلف وعده، {أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[يونس:55]، {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98].
 
شروط استجابة الدعاء:
إن الدعاء – أيها الإخوة- له شروط لاستجابته، ومن أهم هذه الشروط:
 
أولا: أن يكون مطعم الإنسان طيبا وحلالا:
فلا يكون مكسبه من حرام، ومأكله من حرام، وملبسه من حرام، وغُذِّي بالحرام، ثم يرجو استجابة الدعاء!
وفي الحديث الصحيح: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمة حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!"[1].  
(أشعث أغبر)؛ لأن المسافر في الزمن الماضي، كان يركب المطيَّة، أو يمشي على رجليه، فلا يصل إلى مقصده إلا وهو أشعث أغبر، أشعث الرأس، أغبر القدمين.
 
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمة حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك" كيف يستجيب الله لمن هذا حاله؟!
ولذلك أول ما يُطلب لاستجابة الدعوة، أن يكون مطعم الإنسان من حلال. وقد جاء سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا سعد أطب مطعمك، تكن مستجاب الدعوة"[2].
 
فهذا أول ما يُطلب من الإنسان، أما أن يعيش الإنسان في المعاصي والذنوب، ويرجو استجابة الدعاء، فهذا غير مقبول. وكما قال الشاعر الصالح:
    نحن ندعو الإله في كل كرب   ثم ننساه عند كشف الكروب
    كيف نرجو إجابة لدعـــاء   قد سددنا طريقـها بالذنوب
فأول شيء التطهر من الحرام، ومن الذنوب ومن المعاصي؛ لأنها تسد باب إجابة الدعاء.
 
ثانيا: إخلاء القلوب من معاصي القلوب:
ومعاصي القلوب مثل: الرياء، والكبْر، والغرور، والحسد، والأحقاد، وأمثال هذه الأمراض التي تأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب.

فرِّغ قلبك لله، طهِّر قلبك لله، اجعل قلبك عامرًا بحب الله وخشية الله، صِلْ ما بينك وبين الله، فلا تجعل بينك وبينه حواجز، ثم تقول: يا رب يا رب. فهذا كمثل إنسان أصابه حادث، فأراد أن يطلب الإسعاف، والنجدة، فأمسك بالتلفون ليتصل، وإذا به مقطوع الحرارة، فلو ظل ينادي.. ألو.. ألو.. لن يُستجاب له، ولن يجد ردا. فأعد توصيل الخط، ثم اتصل تجد الإجابة، والنجدة إن شاء الله. فصِل ما بينك وبين الله.
وفي الحديث:" لو عرفتم الله حق معرفته، لزالت بدعائكم الجبال"[3] ولذلك فأهم شيء أن تصِل ما بينك وبين الله، قل: (يارب) بحرقة، كما كان رسول الله يدعو في غزوة بدر، " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، لا تعبد في الأرض" يناشد ربه بحرقة وحرارة، مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز و جل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9][4].
لا بد أن يحرص الإنسان على أن يكون ما بينه وبين الله موصولا، وحاضرا، فإذا قلت: (يا رب  يا رب) قال لك: لبيك وسعديك، والخير في يديك. فمن المهم أن نصل القلوب بالله عز وجل.
 
جواب إبراهيم بن أدهم لمن سألوه: ما لنا ندعو فلا يُستجاب لنا؟
خرج أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم يوما إلى السوق، وإبراهيم بن أدهم هذا من العباد الزهاد، ترك إمارته وترك دنياه وقصوره، وزهد في الدنيا، وعاش راغبا في الآخرة، يؤجر نفسه، ليعمل عاملا من أجل أن يكسب قوته. عندما خرج إلى سوق البصرة، اجتمع الناس حوله، وسألوه: ما لنا ندعو فلا يُستجاب لنا، فقال لهم: لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء، وأخذ يعددها لهم، فقال: عرفتم الله ولم تؤدوا حقه، وتأكلون رزق الله ولا تشكرونه، وقرأتم كتاب الله ولم تعملوا به، وادعيتم عداوة الشيطان وواليتموه، وادعيتم حب رسول الله وتركتم أثره وسنته، وادعيتم حب الجنة ولم تعملوا لها، وادعيتم خوف النار ولم تنتهوا عن الذنوب، واشتغلتم بعيوب غيركم وتركتم عيوب أنفسكم، وادعيتم أن الموت حق ولم تستعدوا له، وتدفنون موتاكم ولا تعتبرون. فكيف يستجاب لكم؟![5].
 
فأخبرهم أن قلوبهم ماتت بهذه الأشياء العشرة، ولا يقبل الله الدعاء إلا من قلب حي، قلب موصول به، قلب يقول يا رب، فتتزلزل السماء.
ركب بعض الناس سفينة، فهاجت الرياح، وأحاط الموج بالسفينة من كل مكان، وظنوا أنهم أحيط بهم، وانتظروا الموت، وأخذ الناس في مناجاة الله، وكثر الاضطراب فوق السفينة، وفي هذا الموقف وجدوا رجلا جالسا يذكر الله، فنظروا إليه وعاتبوه، وقالوا: كيف تسكت في هذا الموقف، وما هذا الهدوء الذي تعيش فيه، فنظر الرجل إلى السماء، وقال: اللهم إنك قد أريتنا بطشك وقوتك، فأرنا عفوك ورحمتك. وما إن أكمل هذه الكلمات، حتى استقرت هذه السفينة.
 
بدعوة واحدة نجى الله أهل هذه السفينة من هذا الموت المحقق، ولكنها دعوة بإخلاص وصدق، وذلك مثل يونس عليه السلام، عندما نادي ربه وهو في بطن الحوت، {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، نادى {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}[الأنبياء:87-88].
 
فنحن نريد نداء من قلوب حية، تعرف الله عز وجل، فالمسلمون حينما استغاثوا بالله في بدر، استجاب لهم وأمدهم بجند من جنده،{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)}.
نحن ندعو الله، ولكن الله لا يستجيب لنا؛ لأن شروط الإجابة غير متوفرة، فالقلوب ليست حية، المعاصي كثيرة، أكل الحرام شاع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام"[6]. كما يقول البعض: (من حلال أكلناه، من حرام أكلناه) يعني لا يبالي. ومثل هؤلاء إذا دعا كيف ينتظر الإجابة؟!
 
إجابة الدعاء كما يريد الله، لا كما يهوى البشر:
ومن ناحية أخرى: أقول أيها الإخوة: قد تتحقق الإجابة بما لا نهوى، فربما نريد الإجابة اليوم، ولكن الله أراد أن تكون بعد سنة أو سنتين، أو ثلاثة، فإن الله لا يعجل بعجلة أحد.
قالوا: لما دعا موسى على فرعون وملائه، وقال: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)}[يونس:88]، قالوا: إن الله استجاب لهما بعد سنين طويلة، قيل: أربعين سنة، وما أظن هذا، والمقصود: أن الله يستجيب، ولكن ليس من الضروري أن تكون الإجابة عاجلة. فالله يمهل ولا يُهمل، كما جاء في الحديث: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» قال: ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد[هود:102]"[7].
 
خطورة الاستدراج:
 وكما قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ[القلم:44-45]، بعض العلماء يقول: (سنستدرجهم) كلما أحدثوا معصية، أحدثنا لهم نعمة، حتى يزدادوا طغيانا، وكأن المعاصي تجلب النعم، وهذا من سخط الله عليهم.
وكما قالوا: إذا غضب الله على قوم، رزقهم من حرام، وإذا اشتد غضبه عليهم بارك لهم فيه. وهنا تكون المصيبة كبرى. وهنا يقول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} اتَّسعت أرزاقهم، وملكوا ما ملكوا، وأخذت أرضهم زخرفها، وازيَّنت، وظنوا أنهم قادرون عليها..وهنا يقول الله: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام:44-45].
 
فأنت لا تحدد لله متى يستجيب لك، واترك القدر لله، فالإجابة ليست على هواك، وإنما هي بأجل مسمَّى، وبالحكمة الإلهية، فكل شيء بأجل مسمى، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي"[8].
 
الدعاء عبادة:
والدعاء عبادة -أيها الإخوة- كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: "{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[9]، قال: {يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} والسياق أن يقول: عن دعائي، فعبَّر بالعبادة على الدعاء. فأنت تتعبد إلى الله بالدعاء، واترك الله يصرف لك الأمور كيف يشاء.
 
الداعي رابح ولا بد:
وفي حديث أبي سعيد الخدري، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم ، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: "إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا: إذاً نكثر. قال: "الله أكثر"[10].
(إما أن تعجل له دعوته) فأنت طلبت – مثلا- أن يأخذ الله شارون، يأخذه فورا، أو ينزل بالأمريكان عقابه، ينزل فورا. طلبت أن يوسع الله رزقك، تجد السعة..الخ.
 
(وإما أن يدخرها له في الآخرة) قد يدَّخر الله لك ثوابها في الآخرة.
(وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها) كان ممكن أن يصيبك بلاء أو كارثة، أو مصيبة، فيصرف الله عنك هذه المصيبة بهذا الدعاء.
 
الدعاء والقدر:
 البعض يقول: وما الفائدة وما قدره الله سيكون؟! أقول: الله يقدر لك المسبَّبات بأسبابها، فحين يقدر لك أن تموت بحادث سيارة، فتسير في الشارع، لتأتي سيارة فتدهمك فتموت، فلن تموت إلا بهذا السبب. وكذلك الدعاء هو سبب من أسباب تحقيق الآمال، وتحقيق المطالب، ولذلك لما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتُقىً نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: "هي من قدر الله"[11]. يعني أن الدواء من قدر الله، والمرض من قدر الله. وهو الذي قدَّر الداء، وقدَّر الدواء، فأنت تدفع قدرًا بقدر، والمؤمن الفقيه في دينه، هو الذي يدفع الأقدار بعضها ببعض. فالدعاء هو سبب من الأسباب لدفع الأقدار عنك. كما قال سيدنا عمر بن الخطاب: نفر من قدر الله إلى قدر الله، وندفع قدر الله بقدر الله.
 
إذا فالدعاء عبادة، قد يعجله الله في الدنيا، وقد يكف عن صاحبه من السوء مثله، وقد يدخره لصاحبه في الآخرة.
 
(قال الصحابة: إذا نكثر يا رسول الله): ما دامت العملية رابحة رابحة، فلماذا لا نكثر من ذلك الخير؟!
(فقال النبي: "الله أكثر"): ما عند الله أكثر مما تطلبون، {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا}[الإسراء:100]. فخزائن الله مليئة، لا تنفد.
وفي الحديث القدسي: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المِخْيط إذا أُدخل البحر"[12]. والمِخيط: هي الإبرة. فهل إذا أدخلت الإبرة في الخليج، تُنقص منه شيئا؟! لو كانت شيء من (القطن) لقلنا لعلها تأخذ شيئا، لكنه شبه ذلك بالإبرة، وهذا دليل على أن خزائن الله لا تنقص.
فهنا قال الصحابة: إذا نكثر يا رسول الله، ما دمنا سنكسب من الدعاء ولا بد، فقال لهم النبي: الله أكثر، يعني أكثروا، وأخلصوا الدعاء، ادعوه مخلصين له الدين، وادعوه وأنتم موقنون بالإجابة، ولا تقيدوا الدعاء، فلا تقل: اغفر لي وارحمني إن شئت يا رب، بل قل: يا رب اغفر لي وارحمني، وأنت على كل شيء قدير، فإن الله لا مُكره له.
 
الدعاء في شهر رمضان:
وفي هذا الشهر الكريم (رمضان) ينبغي أن لا نغفل عن هذه العبادة (الدعاء)، فندعو الله لأنفسنا، وندعوه لمن نحب، وندعوه للمسلمين، فلا يختصر الإنسان الدعاء لنفسه، فإن الله علَّمنا في سورة الفاتحة، أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6]، لماذا لا نقول: اهدني الصراط المستقيم؟! يعلمنا الله أن ندخل في سياق الجماعة، أنت تتحدث عن لسان الجماعة، ولعل عندك من الذنوب ما تمنعك من الإجابة، وتحول بينك وبينها، أما إذا دعوت لنفسك وللمسلمين، كنتَ واحدا منهم، فتغمرك رحمتهم، وتشملك فضائلهم، فيستجيب الله لك معهم.
 
ولذلك أدع لإخوانك المسلمين، وادع بحرقة وحرارة لإخوانك في فلسطين، وانتظر أن يجيب الله دعاءك، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة:186].
 
الحرص على الدعاء في ساعات الإجابة:
إن الدعاء من أعظم العبادات، التي ينبغي للمؤمن أن يحرص عليها دائما، وخصوصا في ساعات معينة، مثل ساعات الأسحار،{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17]، {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18].
وفي السجود، كما قال المصطفى: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء"[13].
 وبين الأذان والإقامة، وفي شهر رمضان، وخصوصا عند الإفطار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "للصائم عند فطره دعوة لا ترد" وكان ابن عمرو -راوي الحديث- يقول -إذا أفطر-: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي[14].
أسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وصل اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين