الدرس الثالث من دروس رمضان 1423 للعلامة الشيخ يوسف القرضاوي
الدرس الثالث من دروس رمضان 1423
أحكام الطلاق من سورة البقرة
للعلامة الشيخ يوسف القرضاوي 
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
ورضي الله عمَّن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين. ثم أما بعد..
خير ما أحييكم به أيها الإخوة والأخوات تحية الإسلام، تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد
فقد جرت عادتنا أن يكون درسنا تعليقا على بعض الآيات، التي نقرؤها من كتاب الله تعالى في كل ليلة، عادتنا أننا نقرأ قبل الترويحة خمسة أرباع من الجزء، نبدأ بصلاة العشاء، سنة استنناها منذ بدأنا صلاة التراويح في هذا البلد الكريم، منذ إحدى وأربعين سنة، وهذا رمضان الثاني والأربعين، نقرأ خمسة أرباع قبل الترويحة، ثم ثلاثة أرباع بعد الترويحة، وعادة نعلق على الأرباع الخمسة التي تكون قبل الترويحة.
فقال لي بعض الإخوة: إنَّ الثلاثة الأرباع التي تتلى في ما بعد الترويحة، لا تأخذ حظها من التعليق، فحبذا لو اهتممنا بهذه الأرباع الثلاثة، وأعطيناها بعض الحق في التعليق، وكنا قد فعلنا هذا منذ بضعة عشر عاما، وظللنا لمدة سنتين تقريبا، نعلق على الأرباع الثلاثة التي بعد الترويحة، وقد استحسنت اقتراح الأخ في أن نفعل ذلك، ولهذا نعلق على الأرباع الثلاثة التي قرأناها بالأمس، من سورة البقرة، والتي معظمها يدور حول شؤون الأسرة.
منهج التشريع القرآني الإجمال والتفصيل :
فالقرآن الكريم اهتم بشؤون الأسرة اهتمامًا بالغًا، وقد قال العلماء المحققون: إن التشريع الإسلامي، والتشريع القرآني خاصَّة، فصَّل فيما لا يتغير كثيرًا، وأجمل فيما يتغير كثيراً، يعني الأشياء التي تتغير كثيرًا، يجمل القرآن فيها، وقد لا يقول فيها شيئا، مثل الإجراءات والمرافعات، وغير هذه الأشياء، لا تجد فيها نصوص من القرآن إلا قليلا؛ لأن هذه الأشياء تتغير في الحياة تغيرا كبيرًا.
والأمور المدنية، وما في شاكلتها، فصَّل فيها القرآن شيئا من التفصيل، فأعطى قواعد عامة، مثل الفقه السياسي: تجد الأمر بالشورى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}[آل عمران:159]،  والأمر بالعدل، وطاعة أولي الأمر:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:58-59]، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}[المائدة:49]. فهي نصوص قليلة، ولكنها نصوص ضابطة لقواعد مهمَّة.
تفصيل القرآن في شؤون الفراق بين الزوجين:
وفي شؤون الأسرة، نجد أن القرآن فصَّل فيها، ولكن معظم تفصيل القرآن، كان في الفراق وفي انفصال الأسرة، وليس في إنشاء الأسرة ولا في تكوينها؛ لأن الناس في حالة إنشاء الأسرة وتكوينها، يكونون في حالة رضا، وتفاهم وتفاوض وتنازل، ولكن البعد عن الصواب، وعن الحكمة، وعن العدل يكون –غالبا- في ساعات الغضب والفراق، فالناس يجور بعضهم على بعض في هذه الحالة، ولذلك اهتمت سورة البقرة خاصة، بالحديث عن الطلاق، وأمر الفراق، والعدة، والوالدات أي: الوالدات المطلقات؛ لأهمية ضبط هذه الأمور.
وإن كانت السورة قد تحدثت في بعض آياتها، عن أهمية العلاقات الزوجية، كما جاء بعد آيات الصيام، أو في أثناء آيات الصيام، {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}[البقرة:187]، {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ}[البقرة:223]. ولكن الذي فصلت فيه هو الطلاق وما يتعلق به، حتى أن ابن مسعود رضي الله عنه، كان يسمي سورة البقرة: سورة الطلاق الكبرى. وسورة الطلاق التي في الجزء الثامن والعشرين يسمِّيها: سورة الطلاق الصغرى؛ لأن سورة البقرة فصَّلت في موضوع الطلاق أكثر من سورة الطلاق، حيث أخذت حوالي ربعَي حزب أو أكثر للحديث عن الطلاق.
الحكمة من تشريع الطلاق:
ولقد شرع الله الطلاق لحكمة، فقد يتزوج الرجل امرأة، ثم لا تروق العشرة بينهما، فيكره أحدهما صاحبه.
ونجد أن بعض الأديان تجبر الزوج على أن يبقى مع زوجته، فتحرم الطلاق تحريما باتا، كما في المسيحيَّة، فهناك مذهب في المسيحيَّة يجيز الطلاق إذا زنت المرأة. ومذهب آخر: لا يجيز الطلاق بحال من الأحوال، ويسمونه الزواج الكاثوليكي. من قديم قال بعض الساسة: لقد تزوجت مصر بريطانيا زواجا كاثوليكيا لا طلاق فيه. كما أن إسرائيل الآن متزوجة بأمريكا زواجا كاثوليكيا لا طلاق فيه.
أما الإسلام فينظر إلى من استحالت العشرة بينهما أنه لا بد أن يكون لحالهما هذا من حل، إذ كيف يعيش شخصان استحالت العشرة بينهما تحت سقف واحد؟! ولقد قال أحد الحكماء قديما: إن من أعظم البلايا أن تصاحب من لا يوافقك، ولا يفارقك. هذه مصيبة كبرى. وعبَّر عن هذا أبو الطيب المتنبي فقال:
ومن نكد الدنيا على الحر أن   
يرى عدواً له ما من صداقته بدّ
ثم إنَّ الزواج ليس شهراً ولا شهرين، ولا سنة ولا سنتين، ولا عشرة ولا عشرين، إنه العمر، فهل يعقل أن تعيش عمرا مع من تكرهه؟! ولهذا كان الإسلام حكيما حينما شرع الطلاق.
الضوابط التي وضعها الإسلام للطلاق:
1- أن يكون في أضيق نطاق:
لما شرع الإسلام الطلاق، وضع له ضوابط بحيث ينفع ولا يضر، فاعتبره "أبغض الحلال عند الله"، كما جاء في الحديث، فهو مشروع، ولكن الله لا يحبه، ومعنى هذا: أنه يجب أن يقع في أضيق نطاق. فهو بمثابة عملية جراحية، والمفترض بالمريض أن لا يبدأ بمعالجة مرضه بعملية جراحية، إذا كان بإمكانه أن يعالجه بدواء كـ (كبسولات، أو شراب، أو حقن.. الخ). وإذا لم تنفع هذه الأدوية، فحينها يلجأ إلى العملية، كما تقول العرب: آخر الدواء الكي.
 وكما قال الشاعر:
إذا لم يكن إلا الأسنَّةَ مركبٌ  
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
 
2- أن يكون الطلاق في طُهْر لم يمسها فيه:
فيقول الإسلام لمن يريد طلاق زوجته: لكي يكون طلاقك على السنة، لا تطلقها وهي حائض، ولا تطلقها في طُهر مسَسْتها فيه، فلعلها حامل وأنت لا تدري، وإن كانت حاملا فخلِّها من أجل جنينها. فيقيِّد عليه الطلاق بأن يكون في طهر لم تمسسها فيه، يعني إذا أردت طلاق زوجتك وقد مسستها، فلا بد أن تنتظر حتى تحيض ثم تطهر، ثم طلقها، ولا شك أن الإسلام أراد بذلك أن يأخذ الرجل فرصة، قبل أن يتَّخذ مثل هذا القرار، وهو قرار ليس هينا ولا سهلا.
3- أن يكون الطلاق بنيَّة:
ثم اشترط الإسلام أن يكون هذا القرار بنيَّة، كما قال ابن عباس: إنما الطلاق عن وطر. فليس لعبة، لا بد أن تفكر قبل الطلاق مرة ثم مرة، ثم مرة، ولذلك القول الصحيح: طلاق السكران لا يقع؛ لأنه لا يملك عقله، وهذا مذهب سيدنا عثمان بن عفان، وبعض الصحابة والتابعين.
وطلاق الغضبان لا يقع؛ حين يكون الإنسان كالمجنون، فيغضب ويثور ويهيج، فيرمي بالطلاق كصاروخ لا يبالي من أصاب، وهذا أيضا لا يقع. كما جاء في الحديث: "لا طلاق و لا عتاق في إغلاق"[2]، فُسِّر الإغلاق بالإكراه، وفسِّر بالغضب، وهو يشمل الاثنين، ففي حالة الإكراه يفقد الإنسان إرادته، وفي حالة الغضب يفقد إرادته –أيضا- وتصوره للأشياء كما ينبغي.
 
4- أن يكون بلفظ الطلاق:
ثم اشترط الإسلام أن يكون الطلاق بلفظ الطلاق، ولذلك القول الصحيح: أن الطلاق الذي يُراد به اليمين، وهو الذي يُراد به الحَمْل على شيء، أو المنع من شيء، لا يقع. وهذا مذهب بعض السلف، ورَجَّحه شيخُ الإسلام ابن تيميَّة، وابن القيِّم، وأخذ به كثير من المذاهب، ولجان الفتوى، والمحاكم، وفي قوانين الأحوال الشخصية في كثير من البلاد الإسلامية، وهو الذي يتفق مع مقاصد الشريعة، ومع روح الإسلام.
فحين يتشاجر شخصان في السوق في سلعة مثلا، وصرخ أحدهم بـ(عليّ الطلاق..)، (عليَّ الحرام من زوجتي..)، ثم ينتهي ليجد زوجته طالقا، وزوجته تنتظره وقد أعدت طعامه، وجهزت فراشه، فتجد نفسها مطلقة، لماذا؟! لأنه تشاجر مع رجل.. وما ذنب المرأة في هذا الوقت؟ فهذه مشكلة حقيقة.
 ولذلك فالقول الصحيح أن هذا لا يقع، فالطلاق لا بد أن يكون عن وطر، وعن نية، ولهذا قال الله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}.
يقول الله تبارك وتعالى:
{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}
جعل الله الطلاق الذي تجوز معه الرجعة مرتين، أما الثالثة ( ثابتة) كما يقولون، {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}[البقرة:230].
كان الناس في الجاهلية، يطلق الرجل زوجته، ثم يراجعها، ثم يطلقها، ثم يراجعها، وهكذا، دون قيد أو شرط، فجاء الإسلام ليبيِّن أن المرأة ليست (لعبة) في يد الرجل، وجعل الطلاق مرتين.
 
لا يجوز للرجل أن يأخذ من المرأة ما أعطاها من مهر :
{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ  يَتَعَدَّ حُدُودَ  اللَّهِ  فَأُولَئِكَ  هُمُ الظَّالِمُونَ(229)}
لا يجوز للرجل أن يأخذ من المرأة، ما أعطاها من مهر، أو بعضه، من أجل أن تتركه، {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}[النساء:19].
لأن بعض الرجال – للأسف- يريدون أن يستغلوا المرأة لتدفع له ليطلقها، مثل (إتاوة)، وهذا لا يجوز.
فإن كانت المرأة هي الكارهة، تفدي نفسها {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}، أما إذا كان الرجل هو الكاره لها، ويريد أن يتزوج بأخرى، فلا يحل له أن يأخذ منها فلْسا واحدا.
العلاقة الزوجية ميثاق غليظ:
ولذلك القرآن يقول في سورة النساء: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}[النساء:20-21]. فاعتبر الزوجيَّة ميثاقا غليظا، كما اعتبر النبوَّة ميثاقا غليظًا أيضًا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7]. فميثاق الزوجيَّة ميثاق مقدَّس كميثاق النبوَّة.
متى يجوز للرجل أن يستردَّ المهر من زوجته؟
فإذا كان الرجل كارهاً لزوجته، لا يجوز له أن يأخذ منها شيئاً، أما إذا كانت المرأة هي الكارهة، فمن العدل أن تدفع له ما بذل لها، فالرجل يغرم في بناء منزل الزوجيَّة، ثم تقول المرأة: لا أريده، ثم تأخذ ما أعطاها، ليس من العدل هذا، فهو يريد أن يتزوج بأخرى، فمن العدل أن تدفع له ما أعطاها.
كما قالت امرأة ثابت بن قيس لرسول الله: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. تعني: كفر العشير، مع أن الرجل كان يحبها جدًا، ولكنها لا تطيقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟" قالت: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة"[3]. وفي رواية: يا رسول الله، إني لا أراه[4]، فلولا مخافة الله عز وجل لبزقت في وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته التي أصدقك؟" قالت: نعم، فأرسل إليه فردت عليه حديقته، وفرق بينهما، قال: فكان ذلك أول خلع كان في الإسلام[5].
هل الخلع طلاق أم فسخ ؟
واختلف العلماء هل الخلع طلاق أم فسخ، فمذهب الإمام أحمد –وهو رأي ابن عباس- أن الخلع فسخ، ويدلُّ عليه ظاهر القرآن في هذه الآية: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} لا جناح عليهما، فيما تفتدي به المرأة نفسها، فهي تدفع له ما أخذت وتتحرر.
هل يجبر الزوج على الخلع ؟
وهنا الخلاف بين العلماء: هل يتمُّ برضى الزوجين، أم يُجبر الزوج على قبول الخلع، وقد اختلف المشايخ في مصر العام الماضي؛ لأن الفقهاء اختلفوا من قديم، وأنا مع الرأي الذي يقول: أن القاضي يجبر الرجل إذا كانت المرأة كارهة، لأن ليس من المعقول أن نلزم المرأة بالعيش مع من تكرهه.
حتى أن أي رجل عنده (كرامة) لا يقبل أن يعيش مع امرأة تكرهه، ولا تريد أن تعيش معه.
جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب، تشكو زوجها، فأمر بأن تبيت في حظيرة، ثم في الصباح سألها عن ليلتها، فقالت: ما نمت ليلة أهنأ من هذه. فأمر زوجها بطلاقها بعد أن تدفع له ما أخذته منه.
الإسلام دين العدل :
فالإسلام – حقيقة- هو دين العدل، وليس شريعة شرعها الرجال، فيجوروا على النساء، ولا شريعة شرعها النساء فيجوروا على الرجال، إنما هي شريعة رب الرجال والنساء جميعا، فهي العدل المطلق، ولذلك ففيها الإنصاف للطرفين.
ولقد كانت المرأة كثيرا ما تكون مستضعفة في القرون الماضية، فجاء الإسلام وأنصفها، حتى أن الآيات التي بدأت في الحديث عن الطلاق، بدأت بقوله تعالى: { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} يؤلون، أي: يحلفون على نسائهم: والله لا أقربها أبدا، أو سنة.. الخ. وما معنى الحياة الزوجية إذا؟!!
 فأعطاه الله إنذارا قبل أن تمر الأربعة أشهر، إما أن ترجع وتفيء إلى المرأة، وإلا طُلِّقت منك. وهذا هو المعنى من قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}.
هل تطلق بمجرد مرور الأربعة أشهر؟ أم لا بد من حكم القاضي؟
واختلف الفقهاء: هل تطلق بمجرد مرور الأربعة أشهر، أم لا بد من حكم القاضي، فمن العلماء من يرى أن الطلاق يقع بدون قاضي، يعني لو مرت الأربعة أشهر دون أن يعود في حلفه، فقد طُلِّقت امرأته. وهكذا يرعى الإسلام الحقوق بين الطرفين.
وفي آية العدة يقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أي: لهنَّ من الحقوق مثل ما عليهنَّ من الواجبات، والرجل عليه واجبات أكثر، فدرجة الرجل أنَّ عليه عبئاً أكبر في المسؤوليَّة، والنفقة، وغيرها.
هذا ما يريده الإسلام من الحياة الزوجية، أن تقوم على أسس متينة، من المودة والسكينة والرحمة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم:21].
 
الانفصال على أسس أخلاقية :
فإن حصل انفصال فلا بد أن يقوم على أسس أخلاقيَّة، فبعض الناس كأن لم يكن بينهما شيء، فالرجل يُشنِّع على المرأة، والمرأة تُشنِّع على الرجل، وهذا ما لا يجوز، والله تعالى يقول:
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}
 القرآن يقول: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} حتى قبل الدخول، لو كنت فرضت لها شيئا، {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فرضت لها (20) ألف مثلا، تعطيها (10) آلاف، دون أن تمسها.
 فالمطلقة قبل الدخول لا عدة عليها، ولها نصف المهر {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} إلا أن تعفو المرأة فتقول: أنا متنازلة عن هذا النصف، أو عن جزء منه. {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} أو يعفو الرجل فيقول: أنا متنازل لها عن المهر كله، أو ثلاثة أرباعه..
ثم يقول الله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أن تعفو المرأة فتتنازل عن بعض الشيء، أو يعفو الرجل فيزيد عن المطلوب منه، هذا هو الأقرب للتقوى، وهذا المجتمع الإسلامي، إنه مجتمع مكارم وفضائل: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


[1]- الشيخ عبد السلام قنديل، من القراء المميزين بأصواتهم الجميلة، وحسن أدائهم للقرآن، ولد بمصر، ويعمل إماما وخطيبا بوزارة الأوقاف القطرية، وهو عضو في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهو أيضا من جملة الباحثين بالمكتب العلمي لفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، وقد كان إمام التراويح في مسجد الشيوخ، الذي ألقي فيها الشيخ القرضاوي هذا الدرس (عبد الله السكرمي ).
[2]- رواه أحمد (26360) وقال مخرجوه: إسناده ضعيف. والحاكم في الطلاق (2/ 198) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وابن ماجه في الطلاق (2046)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7525) عن عائشة.
[3]- رواه البخاري في (5273)، والنسائي في الطلاق (3463) عن ابن عباس.
[4]- لا أراه، أي: لا أقدر أن أنظر إليه من شدة الكراهة والنفرة. انظر حاشية السندي (9/230).

[5]- رواه أحمد (16095) وقال مخرجوه: حسن لغيره. عن سهل بن أبي حثمة. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين