الدرس الثالث عشر من دروس رمضان : وصايا الحكمة في سورة الإسراء

العلامة الشيخ يوسف القرضاوي
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربُّه رحمة للعالمين، وحجَّة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157] ورضي الله تعالى عمَّن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين.
 
وصايا سورة الإسراء تفصيل للوصايا العشر في الأنعام:
أما بعد.. فيا أيها الإخوة والأخوات:
استمعنا الليلة إلى سورة الإسراء، وفي سورة الإسراء وصايا من الله تعالى، وهي تفصيل لوصايا جاءت في سورة الأنعام، يسمِّيها العلماء: (الوصايا العشر)، التي جاءت في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ..} وما بعدها من الآيات. فهي آيات ثلاث جاء في ختامها كلها: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}. ومن كلمة: {وَصَّاكُمْ} أخذ العلماء، اسمًا لهذه الآيات: الوصايا العشر.
هذه الوصايا العشر فُصِّلت في سورة الإسراء، وزيد عليها، عدَّة أشياء لم تذكر في سورة الأنعام، من ذلك، قوله تعالى:
 
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}.
ومن ذلك أيضا: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)}.
وأيضا: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)}.
وفي سورة الأنعام وصيَّة لم تُذكر هنا في سورة الإسراء، وهي في قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[الأنعام:152].فهي وصايا يكمل بعضها بعضا.
 
وصايا الإسراء وصايا الحكمة والتعليل:
أطلق بعض العلماء على هذه الوصايا اسم: (وصايا الحكمة)؛ لأن الله تعالى قال -لرسوله- في نهايتها: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}[الإسراء:39]. وسميت بذلك أيضا؛ لأنها وصايا معللة؛ حيث ذكر الله فيها علة النهي مع النهي.
 
فقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}[الإسراء:29]، فالعلة مذكورة، وقوله: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا}[الإسراء:22]. وقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} هذا التعليل جعلها من وصايا الحكمة.
 
تكوين العقيدة السليمة لشخصيّة الإنسان المسلم:
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}
وهذه الوصايا تريد أن تُكوِّن الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم. تريد أن تُكوِّن الفرد المسلم الذي عماد شخصيته العقيدة السليمة، والعقلية السليمة، والأخلاق الفاضلة، ولذلك بدأت هذه الوصايا بقوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}، نهى عن الشرك، وفي ختامها: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)}.
 الشرك هو الذي خرب الحياة البشريَّة، وأضلَّ الناس عن طريق الله طوال التاريخ، ولذلك كانت مهمة الرسل الأولى: أن يحرروا الناس من الشرك، ويدعو الناس إلى التوحيد، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، فأول ما تبنى عليه شخصية الإنسان المسلم: التحرر من الشرك، والقيام على توحيد الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}.
 
تكوين العقلية السليمة:
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}
وكذلك ينشئ الإسلام المسلم على العقلية المتفتحة، العقلية المتطورة، العقلية التي تنظر إلى كل شيء في ضوء البرهان، لا تستسلم للخرافات، ولا للأباطيل، ولذلك في هذه الآيات يقول الله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، لا تتبع أشياء ليس لها أساس علمي، لا تستند على شيء من عقل أو نقل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}.
 
فالله أعطاك أدوات تطل بها على الحالة، نوافذ تفتح بها آفاق المعارف، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:78]، تستمع لتتعلم الأشياء المنقولة -خصوصا المنقولة من الوحي ومن الدين- تعرف بالسماع. وبالبصر: ترى أن العلم الحديث قائم على الملاحظة والتجربة، على ما تشاهده بعينك في المختبرات والمعامل. والفؤاد: هو العقل، تحاكم كل شيء إلى المنطق، لا تسلم للخرافات.
 
فالإسلام يريد أن يربِّي الشخصيَّة التي تفكر بعقل، فالدين لم يأتِ ليلغي العقول، كما يظن بعض الناس، وليس عندنا في الإسلام كما في المسيحية: اعتقد وأنت أعمى. أو أغمض عينيك ثم اتبعني. لا بل عندنا: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:111]، والمحققون من علمائنا يقولون: إن إيمان المقلد غير مقبول، الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] هذا مرفوض تماما في الإسلام، لا بد أن يكون عندك دليل ولو على الأقل دليل إجمالي.
فحينما أقول لك: لماذا آمنت بالإسلام؟ تقول على الأقل: ومن خلقني؟ ومن خلق هذا الكون؟ ومن أبدع هذه الأشياء؟ وهذا يسمَّى دليل العِلِّية، أو السببيَّة، والأعرابي قديما قال: البعرة تدل على البعير، وخطُّ السَّيْر يدلُّ على المسير. وهذه تسمَّى أدلة إجماليَّة.
 
تكوين الأخلاق الفاضلة:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)}
فلا بد للشخصية المسلمة أن تتكون من العقيدة السليمة، ومظهرها التوحيد، والعقلية السليمة، والأخلاق الفاضلة، التي نرى إشعاعها على الناس، مثل قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}.
 
بر الوالدين في حالة الكبر:
 فتبدأ الأخلاق أول ما تبدأ بالإشعاع على الأسرة، على الوالدين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)}، تبدأ الأخلاق ببر الأبوين وخصوصا في حالة الكبر.
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة"[1]. عند الكبر: ضيَّع هذه الفرصة، أن يخدم أبويه عند الكِبر، وشُغل بنفسه وامرأته وعياله، ونسي أبوه أو أمه، أو أدخله دار العجزة، ثم يقول: إنه لا يريد أن يأكل! وهل الإنسان أكل وشراب فقط؟! إنه يريد أن يعيش معك ومع أولادك، يريد أن يحكي لأحفاده الحكايا.. تحرمه من جوِّ الأسرة، وترميه في دار العَجَزة؟! هذه الأشياء غريبة عن مجتمعاتنا، وقد عرفها المجتمع الغربي، لأن عندهم بمجرد أن يبلغ الفتى أو تبلغ الفتاة يذهب إلى حال سبيله، يبحث الولد عن صديقة، وتبحث البنت عن صديق، ولا يعرفون أبا ولا أما، ويأتون كل عام في عيد الأم فيرسل لأمه أو لأبيه زجاجة عطر، أو أي شيء من الهدايا، حتى إنه لا يذهب ليزوره، بل يرسلها له بالبريد. وهذه ليست حياة المسلمين.
 
لقد قال الله: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَاَ} وانظروا إلى قول الله: {عِنْدَكَ} كأنهما أمانة عندك، {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} إيَّاك أن تجرح شعورهما بأيِّ كلمة، حتى ولو بما ليس كلاما، مثل (أُفٍّ). لأن الأب أو الأم في هذه المرحلة، في شدَّة حساسية، فأي إساءة مهما كانت يسيرة، يعتبرها أنها سهم موجه إلى صدره، فيتألم منه، فإياك أن تؤلمه بمجرد إظهار التأفف. وليس الإيذاء بالشتم أو الضرب، فهذا مصيبة كبيرة.
يقول سيدنا علي رضي الله عنه: لو علم الله في العقوق شيئا أدنى من أف لحرَّمه. فليس هناك أقل من أف، {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} قل لهما القول الحسن الجميل.
 
الذلة المحمودة في القرآن:
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)}
إن الله يحب للمؤمن أن يكون عزيزًا: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون:8]، ولكن هل يريد الله هنا أن يذل الإنسان لأبويه؟ نعم يذل لهم، فالذل هنا محمود.
إيَّاك أن تذلَّ نفسك لأمير أو وزير أو رئيس: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}[النساء:139] ولكن الذلة محمودة في موضعين في القرآن الكريم:
 
الأول: ذلة المؤمن على أخيه المؤمن، كما قال تعالى: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[المائدة:54].
والثاني: ذلة الإنسان لأبويه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}، فمن رحمتك بهم ذل لهم، وهذا هو العز الحقيقي، {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)}.
 
ومهما عمل الإنسان فلن يفيَ بحقِّ أبويه، وقد روى البزار أن رجلا كان يحمل أمه يطوف بها حول الكعبة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أدَّيتُ حقها؟ قال: "لا، ولا بزفرة واحدة". يعني وهي تتألم من الطلق والولادة، كل ما تفعله لا يساوي شيئا من هذه الآلام. فالله يقول: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}[لقمان:14]، وقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف:15].
 
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)}
وربما يصدر من الإنسان شيء وهو بار بوالديه محسن لهما، فيغضب والديه، الله يقول عن ذلك: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} والأوَّاب: الرجاَّع إلى الله، إن أذنب، يستغفر الله ويتوب إليه، ويخاف عذاب ربه، ويقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23].
 
تكوين الشخصية المحسنة:
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)}
هذه الوصايا تنشئ الشخصية المسلمة البارة بوالديها، المحسنة إلى الأقارب والمساكين وأبناء السبيل: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)} وقد أتى بالنهي عن تبذير المال في هذا الموضع، لأن الإنسان إذا أضاع المال، لم يجد ما ينفقه على الأقارب، ولذلك قيل: ما رأيت إسرافا إلا وبجانبه حقٌّ مُضيَّع. إذا أسرفت في هذه النواحي، وخصوصا النواحي المحرَّمة، لن تجد ما تنفقه على الأقارب والمساكين وابن السبيل.
 
تكوين الشخصية المتواضعة:
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)}
الإسلام ينشئ الشخصية المتواضعة: لا تمش متبخترا، كما في الأمثال: (يا أرض انهدي ما عليك قدي)، من أنت؟! وكم حوَت الأرض من أمثالك. كما قال الشاعر:
 
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا    
فكم تحتها قوم همو منك أرفع
وإن كنت في عزًّ وجاه ومنـعة    
فكم مات من قوم همو منك أمنع
والمعري يقول:
صاح هذي قبـورنا تملأ الرحب
فأين القبور من عهد عــاد
خفِّف الوطأ ما أظنُّ أديــــمَ
الأرض إلا من هذه الأجساد
سر إن استطعت في الهواء رويداً
لا اختيالاً على رفات العبادِ
 
 
يسأل المعري إذا كانت جثثنا ملأت الأرض، فأين القبور من عهد عاد؟! لا شك إذا أنها أصبحت ترابا، نسير عليها.
لقد قدمتُ قطر منذ سنوات عديدة، حوالي 41 سنة، وكم من مقبرة فُتحت وأُغلقت، كانت هناك مقبرة قريبة بالسوق وأُغلقت، وفتحت مقبرة ناحية المطار وأغلقت، ثم في أبو هامور، وتكاد تُغلق. فهذه القبور رأيناها تملأ الأرض، فاين القبور من عهد عاد؟
ولذلك يقول المعري:
 
خفِّف الوطأ ما أظن أديــــم
الأرض إلا من هذه الأجساد
سر إن استطعت في الهواء رويداً
لا اختيالاً على رفات العبادِ
فقبيحٌ بنا ، وإن قـــدم العهـد
هَــوان الآباء والأجـدادِ
 
هذه الأرض التي تمشي عليها لعلها قبور قديمة لآبائك وأجدادك وأنت لا تدري، فخفف الوطء، {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)}.
بهذه الوصايا ينشئ الإسلام الفرد المسلم الصالح، والأسرة المسلمة الصالحة، والمجتمع المسلم الصالح، الذي يتعامل بالحقِّ في الكيل والميزان، وقرب مال اليتيم بالتي هي أحسن، والوفاء بالعهد، ولا يقتل الأولاد خشية إملاق، ولا يقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يقرب الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا.
هذا هو المجتمع الصالح، وهذه هي الأسرة الصالحة، وهذه هي الشخصية الصالحة، التي يربيها الإسلام بوصاياه.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


[1]- رواه مسلم في البر والصلة (2551)، وأحمد (8557) عن أبي هريرة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين