الدرس التاسع من دروس رمضان : التوحيد والاصلاح في دعوات الأنبياء من خلال سورة هود

العلامة الشيخ يوسف القرضاوي 
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربُّه رحمة للعالمين، وحجَّةً على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين. ثم أما بعد..
 
فيا أيها الإخوة والأخوات:
استمعنا إلى هذه النخبة من الآيات الكريمة من سورة هود، وسورة هود تذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم، وكيف انتهى هذا الأمر، وفي الغالب أنها انتهت بهلاك الكافرين ونجاة المؤمنين، وهذا ما حكاه الله في قصص هود، كما حكى في سورة الأعراف، وكما سيأتي في سورة الشعراء، وفي عدد من سور القرآن الكريم.
 
عناية القرآن بقصص الأنبياء :
عُنيَ القرآن بقصص الرسل، وأنبياء الله، عناية كبيرة لما فيها من عظة، كما في آخر هذه السورة: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[هود:120} فيها تثبيت لفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ولقلبه، في مواجهة المشركين.
وفي آخر سورة يوسف يقول الله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[يوسف:111].
 
قصص القرآن من دلائل نبوة محمد:
وفي هذه السورة -أيضا- يقول بعد أن قصَّ قصة نوح مع قومه وابنه: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[هود:49]، هذه القصص من دلائل نبوة محمد، لأنه نبيٌّ أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، فمن أين جاءته هذه القصص، وقد صحَّح أشياءً كثيرة من الأخطاء التي وقع فيها أصحاب الكتب السابقة، وليس الكتب السابقة، لأن الكتب لا تخطئ، وإنما الخطأ فيما حرفوه منها، وما كتبوه بأيديهم {يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}[البقرة:79].
 
عناية الأنبياء بالتوحيد:
إن من قرأ قصص الأنبياء في القرآن، وجد أن الأنبياء جميعا، عُنوا بأمرين أساسيين:
 
الأمر الأول: هو التوحيد: فمشكلة البشريَّة في تاريخها الطويل، أنها ضلت عن توحيد الله، ولم تكن مشكلة البشرية أنها ألحدث أو جحدت بوجود الله. فلم يأت نبي ليقرر أن الله موجود، لأن الكل يعترف أنَّ الله موجود، وأنه يوجد إله.
حتى قال بعض مؤرِّخي الأديان والفلسفات: وجدت في التاريخ مدن بلا حصون ولا قلاع، ووجدت مدن بلا قصور، ووجدت مدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد.
فكل الحضارات وكل المدن على مدار التاريخ لم تخلو من معابد، ولكن من يعبد؟ هذه هي المشكلة، من يُعبد في هذه المعابد.
 
فالبشريَّة ضلت الطريق، فعبدوا الأحجار والأشجار، والأبقار، والكواكب، والجن، واتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، وهذا ما ضلت به البشرية، ولهذا جاء الأنبياء والرسل جميعا بهذه الحقيقة، أنه لا إله إلا الله.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25].
 ولذلك تجد في هذه السورة، وفي سورة الأعراف قبل ذلك، النداء الأول في رسالة كل رسول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
 
 حقيقة التوحيد: توحيد الإلهيَّة:
حقيقة التوحيد: توحيد الإلهيَّة ، فتوحيد الربوبيَّة لا ينكره أحد، حتى مشركي قريش أنفسهم، كانوا معتقدين بربوبية الله، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[العنكبوت:61].
وقد قرأنا بالأمس {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}[يونس:31]. إن كنتم تعتقدون أن الله هو الخالق وحده، وهو الرازق وحده، فلماذا لا تفردوه بالعبادة وحده؟
معنى توحيد الإلهية :
فمشكلة البشريَّة ليست توحيد الربوبيَّة، ولكن توحيد الإلهيَّة، ومعنى توحيد الإلهيَّة: لا إله إلا الله، ومعنى لا إله إلا الله: لا يعبد إلا الله، لا يُرجى إلا الله، لا يُخْشى إلا الله، لا يُخضع إلا لله، لا تنحني الظهور إلا لله، لا تتعفر الجباه ساجدة سائلة إلا لله. وهذا تحرير للبشريَّة، فلا عبوديَّة لأحد إلا الله، فإذا أردنا أن نحرر البشر حقيقة فلنحررهم بالتوحيد.
 
التوحيد يحقق الحرية الحقيقية للإنسان:
ولهذا كانت دعوة الأنبياء إلى التوحيد، هي دعوة إلى الحرية الحقيقية، وحينما جاء محمد صلى الله عليه وسلم، ودعا الناس جميعا، وخصوصا أهل الكتاب، كان يختم رسائله جميعا، إلى قيصر، وإلى هرقل، النجاشي، والمقوقس: يختم بهذه الآية الكريمة: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[آل عمران:64] كلنا إخوة، كلنا سواسية، كلنا عبيد لرب واحد، وأبناء لأب واحد، فلماذا تستعبدني، أو تستذلني؟
لماذا تجعل نفسك ربا لي وأنا عبد لك، ولهذا أنكر على أهل الكتاب، أنهم اتَّخذوا أحبارهم، ورهبانهم أربابا من دون الله، والمسيح ابن مريم.
فالدعوة إلى التوحيد، كانت أول نداء الأنبياء لقومهم، وهو أمر اتفق عليه جميع الأنبياء: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
والفلاسفة، كانت لهم فلسفة مخالفة للآخر، ولا تكاد تجد فيلسوف متفق مع آخر، فكل واحد له منهج وهدف، أما الأنبياء فكانوا متفقين في الهدف، في الفلسفة العامة للكلية، الأصول العامة للجميع واحدة.
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى:13] فكلمة الأنبياء واحدة، وأصولهم واحدة.
 
إصلاح المجتمع ومحاربة الفساد:
والأمر الثاني الذي اتفق عليه الأنبياء جميعا، هو: إصلاح المجتمع، ومحاربة المفاسد والرذائل، والمظالم في كل المجتمعات، ولا يمكن أن يتخفَّى رسول، أو يُغمض عينيه عما يجري في المجتمع من الظلم، والفساد والشر والمنكر.
 فكل نبيٍّ حاول أن يصلح حال قومه، ويحارب البغيَ والفساد في الأرض بقدر المستطاع.
 
موقف الملأ من دعوة الرسل عليهم السلام :
 ولذلك وقف كبراء القوم، في وجه الرسل، ويُسمِّيهم القرآن بـ(الملأ)، أي: أشراف القوم، الذين يملؤون العين، ويملؤون المكان، ويملؤون النفوذ. فهؤلاء كانوا يقفون في وجوه الأنبياء، وجاء هذا كثيرا: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[الأعراف:60]
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[الأعراف:75].
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}[الأعراف:88].
{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}[الأعراف:109]
{ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}[هود:27].
 
موقف قوم نوح من الضعفاء والفقراء:
فقوم نوح قالوا له: لا يوجد معك غير الضعفاء والمساكين، والمحتاجين، فلم نجد معك وزيرا أو أميرا، أو أحدا من أصحاب النفوذ بين الناس، حتى طلب بعضهم أن يجالسوه بشرط أن يطرد هؤلاء المساكين، والضعفاء، فقال لهم: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)}
وظلَّ يجادلهم حتى قالوا: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)} العاجز عن استخدام المنطق، يستعمل القوة، فلذلك قالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} مثل قريش لما قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32]، انظر الغباء، ألا يقولون: اهدنا إليه. أي غباء، وأي عصبية عمت العيون، وغشتها إلى هذا الحد؟
فمشكلة الأنبياء مع أقوامهم: أن الكبراء والأعيان والزعماء والوجهاء وقفوا في سبيل الدعوة، بصفة عامة، إلا من هدى الله منهم، وإنما الأغلبيَّة.
 
موقف هرقل من دعوة الرسول :
وهذا هرقل إمبراطور الروم، حينما أرسل النبي له رسالة، يقول له فيها: "أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيِّين. { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وكان من حكماء الناس، أراد أن يستوثق، فقال: ابحثوا لي عن أحد من العرب، ممَّن يعرف محمدا، فوجدوا أبا سفيان بن حرب، وكان تاجرا، فجاؤوا به، وعرف أنه قريب من محمد، ويعرفه جيدا، فسأله أسئلة في غاية الدقة، تدل على غاية الذكاء.
 
ففي الحديث الذي يروي فيه أبو سفيان هذه القصة، قال: ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سُخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا...
ثم قال:  فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
 
 وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول، فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله، لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله.
 وسألتك: هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، قلت فلو كان من آبائه من ملك، قلت رجل يطلب ملك أبيه.
 وسألتك: هل كنتم تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
 وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتَّبعوه، وهم أتباع الرسل.
 وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
 وسألتك: هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
 
فالشاهد: أن هرقل سأله عن من يتبعه من الناس: الضعفاء أم الأشراف؟ ليبيِّن له بعد ذلك سبب السؤال، وهو: أن الأنبياء يتبعها الضعفاء غالبا. لأن الكبراء يستكبرون أن يتبعوا الأنبياء، وبعض الأنبياء يكون ضعيفا في قومه، كما قال لوط عن نفسه: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}[هود:80]، لو أن لي عائلة، أو قبيلة، أو أسرة أنتمي إليها..
بينما تجد في قصة شعيب أنهم قالوا له: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}[هود:91].
كل الأنبياء وكل الرسل، جاؤوا لإصلاح المجتمع، فوقف أمامهم كبراء قومهم، وأشرافهم، ولكن هذا لم يثنهم عن الدعوة للإصلاح.
 
الشذوذ الجنسي في قوم لوط:
فسيدنا لوط عليه السلام، كان شر ما في مجتمعه، الشذوذ الجنسي، الفاحشة، ابتكروا هذه الفاحشة: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:80]. وأصبحت إدمانا، ومرضا، وقد سمعتم في الآيات، عندما علموا أن هناك ضيوفا عند لوط، هرولوا إليه، فلا يتركون أحدا.
 
ولذلك لما جاء الملائكة للوط عليه السلام، ضاق ذرعا بذلك، وخاف عليهم من قومه، { وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)} وحصل ما كان يخافه، {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}، أعماهم الباطل الذي يعيشون فيه عن الحق، كما قال الله لرسوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}، أسكرتهم هذه المصيبة.
 
عقوبة قوم لوط :
وقد عاقب الله قوم لوط بعقوبتين: الأولى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}، والثانية: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} أحجار مُعَلَّمة، كل حجر يعرف سيضرب من. {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}، فطهَّر الله الأرض من شرهم.
 
الحضارة الغربية حضارة الإباحية:
ولكن - للأسف- الحضارة الغربية المعاصرة، جاءتنا بالشذوذ الجنسي هذا، وجعلت له أندية، وجمعيات، ومؤسَّسات، ويُعترف به علنا، وتوافق عليه الحكومات والبرلمانات في أوربا وغيرها، وكذلك الكنائس، فكثير من الكنائس صارت تعتمد زواج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وقرأنا هذا في الصحف، وفي التلفزيونات، وغيرها، أن القس الفلاني يعقد زواج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء.
 
هذه هي الحضارة الغربية، حضارة الإباحية، هذه هي الحضارة السائدة، التي تحارب الإسلام، حضارة العفة والطهارة والنظافة، والإحصان، والحياء.
وفي الانتخابات الأمريكية، هؤلاء الناس لهم أصوات عالية، وصار باستطاعتهم أن يتجمَّعوا وينجحوا من يريدون من المرشحين، فصارت لهم قوة. والله يقول: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}
 
كل الرسل جاؤوا بإصلاح المجتمعات، فلوط جاء لإصلاح المجتمع من الناحية الاجتماعية الأخلاقية.
إصلاح شعيب من الناحية الاقتصادية:
 وشعيب عليه السلام جاء بإصلاح المجتمع من الناحية الاقتصادية، كما سنقرأ في الربع القادم، حتى أن بعض المعاصرين يسمي سيدنا شعيبا: (نبي الاقتصاد)؛ لأنه عُني بالناحية الاقتصادية، {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)}
هكذا كانت دعوات الرسل جميعا، اتفقت في أمرين أساسيين: الدعوة إلى التوحيد، والدعوة إلى إصلاح المجتمعات ومحاربة المفاسد والمظالم والمنكرات.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يفقِّههنا في كتابه، ويفقِّهنا في دينه، ويجعلنا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}[الزمر:18]
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين