الدرس التاسع عشر من دروس رمضان: المرأة في القرآن الكريم ودورها في قصة موسى عليه السلام من سورة القصص

 
 
العلامة الشيخ يوسف القرضاوي
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربُّه رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وحبيبنا، وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين.
أما بعد..
 
دور المرأة في حياة الرسل:
فإن من يتأمَّل ويتدبَّر آيات القرآن الكريم، في قصص الأنبياء خاصة، يجد أن للمرأة دورا هاما، في سيرة الرسل والأنبياء بصفة عامة، فلا تخلو قصة نبي من الأنبياء من وجود المرأة في سيرته، وفي حياته، وهذا أمر طبيعي، لأن الله خلق الزوجين، الذكر والأنثى، ولا تقوم الحياة إلا باجتماعهما.
 
المرأة في قصة آدم عليه السلام:
نجد من أول الخليقة، من أول ما خلق الله أبو البشر، آدم عليه السلام، وأسكنه الجنة، قال له: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35]؛ لأنه لا معنى لجنة يعيش فيها الإنسان وحيدا فريدا، لا أنيس ولا جليس، ما معنى هذه الجنة؟ أكل وشرب وفقط؟!
ولذلك خلق له من نفسه زوجا ليسكن إليها، وأسكنها معه في هذه الجنة، وقال له: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35].
ولما أصدر أمرا تكليفيا، لم يكن هذا الأمر لآدم وحده، وإنما كان له ولزوجه معا، {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:35} {وَلَا تَقْرَبَا}: فيها ألف التثنية، {فَتَكُونَا} كلاكما {مِنَ الظَّالِمِينَ}.
 
امرأة نوح وامرأة لوط :
 فكانت المرأة مع الرجل، جنبا إلى جنب، منذ خلق آدم عليه السلام، وكذلك رأينا دور المرأة في قصص الأنبياء، إيجابيا أو سلبيا، فأحيانا تكون المرأة معينة للرسول، وأحيانا تكون ضده، كما في امرأة نوح وامرأت لوط {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10].
 
المرأة في قصة سليمان عليه السلام:
واليوم ونحن نقرأ قصة موسى عليه السلام، وجدنا للمرأة دوراً كبيرًا، وأمس حينما قرأنا قصة سليمان عليه السلام، في (سورة النمل)، وجدنا دور المرأة التي حكمت قومها، {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)}، كما حكى الهدهد لسليمان، وذكر لنا القرآن ذلك، أنها كانت امرأة قائدة، وحكيمة، وسادت قومها، ووصلت بهم إلى خيري الدنيا والآخرة، حينما جاءها كتاب سليمان عن طريق الهدهد: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} دليل على الجدية والإيجابية، لم يُسهب رسول الله سليمان ولم يطل، ولم يكثر من المقدمات، وإنما أوصل الرسالة بكلماته البسيطة هذه: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فعَرفَتْ أن الأمر جِد لا هزل فيه.
 
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)} ، كانت امرأة شوريَّة، بلغة عصرنا (ديمقراطية)، تقول: لا أقطع في أمر حتى تحضرون، وتشاركوني فيه.
 {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)} أرادت أن تشاورهم، وهم سلّموا إليها الأمر، وقالوا: نحن نملك القوة، لو وصل الأمر إلى الحرب، مستعدون.
{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} إذا دخلوها فاتحين، وليس المقصود: أن الملك إذا ذهب لزيارة قرية في مملكته يُفسدها. لا! ليس هذا المقصود كما يظن بعض الناس.
إنما المقصود إذا دخلوا البلد مستعمرين لها، أفسدوا البلاد، وأذلوا العباد. وهذا ما رأيناه، ولذلك قال الله:
{وكذلك يفعلون}. أي: هذه سنة ماضية إلى يوم القيامة.
 
قال الله: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)}
سأختبر هذا الرجل، هل هو مثل ملوك الدنيا، نجذبه ونسيل لعابه بشيء من أموال الدنيا، فيبتعد عنا ويتركنا وشأننا، أم هو صاحب دعوة ورسالة، لا يغره المال ولا يكفيه.
وقد تبيَّن لها أن سليمان من نوع آخر: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)}.
 
المهم أن القصة انتهت، بأن جنَّبت هذه المرأة الحكيمة قومَها الحرب، ودخلت في دين سليمان: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}.
 
لنظرة الخاطئة إلى المرأة :
وهذا يدلنا على أن المرأة قد يكون عندها عقل، أفضل من عقول كثير من الرجال، ليس كما يظن بعض الناس: (شاوروهن وخالفوهن)، وبعضهم –للأسف- يضعه حديثا. وليس كذلك، فقد شاور النبي صلى الله عليه وسلم زوجته أم سلمة رضي الله عنها، والقرآن يقول: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة:233].
 
فالقرآن يذكر المرأة في سائر القصص، بما يدل على مكانتها، وعلى احترامها، واحترام إنسانيتها وشخصيتها، ليس كما هو سائد في مفهوم كثير من الناس، أن المرأة مخلوق دوني، وأنها مخلوق لخدمة الرجل، ويقول أحدهم: المرأة كالنعل، ألبسها وقت ما أشاء، وأخلعها وقت ما أشاء، وليس في القرآن شيء من هذا.
 
بل إن المرأة في القرآن مثل الرجل، كما قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]. وانظر إلى قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}: أي أن الرجل من المرأة، والمرأة من الرجل، فهي تكمله، وهو يكملها، لا يستغني عنها، ولا تستغني عنه، وهذه هي المرأة في نظر القرآن. حتى أن الله قال بعدها: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} أي من الجنسين، { وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا..} من الجنسين، يعني أن المرأة قد تقاتل، وقد تهاجر، وقد تُقتل..
 
ولذلك كان أول شهيد في الإسلام امرأة وليس رجلا، هي سميَّة أم عمار، زوجة ياسر رضي الله عنهم أجمعين.
كما كان أول صوت ارتفع بتأييد النبي صلى الله عليه وسلم، كان صوت امرأة وليس صوت رجل، هو صوت خديجة رضي الله عنها.
 
المرأة في قصة عيسى عليه السلام:
للمرأة في قصة عيسى عليه السلام دور رئيسي، بل لم يستنكف القرآن أن ينسب عيسى عليه السلام إلى أمِّه (عيسى بن مريم).
 ونجد أن القرآن، ذكر لنا قصة مريم وأمها؛ جدة عيسى عليه السلام، في سورة (آل عمران)، وعمران هو أبو مريم، ومع أن السورة سمِّيت باسم هذه الأسرة (أسرة عمران) لم يذكر الله شيئا عن عمران، وإنما ذكر لنا عن زوجته، فهي سورة آل عمران، وكل الذي ذُكر امرأة عمران: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)}.
 
ونجد في هذه القصة أيضا، قوله تعالى: { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)} يدخل زكريا على مريم، ويكلمها وتكلمه، وهو زوج خالتها، مع أن زوج الخال ليس مَحْرمًا، ما دام لا يوجد ريبة، يدخل عليها ويكلمها، ويطمئنُّ على حالها، ما دامت الفتنة مأمونة، سواء بوجود أحد من النساء معه، أو في وجود رجال آخرين، وهذا ما قرره القرآن.

المرأة شقيقة الرجل:
المرأة –أيها الإخوة- إنسان مخلوق مكرم، مثل الرجل، وهي شريك الرجل، كما جاء في الحديث: "إنما النساء شقائق الرجال". المرأة شقيقة الرجل، مكلَّفة مثله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124]. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]. {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40].
 
المرأة في قصة موسى عليه السلام:
وفي سورة القصص التي استمعنا إلى جزء منها اليوم، نجد أن المرأة في قصة موسى عليه السلام، لها دور من أول يوم، من أول ميلاده -عليه السلام- نجد دور المرأة (الأم) في حياة موسى فاعلا.
نحن لا نعرف شيئاً عن والد موسى، هل قرأتم شيئاً في القرآن عن والد موسى؟! لم يُذكر لنا القرآن شيئاً عنه، وإنما ذكر لنا عن أمِّ موسى، والتي تمثل دور المرأة الأول في قصة موسى عليه السلام، فقال تبارك وتعالى:
 
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)}.
وحين ترى المعاناة التي حدثت مع ميلاد موسى، نعرف أن الأنبياء لم يكونوا من ذلك النوع، الذي يُولد وفي فمه ملعقةٌ من ذهب، هم يُقاسون الحياة من أول يوم، فهذا يوسف عليه السلام كم لاقى من معاناة من صغره.. وموسى عليه السلام من أول ما وُلد، يُرمى في اليمّ.
 
حينما يُوحى إلى أم، إذا خفت على ابنك ارميه في البحر، هل تفعل؟! لكنها أم موسى، المؤمنة التي لم تُكذب وحيَ ربِّها، فألقته في اليمّ، كما أمرها الله. فوصل إلى بيت فرعون، فلما رأته امرأة فرعون، تعلقت به، يقول الله تبارك وتعالى:
 
{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)}.
 
 إذا أراد الله أمراً هيّأ أسبابه: 
وهذا دور أيضا من أدوار المرأة في قصة موسى عليه السلام، وهو دور ليس سهلا، فحينما يريد الله أن يهيِّئ أمرا، هيَّأ له الأسباب، وأزال من طريقه الصعاب، فحين أراد الله أن ينجي بني إسرائيل مما هم فيه من الذل والهوان، وأن ينتقم من فرعون وعلوه على الناس، وطغيانه في الأرض وفساده فيها، كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)}
 
فقال الله {نريد} ومتى أراد الله، لا بد أن يُنفذ وعده، بوسائل قد نعلم شيئا منها، ولا نعلم الكثير منها، فلما أراد الله ذلك، جعل تربية الرجل الذي سيزول ملك فرعون على يديه، في حجر فرعون، وفي قصر فرعون، وتحت سمعه وبصره. انظروا إلى سخرية الأقدار.
 
فرعون الذي حين عرف أن هناك فتى من بني إسرائيل سيزول ملكه على يديه، أخذ يذبح أطفال بني إسرائيل، فتجد الشخص الذي عليه العين، ينجو، بل ويتربى عند فرعون نفسه أيضا.
 
دور امرأة فرعون:
أراد فرعون أن يقتل هذا الطفل، حينما جاءه، فهيَّأ الله له امرأة يتعلق قلبها به، فتدفع عنه القتل، وقالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)}. وكان هذا دور امرأة فرعون.
 
دور أخت موسى:
 ثم يقول الله:{ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)}
وجدنا في قصة موسى عليه السلام، دور أم موسى، ودور امرأة فرعون، ووجدنا كذلك دور أخت موسى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} تتبَّعي أثَرَه. {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)} قالت لهم: أعرف امرأة تُرضعه، وهي أمينة عليه. {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}.
فانظر دور المرأة في قصة موسى عليه السلام، أم موسى، وأخت موسى، وامرأة فرعون.
 
خروج موسى من مصر :
وتجد بعد ذلك حين خرج موسى من مصر خائفا يترقب، بعد أن حدثت حادثة القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، وما كان يريد أن يقتله، فهو قتل خطأ، ولكن موسى اعتبر هذا من عمل الشيطان، وأنه تسرَّع:{قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} ، ومع هذا يقول سيدنا موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } من المغفرة على هذا الذنب. {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)} لن أكون عوناً أبداً للمجرمين، ولا سوطاً للظالمين، هذا عهد عاهد الله عليه.
 
ورود مدين وسقي موسى للمرأتين:
 يقول الله تبارك وتعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)}
خرج موسى عليه السلام إلى مدين، وهنا نجد دورًا آخر للمرأة في حياة موسى عليه السلام، فحينما ذهب إلى ماء مدين الذي يتزاحم الناس عليه، {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ}، تدفعان بغَنَمهما بعيدًا عن مزاحمة الرجال. سألهما موسى - بشهامته الفطرية، مع أنه رجل غريب- فقال لهما: {مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)}.
 
عمل المرأة:
عرفتاه أنهما مضطرتان للعمل؛ لأن الأسرة محتاجة للعمل، ولا يوجد رجل في الأسرة، كما أن الأب شيخ كبير. فماذا تفعلان إذًا؟
 
فالمرأة تعمل، عند الحاجة، إذا كانت محتاجة إلى العمل، أو كانت أسرتها محتاجة إلى العمل، أو كان مجتمعها بحاجة إلى العمل، كأن تعمل مدرسة للبنات، طبيبة للنساء، أو ممرضة للنساء، أو بائعة الأغراض النسائية للنساء، فالمجتمع بحاجة إلى المرأة في مثل هذا. ولذلك {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)}.
 
العلاقة بين الرجل والمرأة:
{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}
وانظروا إلى القرآن، وهو يُصوِّر هذه العلاقة بين الرجل والمرأة، علاقة فطريَّة طبيعية، كلم موسى البنتين، وردوا عليه، ثم ذهبتا لتحكيا لأبيهما عن ذلك، فأمر إحداهما أن تذهب لتأتي به، ولم يقل: لا تذهبي بمفردك، فذهبت بأدبها وحيائها، وكلمته بكل قوة وحياء أيضا، فلم يدعها حياؤها لأن تخضع القول، وإنما قالت له بكل قوة وشجاعة: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}.

ليس الشيخ الكبير في "مدين" شعيبا:
{فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)}.
بعض العلماء والمفسرين يقولون: إن هذا الشيخ الكبير هو سيدنا شعيب عليه السلام، والحقيقة أنه لا يوجد دليل على أنه شعيب عليه السلام؛ لأن شعيبا -حسب رواية القرآن للقصص- كان قبل موسى، فشعيب كان قريبا من لوط عليهما السلام، ولذلك قال شعيب لقومه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}[هود:89].
فكان موسى بعد شعيب، ثم إن كان هو النبي شعيب عليه السلام، فما الداعي لأن يُجهِّله القرآن؟! ثم إنه ليس من المعقول -إن كان هو النبي شعيب– أن يكون في أواخر عمره، وقد ظهر دينه، وانتشر المؤمنون حوله، أن يُترك بناته يعانين المشاقّ، دون أن يساعدهم أحد.
 
وقد يكون اسم الشخص شعيبا، لأن الناس تسمِّي بأسماء أنبيائها، وعظمائها في الغالب، فقد يكون اسمه شعيبا، لكن ليس هو النبي المرسل إلى مدين.
 
المهم: طمأن الشيخ الكبير موسى عليه السلام، وقال له: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)}، جئت في مأمن من فرعون وقومه.
 
أساس الاختيار للأعمال: القوة والأمانة :
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)}
انظر كيف حكى القرآن عن هذه المرأة، كلمة من كلمات الحكمة، التي وضعت أساس اختيار الرجال للأعمال، كيف نختار الرجال للأعمال الكبيرة، نختارهم على أساسين: (القوة والأمانة) القوة: القدرة على العمل، إن يكون كفؤا للعمل، على علم به وبجوانبه. والأمانة: أن يؤدي حق الله فيه، ويخشى الله في عمله. فهو يجمع بين الجانب الفني، والجانب الأخلاقي والديني. لابد من الأمرين معا، فلا تعطي العمل لسارق، وإن كان سيد الخبراء في تخصُّصه، كما يقولون في المثل: (حاميها حراميها). وكذلك لا تعطي العمل لرجل طيب، ولكنه مُغفَّل، فيخرب الدنيا.
 
ولذلك كان السلف يشكون إلى الله، من ضعف الأمين، وخيانة القوي. فكان من دعاء سيدنا عمر: اللهم أشكو إليك عجز الثقة، وجَلَد الفاجر. وقالوا: قلَّما يجتمع في الناس: القوة والأمانة.
 
من حِكَم النساء السائرة:
فالمرأة قد تقول كلمات تصبح مثلا في التاريخ، مثل ما قالت ملكة سبأ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}[النمل:34]. ومثل ما قالت امرأة العزيز: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}[يوسف:53]. هذه كلها كلمات قالها بعض النساء، فالمرأة يمكن أن تكون حكيمة، وتصدر منها كلمات يسجلها التاريخ بحروف من نور، ويتعامل الناس على أساسها ما شاء الله من الأزمنة والقرون.
 
 فهذه المرأة التي معنا في قصة موسى عليه السلام، قالت كلمات تعد حِكمًا، صارت مثلا، قالت: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)}.
وكانت النتيجة أن ارتبط موسى عليه السلام، بهذا الشيخ الكبير، وتزوج إحدى ابنتيه، ولعلها –غالبا- هي صاحبة هذه الكلمات. وعاد بها إلى مصر بعد أن قضى الأجل الذي اتفق عليه مع والد زوجته، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا...}
 
المقصود أيها الإخوة: أننا يجب أن نتعلم من قرآننا، كيف نُعامل النساء، كيف نُعامل المرأة، فكثير من الرجال يحتقرون المرأة، ولا يرون أن لها مكانة في دنيا الناس، أو في حياة الناس، وهذا ليس من القرآن في شيء، المرأة شقيقة الرجل، مكلفة كالرجل، بعضكم من بعض، هي من الرجل، والرجل منها، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71]، فعلى الجنسين أن يعملا معا، لإرضاء الله تبارك وتعالى، ولخدمة هذا الدين، ونصرة هذا الدين، حتى يحققوا الأهداف معا، جنبا إلى جنب.
 
أسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعلنا في هذا الشهر الكريم من عتقائه من النار، ومن المقبولين، وصل اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرًا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين