الخيارات الصعبة أمام المقاومة الفلسطينية

ابتداءً علينا أن ندرك أن الواجب الآن، هو توظيف الأحداث بما يخدم الأمة، وليس بما يخدم أعداءها، وأن الوقت هو وقت دعمٍ ومناصرة، واصطفافٍ إلى جانب من يحمل راية الحق بصدقٍ، وهم المجاهدون على الثغور، بعيداً عن المواقف السياسية والإعلامية، لحركة "حماس"، والتي كانت محلَّ انتقاد عند شريحة كبيرة من المسلمين، ومن أحرار العالم على حدٍّ سواء. وليس الوقت وقت تنظيرٍ باردٍ أجوف، وتثبيط وإحباط مثيرين للجدل!.

موقف النصرة هذا، يستدعيه التوجيه القرآني بوضوح: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72]،

المقاومة الفلسطينية تلتزم بمنظومة قيم ومجموعة مبادئ، وضعتها أمام واقع مرير يستدعي منها موقفاً حياله، وكثير من الناس لا يعلمون حيثياته وآثاره ومآلاته، ومن أهمها المخاطر التي أحاطت في السنوات الأخيرة بالمسجد الأقصى، من حفريات تؤول إلى هدمه، ومقدمات بناء الهيكل المزعوم مكانه، يتزامن ذلك مع مرحلة تطهير كاملة للضفة والقطاع من الفلسطنيين، وفق صفقة القرن، التي تمَّ التخطيط لها بخبث ودهاء، و"نتنياهو" اليميني المتطرف، قد حمل معه منذ وقتٍ قريبٍ، إلى أروقة الأمم المتحدة، خارطة تظهر بسط الكيان الصهيوني على كامل الدرَّة المغتصبة. ومن هنا فرضت عملية طوفان الأقصى نفسها، والفلسطنيون في جميع الأحوال يدفعون فاتورة دمٍ، ومن ثوابتهم الحفاظ على الأرض، كونها أرض وقف إسلامي، لا يمكن التفريط بها، مهما كان الثمن باهظاً.

حتى اللحظة الموقف المصري، لا غبار عليه، وتمَّ بناء الجدران الإسمنتية في معبر "رفح"، منعاً من خروج المصريين منه، وصمود أهل "غزَّة"، هو ما نراهن عليه الآن، مع الإشارة إلى أن التهجير القسري، مخالف للقانون الدولي، الذي لا يعبأ به الكيان الغاصب، والممرات الآمنة التي يتحدث عنها الأميركيون خدعة كبيرة، لأن الفلسطنيين يدركون تماماً، أنهم إذا خرجوا من قطاع "غزَّة"، فلن يعودوا ثانية. وكثير من الصيحات تتعالى الآن على مستوى الشعوب والكتَّاب والأكاديميين، في المجتعات الغربية، تندِّد بالتهجير القسري، مما أضعف موقف الكيان الصهيوني. كما نراهن على انتفاضة أهل "الضفَّة"، ومن هم داخل "الخطِّ الأخضر"، من فلسطيني 1948، وليعلم الجميع أن التاريخ الآن، يكتَب من جديد.

ومما يتعين علينا معرفته، التأكيد على أن العملية، قد فرضت معادلة جديدة، بعد أن أصاب نظريتي الردع الصهيوني، والأمن الداخلي للكيان، تصدُّع كبير، خاصَّة بعد اختراق السياج العازل، الذي يتكون من أبراج وأعمدة من الفولاذ، وأسلاك شائكة مزودة بمستشعرات ذكية إلكترونية ومكهربة، وكذا اختراق المنظومات الإلكترونية واتصالات جيش العدو ووحداته الأمنية والاستخباراتية. وبعد النجاح بالسيطرة الكاملة على "فرقة غزَّة"، وهي مجموعة من الألوية العسكرية، وعلى "معبر كرم أبو سالم"، وغرف عمليات وحدات الاستخبارات، الشاباك، متعددة الجنسيات، والإدارة المحلية. بالإضافة إلى إيقاع القتل والأسر لعدد كبير من الضباط والجنود الصهاينة.

يؤول هذا التصدُّع إلى هجرةٍ عكسيةٍ لآحاد الصهاينة، وعلى وجه الخصوص ممن يقيم في المستوطنات المستهدفة، في الوقت الراهن. ورئيس أركان الحرب الصهيوني، يقترب الآن من إعلان فقدان الكفاءة القتاية، بعد استنكاف ضباط كبار، منهم أربعة جنرالات من سلاح الجو، عن خوض معركة فاصلة، مع المقاومة التي تمتلك عقيدة قتالية، لا تتوفر عند خصومهم من شذَّاذ الآفاق.

كما تمَّ إعادة توجيه بوصلة الأمة، إلى وضعها السابق، حيال قضيتها المركزية التي ضعفت العناية بها في العقود الأخيرة، وربط "غزَّة" بـ"القدس"، قد أخذ مكانه الطبيعي بعد انفصام طال أمده! والأمل معقود، أن تساهم العملية في إفشال مشروع التطبيع، وكذا مشروع صفقة القرن، وإفشال الحرب الإعلامية المشبوهة، التي تهدف إلى شيطنة الشعب الفلسطينيِّ الأبيِّ الصابر المحتسب!.

وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام

الحرب اليوم حرب إبادة شاملة، وبتشجيع من ثلاث دول أعضاء دائمين في مجلس الأمن، المنوط بها في الأصل، العمل على حفظ السلم والأمن الدوليين، ويؤيدها آخرون من أعضاء حلف الناتو! وهؤلاء جميعاً شركاء في قتل المدنيين والأطفال. وقد يكون موقف الشعوب مختلفاً، حتى الشارع الأميركي غاضب من تأييد "بايدن"، ويرى بأن على إسرائيل أن تنتزع شوكها بيدها، وأميركا لديها أولويات لشعبها. لكن صوت هذه الشعوب يضيع في وسطٍ من الزحام! ونشهد مع هذا الاصطفاف المخجل من دول تنسب نفسها للديمقراطية، سقوطاً أخلاقياً مريعاً، من منظمة الأمم المتحدة الصامتة، عن جرائم حرب تمارَس ضدَّ الانسانية!.

هذا وإن أحرار العالم يناشدون "كتائب القسَّام"، أن يتحفظوا على قبول الغرباء بينهم، ممن لهم أجندة مشبوهة من دوائر استخبارتية إقليمية، ويراهنون على رفضها أي هدنة أو تنازل، يضعف موقفها أمام خصمها التاريخي المتغطرس.

وبعد يومين من طلب قوات الاحتلال من أهل "غزَّة" مغادرتها، وبناء على طلب أهلها، يجلي العدو قبل زمن يسير، سكان مستوطنة "سديروت" بالكامل! وهذه أول مرة تُخلى فيه بلدة صهيونية من أهلها بالكامل، منذ قيام المحتل الغاصب!.

ثم إني أحسب أن "كتائب القسَّام"، التي امتلكت زمام المبادرة في السابع من الشهر الجاري، هي قادرة على خوض المعركة بمشيئة الله، بين يدي اجتياحٍ بريٍّ محتمل. خاصَّة أن كتائب القسَّام قد استطاعت الوصول إلى أسرار عسكرية بالغة الأهمية، تخصُّ المنظومات العسكرية والأمنية الصهيونية، من بينها عدد القطع العسكرية، وجدول الخدمة وتبديل الورديات، وعدد الجنود في كل موقع، والمسافة الزمنية لحركة المنظومات الدفاعية وغيرها، من معلومات تفصيلية ومهمة للغاية، وذلك وفق بعض التسريبات الإعلامية.

ولتعلم المقاومة النظيفة، التي داست بنعالها على وجوه نخبة العدو في ثكناته، أن خصمها يحسب ألف حساب، مما سينزل بها في فخاخ المقاومة وخططها، التي باتت تحيط بالكيان الصهيوني من كل جانب،  فلتستثمر هذا الواقع بكثيرٍ من الروية والتوكل على القوة العليا التي لا تغلَب.

أسأل الله أن تكون هذه العملية بداية تحرير، وباكورة تمهيد لزوال "إسرائيل"، وإرهاصة تغيير لقواعد اللعبة في المنطقة.  {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }.

السادس عشر من

 اكتوبر تشرين الأول 2023م

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين