الخطيئة في حياة البشر

 

هذا المعنى يحتاج إلى إيضاح يَنفي التناقض بين منطق الخضوع الواجب لله تعالى، وما تنزلق إليه طباع الأناسي من أخطاء وخطايا. هناك أغلاط تقع دون أن تتجه إليها الإرادة اتجاهاً بَيِّناً، بل تكاد تقع دون إرادة.

خذ مثلاً عمل الطبَّاع في جمع الحروف والكلمات، إنَّ الكتاب لا يتم طبعه إلا بعد أن تمرَّ كل صفحة بعدَّة تجارب، ترى الأخطاء في التجربة الأولى كثيرة، ثم تقلُّ أو تنعدم فيما بعدها من تجارب. إنَّ العامل يودُّ من أول مرَّة أن يكون جهده سليماً من كل عيب، وهو بإرادته وبصره وأصابعه يجمع الحروف والكلمات على أساس تحرِّي الصواب، ومع ذلك يقع في الخطأ برغمه؛ لأنَّ قُصور قُواه يَغلبه.

 خذ مثلاً عمل الخياط: إنَّك تذهب إليه بالقماش ليصنع لك بدلةً مُلائمة، وهو يجتهد أن يفصِّل أجزاء الثوب على بدنك بحيث يصنع منه حُلَّة وسيمة، ومع ذلك فقد يقع من الطول والقصر والسعة والضيق ما يجعله يُعيد التجربة على بدنك مرةً حتى يصل إلى ما يَبغي.

إنَّ هذه الأخطاء أثر العجز البشرى في بلوغ الكمال من أول سَعي والخطأ هنا يتولَّد من تلقاء نفسه تقريباً، لا أثرَ فيه لرغبة أو تَعمُّد.

والواقع أنَّ المسلم لا يُطيق عصيان الله، ولا يرضى به، ولا يبقى عليه إن وقع فيه. بل إنَّ ما يعقب المعصية في نفسه من غضاضة وندامة يجعل عروضها له شبه مُصيبة، فهي تجيء غالباً، غفلة عقل، أو كلال عزمٍ أو مُباغتة شهوة وهو في توقيره لله، وحرصه على طاعته يرى ما حَدث منه مُنكراً يجب استئصاله، إنَّه كالفلاح الذي يَزرع الأرض فيرى (الدنيبة) ظهرت فيه، فهو يجتهد في تنقية حقله قدر الاستطاعة من هذا الدخل الكريه.

 ولو بقي المسلم طول حياته يُنقي عمله من هذه الأخطاء التي تهاجمه، أو من هذه الخطايا الذي يقع فيها، ما خلعه ذلك من ربقة الإسلام، ولا حَرَمه من غفران الله تعالى، ولعل ذلك هو المقصود من الحديث القدسي: (يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً) [أخرجه الترمذي]، وبعضُ السفهاء يأتي لهذا الحديث وأشباهه فيظنه إذناً عاماً بالعصيان، وهذا الظن من انطماس البصائر والعياذ بالله.

إنَّ المعصيةَ شيءٌ خَطير، واتجاه الإرادة إليها زلزال يُصيب الإيمان، أو ضبابٌ يُغطي معرفة المسلم لربه، يصحب هذا العَمَى انفلاتٌ من قيد الخضوع ومن مبدأ السمع والطاعة، من أجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ» [أخرجه البخاري ومسلم] .

وهذا الانتفاء المؤقَّت للإيمان، أو لأثره - وهو طاعة الله وتقواه - له عواقبه المخوفة، ترى أيعود كاملاً أو يعود مَثْلوماً؟، فإذا استمرأَ العاصي المرعى فهل لهذا الإيمان المنفي من عودة؟ مع أنه مُطارد باستدامة العصيان!.

 ونحن - بطول التأمل واستقراء التجارب - لا نستطيعُ فكَّ المعصية عن الحالات النفسيَّة المصاحبة لها، وعن الظروف الخارجيَّة الواقعة فيها.

فهذه الأحوال والظروف فيصل التفرقة بين ألوان الخروج على الدين، فهناك اللَّمَمَ المرتجى له العفو، وهناك الإهمال الذي يَستحقُّ اللوم، وهناك التفريط أو الانحلال اللذان يَستوجبان العقوبة، وهناك أخيراً المروق الذي يحكم على صاحبه بالارتداد، والتفصِّي عن ربقة الإسلام.

فشرب الخمر مثلاً جريمة، ولها حدٌّ تواضعَ المسلمون على إقامته، وربما رأيت بعض واهني العزيمة من المدمنين الذين ألفوا الخمر في جاهليتهم لا يُحسنون اجتنابها فيقعون فيها على خزي! وكان الحدُّ قديماً يُقام على أحدهم فيتحمله راضياً! مثل هذا المجرم لا نستطيع عَدَّه مُرتداً عن الإسلام إنَّه مسلم مخطئ وحسب!.

 ولكن هناك من يَفتتح مَعْصرة لتقطير الخمور، أو حانة لبيعها، وهو يعلن عن بضائعه؟ ويغري بتناولها؟ ويجتهد في ترويجها هنا وهناك؟ ويُقيم حياته على مَكاسبه من هذا الاتجار الخبيث، هذا الصنف لا يمكننا بأية حال من عده مسلماً؟ لقد كفر بلا ريب؟ وانبتَّ رباطه بالإسلام!. لماذا؟ لأنَّ السكِّير الأول رجل وهتْ إرادته في الخير؟ أما السكير الثاني فهو رجل قَويت إرادته في الشر، فالبون بينهما بعيد؛ بُعْدَ الخضوع المضطرب عن التمرُّد العاتي.

ونيَّة الخضوع لا تخرج صاحبها عن معنى الإسلام، أما نيَّة التمرد؟ والإصرار على رفض الطاعة فلا يمكن بتَّة أن تُسمَّى إسلاماً، بل إنَّ ذلك عادةً يصحبه استباحة الحرام وجحد الواجب، وهما كفر باتفاق المسلمين.

وفى أمثال هؤلاء المصِرِّين المتمردين تُساق آيات التخليد في العذاب التي تهدَّدت بعض العصاة: [وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا] {الجنّ:23}.

وهاك مثلاً آخر: 

إنَّ القاضي قد يَميل عن الحق لشفاعة بعض ذوي الجاه وقد يميل عن الحق لهوى غلب عليه وجعله يحابي أحد الخصوم. هذه معصية بلا ريب تستحق الويل والثبور؟ وهي حكم بغير ما أنزل الله يُعَرِّض صاحبه لأشد العذاب؟ ولكن هل ذلك كفر بالله وارتداد عن الملَّة؟ أو بتعبير آخر هل يسوى هذا الآثم بصنف آخر من الناس يرى الحكم بما أنزل الله بقيَّة من مخلَّفَات الماضي التي لا تستحقُّ البقاء، ويستبدل بها قانوناً آخر يُبيح ما حَرَّم الله ويقترح عقوبات أفضل في نظره مما شرَّعت السماء من حدود وقصاص؟! ويُدَرِّس ذلك ويدعو إليه، ويُوسِّع دائرته جهد الطاقة!.

 

إنَّ العاصي الأول شخص طاش به نفع عَاجل، أو غَلبته شهوة جَارفة فحادت به عن طريق الواجب الذي يَعرفه ويعترف به، أما الآخر فهو يَدَعُ أمرَ الله رغبةً عنه واتهاماً له، ويرى أن يتقدَّم بين يدي الله ورسوله بأحسن مما أوحى الله تعالى وبَلَّغ الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا إن كان في نفسه إقرار بأنَّ النبوَّة حق؟ وأنَّ الله قائم بين عباده بالقسط.

 

إنَّ الفارق بعيدٌ جداً بين معصية تتمُّ في الظلام؟ ومعصية تقعُ في وضح النهار، بين معصية يكون العقل فيها غَافياً، ومعصيةٍ تتمُّ مع يقظة الفكر وإعمال الرأي، بين مَعصية تمشي في الأرض على استحياء ومَعصية تتبجَّح كأنها فضيلة. 

 

إنَّ عزيمة تتعثَّر في طريق الخير غير عزيمة استحكمت في طريق الشر. ويستحيل أن يُنسب إلى الإسلام فردٌ أو مجتمع من ذلك النوع الفَاجر بعصيانه، السافر باعتداء على حدود الله، واطِّراح فرائضه، واستبقاء محارمه.

 

إنَّ الدين ـ كما أوضحنا ـ إيمان بأنَّ الله حق، وإقرار بأنَّ شرائعه واجبة النفاذ، والسجود لها بالقلب والجوارح.

فمن استعلنَ بمسلك مُضَاد لما أمر الله به ونهي عنه، واجتهد كي يُرسي قواعد الشر مُشاقاً لله ورسوله فهو فاسق كَفُور، ومن البلاهة وصفه بالإيمان: [أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ المَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ] {السجدة:20}.

والضابط الذي يَطَّرد حكمه في كل شيء، والذي لا نقلق في السير معه هو أنه حيث يرى أثر الخضوع لله، والانقياد لأمره فالإسلام موجود، وإلا فلا إسلام. أجل لا إسلام حيث تجحد الفرائض، وتموت الشرائع، ويَسودُ الهوى ويضيع هدى السماء.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

(من كتاب: الجانب العاطفي في الإسلام، للعلامة محمد الغزالي)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين