الخطابة في الأندلس المنذر بن سعيد البلوطي ـ 2 ـ

على أن البلوطي-رحمه الله-كان يتخفف أحيانا من أوزار منصبه،  ويخلع عنه رداء تزمته وتوفره، فيقول أبياتا فيها شي‏ء من القوة والخفة؛ مثل قوله حينما عذله إخوانه لتكنيته لرجل كان قد سبَّه: 

لا تعجبوا من أنني كنيته‏ من بعد ما قد سبنا وهجانا 

فالله قد كني أبا لهب، وما كناه إلا خزية وهوانا!

يشير البلوطي بهذا إلى قول الحق تبارك وتعالى:  [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ] {المسد: 1} .  وهي لفتة بارعة من البلوطي، وحسن تعليل مقبول وجميل،  بل خلوص لطيف من مأزق تعرض له، وكان يعاب به. 

كذلك نري البلوطي الواعظ الزاهد، يبيح لنفسه في ساعات دعابته وفترات‏ مراحه، أن يتحدث عن الجمال، وعن مفاتن النساء، فيذكر قوامهن‏ وأصداغهن، وما اتصل بذلك من حديث الهوى والفتون، جاعلاً ذلك نوعاً من الترفيه اللفظي المقبول، الذي يزين الأسلوب، ولا يخدش الكرامة.  فانظر إليه مثلا إذ يكتب إلى فقيه العربية وقيد أوابدها أبى علي القالي، يستعير منه كتاباً في غريب اللغة، فلا يجد ما يقسم به في مجال الظرف والدعابة إلا الظبي الرقيق صاحب الخد الأسيل، فيقول: 

بحق رئم مهفهف‏ وصدغه المتعطف

‏ابعث إلى بجزء من الغريب المصنف!

فيجاريه أبوعلي في أسلوبه بعض المجاراة، وينقل التعبير من مجال إلى مجال،  فيرسل إليه ما طلب، ويجيبه بقوله:  

وحق در مؤلف‏ بفيك أيَّ تألف

‏ لأبعثن بما قد حوى الغريب المصنف

‏ ولو بعثت بنفسي ‏ إليك ما كنت أسرف!

ونحن حينما نقرأ ما ذكره المؤرخون عن خفة روح البلوطي وصفاء ظلته‏ ولطيف دعابته وبديع مزاحه وهزله، ونذكر بجوار ذلك ما كان له من فصاحة وبلاغة، نرجح أن هذا اللسان المقوال وذلك الطبع الأصيل الفياض لابد من‏ أن يكونا قد أنتجا أشعاراً عاطفية لها جمالها وعذوبتها، وإن كنا لم نقف‏ عليها؛ومن يدري!. . . لعل متشدداً من متزمتي النقلة تعمد أن يحذف‏ هذه الأشعار ظناً منه أن روايتها مما ينال من سمعة البلوطي وجلال مرتبته!. 

وكيف نقول إن أمثال هذه الأبيات المتكلفة هي كل تراث البلوطي بين‏ الشعراء، ونحن نرى من أخباره أنه كان، إلى ما سبق من صفاته الشعرية،  نقادة سريع البديهة يقظا الإحساس، عليماً بأشعار النابغين من المتقدمين، خبيراً بأسرار تلك الأشعار، دقيق التمييز بين الغث والسمين، والطيب والخبيث،  كما ترشد إلى ذلك القصة التالية: 

حضر البلوطي وهو في رحلته بمصر مجلس أبي جعفر النحاس وهو يملي أخبار الشعراء فأملى شعراً لقيس مجنون بني عامر، وهو قوله: 

خليلي!هل بالشام عين حزينة تبكني علي نجد، لعلي أعينها؟

قد أسلمها الباكون، إلا حمامة مطوقة، باتت وبات قرينها

تجاوبها أخري علي خيزرانة يكاد يدنيها من الأرض لينها!

فقال له منذر بن سعيد البلوطي: يا أبا جعفر، ماذا -أعزك الله تعالى- باتا يصنعان؟فقال له النحاس: وكيف تقول أنت يا أندلسي؟فقال: بانت‏ وبان قرينها. فسكت أبو جعفر ولم يحر جوابا. قال منذر: وما زال -يعني‏ جعفراً- يستثقلني بعد ذلك حتى منعني كتاب (العين) وكنت ذهبت‏ للاستنساخ من نسخته؛ فلما يئست منه قيل لي: أين أنت من أبي العباس‏ أين ولادّ؟ فقصدته فلقيت رجلاً كامل العلم حسن المروءة، فسألته الكتاب فأخرجه إلي؛ ثم ندم أبو جعفر حين بلغه إباحة أبي العباس الكتاب لي. وعاد إلى ما كنت أعرفه منه!

فهذه القصة وأشباهها في حياة البلوطي تدلنا على أنه كان ينطوي فوق ملكته‏ الوعظية على فيض من معين الشعر!. 

ومع أن البلوطي كان قاضي القضاة بقرطبة، والإمام الخطيب بالمسجد الجامع، فقد كان كثير الدعابة طويل المزاح. يقول عنه الفتح بن خاقان:  «وإذا هزل نزل». ويقول ياقوت: «وكان منذر على متانته وصلابته‏ حسن الخلق كثير الدعابة، فربما ساء ظن من لا يعرفه به لدعابته، فإذا رىي‏ ما يخل بالدين قيد شعرة ثار ثورة الأسد الضاري، وتبدلت بشاشته عبوساً).  وقد ذكر له صاحب كتاب (مطمح الأنفس) طائفة من دعاباته الصريحة المكشوفة التي يذكر فيها أسماء العورات والحرمات‏فلنكتف بإيراد طرفة من طرفه الرزينة: 

جلس منذر في ليلة من ليالي شهر رمضان للإفطار مع أولاده، فإذا بسائل يسأل فيقول: يأهل هذه الدار الصالحين، أطعمونا من عشائكم أطعمكم‏ الله من ثمار الجنة هذه الليلة!. فقال البلوطي وهو يضحك: إن استجيب‏ لهذا السائل فيكم، فليس يصبح منا واحد. . . !

أفيكون معنى هذا أننا سنتغنى بإبداع البلوطي ولا نقف منه موقف‏ الناقد؟ كلا فإن الإنصاف يقتضينا أن تقول ماله وما عليه. ولعل الموقف‏ المشين الذي رأيته للبلوطي، هو فخره ومباهاته بموقفه بين يدي الناصر يوم‏ زاره رسول قسطنطين، وتعريضه بأبي علي القالي وهو ضيف الخليفة ونزيل‏ الأندلس، وبحر اللغة، وراوية الآداب. . . انظر إلى البلوطي إذ يفتخر بذلك الموقف، ويعرض بالإمام القالي فيقول: 

مقالي كحد السيف وسط المحافل ‏ فرقت به ما بين حق وباطل

‏ بقلب ذكي، ترتمي جمراته ‏ كبارق رعد عند رعش الأنامل

‏ فما دحضت رجلي، ولا زال مقولي ‏ ولا طاش عقلي يوم تلك الزلازل‏ 

وقد حدقت حولي عيون إخالها كمثل سهام أثبتت في المقاتل

‏ لخير إمام كان، أوهوكائن ‏ لمقتبل، أو في العصور الأوائل

‏ وفود ملوك الروم وسط فنائه ‏ مخافة بأس، أورجاء لنائل. . 

وينال من مكانة أبي علي القالي، ويعرض بتقديمهم إياه عليه في الخطابة فيقول: 

هذا المقام الذي ما عابه فند لكن قائله أزري به البلد 

لو كنت فيهم غريباً كنت مطرفاً لكنني منهم، فاغتالني النكد

الحق أنه ليس من شيعة الكريم القوي أن يهزأ بالضعيف أو بمن خانه‏ الحظ، ولا أن يفخر هذا الفخر الزائد حينما يمنحه الله توفيقا لا يمنحه لسواه.  زد على ذلك أن أبا علي القالي لم يرتكب جرما، ولم يظهر ضعفا يستوجب تحقيره‏ والتعريض به، فما هو إلا رجل خانه التوفيق وعانده الحظ وأرهبه الموقف،  فلم يستطع أن يقول ما يجب عليه، ولم يرض أن ينزل إلى كلام من هو دونه‏ فأرتج عليه. ومن قبل القالي أرتج على كثير من الرجال والأبطال‏ الذين لهم أقدار معروفة في بلاغة القول وحسن الأدب؛ منهم: عثمان بن عفان رضي الله عنه،  ويزيد بن أبي سفيان ، ويزيد بن المهلب، وعبد الله بن عامر، وخالد بن‏ عبد الله القسري، وزفر بن الحارث، ومعن بن زائدة، وعدي بن أرطاة،  وروح بن حاتم، وغيرهم. . . 

ولقد كان عبد ربه اليشكري عاملا لعيسي بن موسي علي(المدائن)،  فصعد المنبر يوم الجمعة ليخطب القوم، فحمد الله وأثني عليه، ثم أرتج عليه‏ فسكت ثم قال: «والله إني لأكون في بيت فتجي‏ء على لساني ألف كلمة، فإذا قمت على أعوادكم هذه جاء الشيطان فمحاها من صدري! ولقد كنت وما في الأيام يوم أحب إليَّ من يوم الجمعة، فصرت وما في الأيام يوم أبغض‏ إليَّ من يوم الجمعة، وما ذلك إلا لخطبتكم هذه! »

وصعد خالد بن عبد الله القسري المنبر فأرتج عليه، فمكث ملياً لا يتكلم،  ثم تهيأ له الكلام، فقال: (أما بعد، فان هذا الكلام يجي‏ء أحيانا ويعزب‏ أحيانا، فيسيح عند مجيئه سيبه، ويعز عند عزوبه طلبه، ولربما كوبر فأبى،  وعولج فنأي، فتأني لمجيئه خير من التعاطي لأبيه، وتركه عند تنكره أفضل‏ من طلبه عند تعذره، وقد يرتج على البليغ لسانه، ويختلج من الجري‏ء جنانه،  وسأعود فأقول، إن شاء الله‏). 

فلم يكن مقبولا إذن من البلوطي أن يهتك حرمة ذلك العالم الكبير،  خصوصاً وأنه ضيف، وله من الأيادي السابقات، والكلمات النابغات،  ما يغفر له مثل هذا الحصر!. 

ولعله يكون من المناسب هنا أن نذكر البلوطي -رحمه الله- بفصل له‏ من خطبة ذكر فيها نفسه بواجبها نحو إصلاح ذاتها وتقويم معوجها، وهو الذي طالما وعظ وخطب، ونهى وأمر، فقال: «حتى متى، وإلى متى أعظ ولا أتعظ، وأزجر ولا أنزجر! أدل الطريق إلى المستدلين، وأبقى مقيما مع الحائرين!كلا، إن هذا لهو البلاء المبين، إن هي إلا فتنتك تضل‏ بها من تشاء، وتهدي من تشاء؛ أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين. اللهم فرغني لما خلقتني له، ولا تشغلني بما تكفلت لي به، ولا تحرمني وأنا أسألك، ولا تعذبني وأنا أستغفرك، يا أرحم الراحمين»!. 

اللهم آمين، لنا وله وللناس أجمعين!. . . 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر : مجلة الأزهر المجلد 19 محرم 1367هـ عدد 1.

(1)جمهرة خطب العرب جـ 3 ص 37. 

(2)العقد الفريد جـ 2 ص 269 ط الازهرية

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين