الخطابة في الأندلس المنذر بن سعيد البلوطي ـ 1 ـ

 

 
لفضيلة الشيخ أحمد الشرباصي
 
كان البلوطي ذا صرامةٍ وقوَّة وثباتٍ في الحق، لا يخشى في الله لومة لائم، ويصدع بكلمة الصدق غير جبان ولا عَاجز، ولا مُراقب لأحد من خلق الله مهما عَظُم، وكان من ذوي الصلابة في أحكامه، والمهابة في أقضيته، وقوة القلب‏ في نصرة الحق، وصدق الجهاد في دفع الظلم، لا يهاب في ذلك الأمير الأعظم‏ فمن دونه.
ومن مشهور ما أُثِرَ عنه في هذا المقام أنَّ أمير المؤمنين الخليفة الناصر لدين الله أرادَ شراءَ دارٍ بقرطبة لحظيَّة من نسائه كان يحبها ويدللها، فوقع اختياره على دار لبعض الأيتام، هم أولاد زكريا أخي نجدة، وكانوا في حجر القاضي ورعايته، فأرسل الخليفة إليه من قيمتها بقدر ما طابت‏ به نفسه، وكلف أناساً بمفاوضة وصي الأيتام في بيع الدار، فأجاب ذلك الوصي‏ بأنه لا يمكن بيع الدار إلا بإذن القاضي، فبعث الخليفة إلى البلوطي القاضي‏ يسأله إنفاذ ذلك البيع، فقال البلوطي لرسول الخليفة:البيع على الأيتام‏ لا يصح إلا لوجوه:منها الحاجة، ومنها الوهى الشديد، ومنها الغبطة ( )؛ فأما الحاجة فلا حاجة بهؤلاء الأيتام إلى البيع، وأما الوهى فليس فيها، وأما الغبطة فهذا مكانها، فإن أعطاهم أمير المؤمنين فيها ما تستبين به الغبطة أمرت وصيهم بالبيع، وإلا فلا!.
فنقل الرسول هذا الجواب بنصِّه وفصه‏ إلى الخليفة لم يخرم منه حرفا، فأظهر الخليفة الزهد في شراء الدار طمعاً في أن تهون قيمتها في نظر القاضي فيخف ثمنها؛ وخاف القاضي البلوطي أن تنبعث‏ من الخليفة عزيمة تلحق الأولاد سورتها، فأمر الوصي بنقض الدار وبيع‏ أنقاضها، ففعل وباع الأنقاض بأكثر مما قومت به للسلطان وهي قائمة، فلما علم الخليفة بذلك عزَّ عليه، واتهم الوصي بأنَّه صاحب هذه المكيدة، فقال الوصي: إنَّ القاضي البلوطي هو الذي أمرني بذلك، فبعث الخليفة إلى القاضي يقول له: أنت أمرت بنقض دار أخي نجدة؟. فأجاب القاضي: نعم‏، فقال له الخليفة: وما دعاك إلى ذلك؟. قال البلوطي:أخذت فيها بقول الله‏ تبارك وتعالى: [أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا] {الكهف:79} فمقومك لم يقدرها إلا بكذا، وبذلك تعلق وهمك؛ فقد قبض في أنقاضها أكثر من ذلك، وبقيت الدار والحمام فضلاً، ونظر الله للأيتام!. فصبر الخليفة على ذلك‏ وقال: نحن أول من انقاد إلى الحق، فجزاك الله عنا وعن أمانتك خيراً!.
ولعل البعض حينما يقرأ هذه الحادثة يظن أنَّ الخليفة الناصر قد وجد على قاضيه البلوطي، أو أضمر له السوء، أو تربَّص به الدوائر، كلا! إنَّ الواقع‏ غير ذلك، فقد جلّ البلوطي عند الناصر وعَظُم في نظره، وإن يكن ساءته‏ قسوته فقد أعجبته في الحق صراحته وصرامته، ولعله يمر بك بعد قليل‏ مصداق ما نقول.
ولقد كان الخليفة الناصر كلفاً بالعمارة والزخرفة، شأن الكثير من‏ ملوك الإسلام حينما فتح الله عليهم ما فتح من مَشَارق الأرض ومغاربها، وأعطاهم ما أعطاهم من زينة الدنيا وزخرفها، فبنى «الزهراء»، واستفرغ‏ الوسع والجهد في تنجيدها، وإتقان قصورها، وزخرفة مَصَانعها، حتى شغله‏ ذلك عن حضور صلاة الجمعة بالمسجد الجامع حيناً من الزمان، ثم رجع إلى صلاة الجمعة بعد ذلك، فأراد البلوطي وهو إمام الخليفة وخطيبه أن يعظه‏ موعظة بالغة زاجرة، فبدأ خطبته بقول الحق تبارك وتعالى: [أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ(128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ(129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ(130) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ(131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ(132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ(133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(135) ]. {الشعراء}، ثم وصل ذلك‏ بكلام فصل، ذم به المشيد والاستغراق في زخرفته والسرف في الإنفاق عليه‏ فجرى في ذلك طلقاً، وعلم الخليفة أنه المقصود فبكى وندم؛ واستعاذ بالله‏ من سخطه، ولكنه تأثر من البلوطي، للفظه القاسي الذي قرعه به، فشكا ذلك بعد الصلاة إلى ولده الحكم أمير الدولة وولي العهد فقال:والله‏ لقد تعمَّدني منذر بخطبته، وأسرف في ترويعي! ثم أقسم الناصر وهو في‏ ثورة الغضب وحمى الغيظ ألا يصلي خلفه الجمعة أبدا. فقال له الحكم: وما الذي يمنعك عن عزل منذر بن سعيد والاستبدال به؟ فأفاق الناصر من غفلته، ورجع إلى صوابه، وتذكر ما للبلوطي من حرمة ومكانة، وورع‏ وإخلاص، فزجر ابنه الحكم قائلا: أمثل منذر بن سعيد في فضله وورعه، وعلمه وحلمه؟ لا أمَّ لك! يعزل في إرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد؟! ـ يعني نفسه ـ هذا ما لا يكون، وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه شفيعا في صلاة الجمعة مثل منذر بن سعيد؛ ولكنه وقذ نفسي وكاد يذهبها؛ والله لوددت أن أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي!. بل يصلي بالناس حياته وحياتنا فما أظننا نعتاض منه أبداً!
وهكذا تكون جرأة العلماء في الدعوة إلى الحق، ومجاهدة الباطل، وتكون تقوى الملوك وحسن تصرفهم:
إنَّ الأكابر يحكمون على الورى           ‏ وعلى الأكابر تحكمُ العُلماء!
بل ما أجلَّ الناصر والبلوطي معاً حينما يقفان الموقف التالي:
كان الناصر لدين الله كما سبق مُسرفا في البناء، فجعل أجدَّ قصوره‏ مقرمداً، مصفَّحا بالذهب والفضة، وزخرف السقف بالصفراء الفاقعة والبيضاء الناصعة، وأنفق في ذلك ما لاً جسيما.
فلما تم البناء أقام فيه (حفلة افتتاح) دعا إليها الوزراء والكبراء، وجعل يفتخر بينهم فيقول: هل رأيتم قبلي أو سمعتم من فعل مثل فعلي هذا أو قدر عليه؟! فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين! فأبهجه قولهم وسرَّه، وبينما هم كذلك إذ دخل منذر بن سعيد البلوطي واجماً مُنكِّساً رأسه، فسأله‏ الخليفة مثل ما سأل غيره عن اقتداره وإبداعه، فجرت دموع القاضي‏ البلوطي تتحدَّر بغزارة على لحيته ثم قال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن‏ الشيطان -أخزاه الله- يبلغ بك هذا المبلغ، ولا أن تمكنه من قيادك‏ هذا التمكين، مع ما آتاك الله، وفضَّلك على العالمين، حتى أنزلك منازل‏ الكافرين!.
فاقشعرَّ الناصر من قوله وصرخ به: انظر ما تقول... كيف‏ أنزلني منازلهم! قال البلوطي: نعم، أليس الله تبارك وتعالى يقول: [وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ] {الزُّخرف:34} 
فوجم الخليفة ونكس رأسه، وجرت دموعه على لحيته، خشوعا لله، ثم قال: جزاك الله تعالى يا قاضي خيراً عني وعن المسلمين والدين، وكثَّر في الناس‏ أمثالك، فالذي قلت هو الحق! ثم قام من مجلسه ذلك وهو يستغفر الله تعالى، وأمر بنقض سقف القبة، وأعاد قرمدها ترابا!.
ولم يقتصر البلوطي على الخطابة والقضاء، بل قال الشعر، وقد تقدم قول‏ ياقوت في (معجمه) بأن له أشعاراً مُتفرِّقة مطبوعة.
ويقول صاحب «المطمح» عنه:
«وكان خطيباً بليغاً، وشاعرا محسناً»...وأغلب أشعاره التي قرأتها من باب وظيفته التي كان ينهض بها وهي الخطابة والوعظ، فنراه مثلا يحث على التقوى والزهد في أبيات له فيقول مخاطبا اللاهي المغرور:
كم تصابى، وقد علاك المشيب            ‏ وتعامى عمداً وأنت اللبيب؟
كيف تلهو، وقد أتاك نذير                    أن يوم الحمام منك قريب؟
 يا سفيهاً قد حان منه رحيل                 ‏ بعد ذاك الرحيل يوم عصيب
‏ إنَّ للموت سكرة، فارتقبها                 لا يُداويك-إن أتتك-طبيب!
 بأمور المعاد أنت عَليم             ‏            فاعملن جاهداً لها يا رتيب
‏ وتذكر يوما تحاسب فيه                        ‏ إن من يذكر فسوف ينيب!
ليس من ساعة من الدهر                      إلا للمنايا عليك فيها رقيب
 
والمطالع لهذه الأبيات يرى أنَّها وليدة صناعة وتكلف، وإعمال وإرهاق، ولعلَّ مركز القضاء والإمامة والخطابة والتدريس الذي كان يحتله البلوطي‏ قد ألزمه أن يتحفَّظ في شعره، فلا يقول إلا في أغراض تُناسب وظيفتَه الدينيَّة؛ من وعظٍ وزَجْرٍ عن الموبقات، وتحبيب في الطاعات...
ولنقرأ هذه الأبيات‏ لتتأكَّد عندنا هذه الملاحظة؛ فاستمع إليه حين يقول في الزهد:
ثلاث وستون قد حزتها            فماذا تؤمل، أوتنتظر؟!
وحلَّ عليك نذير المشيب         ‏ فما ترعوي، بل وما تزدجر!
تمر لياليك مَرّاً حثيثاً                   وأنت على ما أرى مُستمر!
 فلو كنت تعقل ما ينقضي         ‏ من العمر ما اعتضت خيراً بِشَرّ
فمالك لا تستعد إذن                  ‏ لدار المقام، ودار المقر؟
أترغب عن مفاجأة المنو           ن، وتعلم أن ليس منها وزر؟
 فإما إلى جنة أزلفت                  ‏ وإما إلى سقر تستعر؟!
 
ليت شعري! أين خفَّة الأندلسيين ورقَّة خيالهم، وجمال نظرتهم‏، وعذوبة أشعارهم، وسلامة ألفاظهم؟أين كل هذا في تلك الأبيات التي تذكر بخشبة المنبر، وتُنسينا مهرجان الشاعر؟!.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين