الخامس من حزيران 1967 حطام الشخصية العربية ...والمشروعات العربية!!

تسعة عشر عاما فقط تفصل العامين 1948 - 1967 عن بعضهما .

بغض النظر عن الذي أحدث جريمة السابعة والستين ، هان أو خان ، ضيّع أو تآمر، تعيش الشخصية العربية منذ ذلك اليوم حالة من التشظي والتعددية النفسية ، والشتات العقلي . وكانت الجريمة أو الهزيمة ، سمها ما شئت ، أشبه بسقوط مهدة ضخمة على لوحة جميلة ففتتها . وكنا نحن جميعا تلك الشظايا ..

والأعجب أن كلا منا فرح بموقعه من الصورة حتى الذي ناله منها موقع ورقة التوت. كان " بنو أنف الناقة " يخجلون من اسمهم ، حتى جاء من غنى لهم :

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ..ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا ؟!

وحتى الذين احتلوا موقع العين الباصرة ، والأذن السميعة من الذين كانوا يملكون مشروعا جميلا منتجا أو مثمرا غفوا إلى جانب حلمهم الجميل. ..مثل أم تتمسك بطفولة طفلها ، فتمنعه أن يكبر ، أو مراهق ينتشي بجمال حلمه فيأبى أن يفيق . وبين واقع السرايا وأحاديث القرايا تضيع أمة ، وينفرط عقد .

جميلة صورة الطفولة ، عذبة براءتها ، ولكن واجب الأم البرة أن تجعل طفلها رجلا ، وأن تتجاوز الضعف إلى القوة ..ولأمر ما ، بل لأمور كثيرة ، عجزت ولم تفعل ..

أكثر من نصف قرن نبدئ ونعيد في الكتابة عن النكسة ..

نردد مع بدوي الجبل :

رمل سيناء قبرنا المحفور ..وعلى القبر منكر ونكير

أو ننعى مع نزار القباني : كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة ..

ننادي مع أخينا محمد الحسناوي على أم كلثوم : سطلينا ..سطلينا .

وتسطلنا فننسطل ..

نحاول أن نستعيد الوعي مع توفيق الحكيم ، فيأبى علينا الوعي أن يعود ..

ونغرق من جديد في الوهم وفي الحلم .

سبعون عاما من عمري مع هذه الأمة، لم أعايش لحظة نجاح ولا أريد أن أقول لحظة نصر ..والحلم أو الأمل يوما بعد يوم يذوي ، حتى العشب في البرية ينمو ، كل الأشجار التي زرعناها على قبور موتانا نمت ، إلا تلك التي زرعناها في قلوبنا ذوت ؛ فهل كنا حالمين ، أو صرنا يائسين ..

كنت أسير في أحد أسواق حلب في ظهيرة اليوم السابع أو الثامن من حزيران 1967 والمذيع يذيع البلاغ " 66 " والرجال الرجال من حولي يبكون .وظلت دموعهم المدرار متفرقة ، ولم تتحول إلى سيل يجرف الظالمين ..

لأول مرة كطالب متخرج من الثانوية ، أسمع بمصطلح " خط الدفاع الثاني " قالوا أنهم انسحبوا إليه ، وبتنا ليلتنا نتساءل : متى يطلع الفجر لنسمع أخبار استئناف الانتصار من جديد ..

كنا في عصر " الترانزيستور " مسكينة تلك الأجهزة ، كم ضربت بها الجدران لأنها لم تأتنا بالأخبار التي نريد . أربعون طائرة صهيونية حسب صوت العرب ، بعد أربعين وأربعين ، وفي راديو دمشق كان الناس أنهوا المهمة وحققوا النصر ، وخرجوا يتفقدون الرعية على حمار ..

سبعة عقود عجاف عشناها بين مرارات الانكسار وسجف دخان ماريجونا انتصارات الزمن الجميل ..

ثم عدنا أتذكر ما قرأت في كتب التاريخ الحديث ،عن الفاشيين ، وكيف كانوا يعاقبون الثوار الليبيين من جنود عمر المختار بإلقائهم من الطائر أحياء . وهكذا كان ارتطامنا بالأرض عنيفا ، وهكذا أصبحنا حطام بشر وما نزال !!!

النكبة كانت زلزالا في مساحة من الأرض محدودة ، والنكسة التي كرست النكبة ، كانت تسونامي النكبة التي طغا خطبها واستمر ..

ثلاثة وخمسون عاما وما زلنا حطام بشر يحلمون ..وما زلنا نحُوْم أو نحوّم في حقول ماريجونا التاريخ المجيد . جميل ومنعش خدر التاريخ . جميلة ومنعشة أحاديث : وكذا كان أبي وجدي ..

هل تريدون أن أحدثكم أكثر كيف انتقل ابن الوليد من العراق إلى الشام على الطريق العبقري ؟! كيف قال ابن عبد العزيز : إن الله بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا ؟! أكتب لكم كتابا آخر جميلا : كيف انتصر جيل صلاح الدين ؟ هل تريدون أحدثكم أكثر عن أبطال الحارات ؟! والزعامات ؟! أو أن أغرق أكثر في الحديث عن خيانة حافظ الأسد !! وحقائق سقوط الجولان ، وضياع سيناء ، وليلة الليالي في مقدمة العدوان ، وكيف تحطمت طائراتنا عند الفجر ، وعن حرب التمرير وعن جريمة التطبيع البدعة والضلالة ، التطبيع مع بائع الجولان ، والتطببيع مع مشتريه . التطبيع مع نتنياهو والتطبيع مع قاسم سليماني ، " حر ، وحرير ، ومعازف " يسمونها بغير اسمائها . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

في ذكرى الخامس من حزيران الثالثة والخمسين ، ذكرى النكسة ، وذكرى الخيانة ، وذكرى التفريط ..إذا لم نستطع بعد نصف قرن أن تنفق على فهم ما كان ..فكيف نتفق على ما يجب أن يكون ..

ومن عجب أن نفكر أن بإمكاننا أن نصنع من الفرد المهشم مجتمعا موحدا ، وأمة متحدة ..

وكان من أخطر ما سمعنا بعد ذلك اليوم من شعارات " غسل آثار العدوان " " وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة " " ونحن ننتظر أوامر القيادة السياسية لنرمي العدو في البحر " وأخطر الأخطر : لا صوت يعلو على صوت المعركة . وما زال صوت عركنا عندهم هو الأعلى ...

ففهمناها سليمان ..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين