الحياة ساحة للعبادة

أطفالنا والعبادة (3)

الحياة ساحة للعبادة

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

إنّ أهمّ ما يترتّبُ على الفهْم الصحيح الشامل للعبادة: أن تكونَ حياة الإنسان في كلّ جانب من جوانبها، وكلّ نشاطٍ أو عمل عبادة، يتقرّبُ بها الإنْسان إلى الله تعالى كما يتقرّب بأداء الصلاة، والزكاةِ والصومِ والحجّ.. وهذا ما بيّنته الآية الكريمة، وجعلته شعاراً للمسلم، يعلنه ويعتزّ به: {قُلْ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي، وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (163)} الأنعام.

 

كما بيّنه هدي النبيّ صلى الله عليه وسلَّم في مناسبات عديدة، منها ما جاء في الحديث الصحيح عن ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم: (أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ) قَالَ أَبُو قِلابَةَ: وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو قِلابَةَ: " وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ، يُعِفُّهُمْ، أَوْ يَنْفَعُهُمُ اللهُ بِهِ، وَيُغْنِيهِمْ " رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم /1660/.

 

ـ وما جاء في الحديث عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم: (دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ) رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم /1661/.

ـ وما جاء في الحديث، عن أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: (إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ) رواه البخاريّ في كتاب الإيمان برقم /53/.

والاحتساب هو طلب الأجر من الله تعالى.

 

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم: (أَرْبَعُونَ خَصْلَةً، أَعْلاهُنَّ مَنِيحَةُ العَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا، رَجَاءَ ثَوَابِهَا، وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلاّ أَدْخَلَهُ اللهُ بِهَا الجَنَّةَ) قَالَ حَسَّانُ: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ العَنْزِ، مِنْ رَدِّ السَّلامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَنَحْوِهِ، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً " رواه البخاريّ في كتاب الهبة برقم /2438/.

 

وإنّي لألمحُ نُكتَة تربويّة في هذا الحديث عميقة، وهي لماذا لم يُعدّد النبيّ صلى الله عليه وسلَّم هذه الخصال الأربعين.؟! ولماذا لم يستطع أحد رواة الحديث أن يعدّد هو ومن معه، خمس عشرة خصلة منها.؟! إنّ السرّ في ذلك ـ والله تعالى أعلم ـ أن يبقى الباب مفتوحاً مع الزمن لما يجدّ في حياة الناس من أعمال خير صغيرة في نظر الناس، ولكنّها في ميزان الله عظيمة، ربّما تكون للعبد سببَ دخول الجنّة، وكيلا يحتقر مسلم شيئاً من أعمال البرّ، وخصال الخير، فهي تجبر كسراً، وتسدّ خللاً، وتسعد أسرة، وتنقذ نفساً..

 

ويبلغ فضلُ العمل الصالح، ولو كان تافهاً في نظر الناس مبلغاً عظيماً عند الله تعالى عندما يكون سبباً لمغفرة الله للعبد ودُخوله الجنّة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ..) رواه البخاريّ في كتاب الأذان برقم /615/.

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْراً، فَنَزَلَ فِيهَا، فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ بِي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ، فَمَلأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ! وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْراً، فَقَالَ: نَعَمْ، فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) رواه البخاريّ في كتاب الأدب برقم /5550/.

 

إنّ هذا الفهم للإسلام ممّا يحتاج المربّي إلى غرسه وتعميقه في نفس الطفل والناشئ، وتدريبه العمليّ عليه في كلّ مناسبة، كيلا يفهم الإسلام فهماً كَنَسِيّاً، يعزل الدينَ عن الحياة، والعبادة عن السلوك، ويحصر الدينَ في زَاويةٍ ضيّقَة من الشعائر، التي هي أشبَهُ بالرموز والطقوس، تُؤَدّى بغير فهم لحكمها، ولا وعيٍ بمقاصدها وإدراك لمواقعها.. ثمّ تكون متناقضةً مع سائر سلوك الإنسان ونشاطه، ويكون نشاطه تائهاً عنها، لا يلتقيها ولا تلتقيه..

 

فعمل الخير في تصوّر المسلم وممارسته اليوميّة ليسَ قاصراً على شعائر العبادة، يؤدّيها في أوقات مخصوصة، ثمّ تكون الحياة شريعةَ غاب، وتناطُحَ ذئاب.. وإنّما الأرض في تصوّر المسلم محراب للعبادة، والحياة مَيدان لها رحب، والعمل النافع الصالح هدف المسلم وهمّته وطموحه، ممّا يجعل المسلم يتعامل مع الحياة والأحياء بإيجابيّة فاعلة، ونظْرةٍ إيمانيّةٍ سامية، إنّها زمن الجدّ والاجتهاد، والتنافس في الأعمال الصالحة، والاغتنام لها، والادّخار للآخرة.. بما ينفع عندَ الله، ويقرّب إليه.. وليست الحياة ملعب لهو، ودار وزر..

 

وممّا يؤَكّد هذه الحقيقة في نَفس المؤمن، ويؤازرها ويعمّقها قوْلُ النبيّ صلى الله عليه وسلَّم: (وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصَلِّ..) رواه البخاريّ في كتاب التيمّم برقم /323/، ونصّه: عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلَّم قَالَ: (أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَأُحِلَّتْ لِيَ المَغَانِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً).

إنّ هذا الشمول في فهم العبادة والتعامل معها حريّ أن يمنحَ الطفلَ الجدّيّة والإيجابيّة، منذُ نشأته، وتكوّن عاداته وأنماط سلوكه، ولا يمكن بعد ذلك أن يكون مصدر خطر أو ضرر على مجتمعه أوْ أمّته.. أو عضواً أشلّ في المجتمع، عالة على الناس..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين