الحلقة الثانية من الحوار مع فضيلة الشيخ محمود فؤاد طباخ -
تم نشر الجزء الأول من الحوار مع فضيلة الشيخ محمود بن فؤاد طباخ ، تكلم فيه عن مرحلة الطفولة وتأثيرها في تكوين شخصيته، وتحدث عن نشأته العلمية ، وأثر البيئة في مسيرته الدعوية، ثم عن دراسته في المرحلة الابتدائية ، وعن الشيوخ الذين أثروا في مسيرته العلمية والدعوية في الثانوية الشرعية ، وعن علاقته بفضيلة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني ـ رحمه الله تعالى ـ .
وفي هذا الجزء الجديد من الحوار مع الشيخ محمود طباخ يحاوره ابنه الأستاذ حازم عن شيوخه الذين درس عليهم وتأثر بهم في الثانوية الشرعية ، وعن بعض المواقف التي كان لها أثرها في مسيرته الدعوية والعلمية ، ثم عن انتقاله للدراسة في الثانوية العامة ، وعن نشاطه الدعوي في تلك المرحلة ، وعن بعض المواقف التي مرَّ بها في الثانوية العامة.
فإلى القراء الكرام نقدم هذا الجزء الثاني من الحوار الممتع الهادف ، ونقدم شكرنا للأخ الكريم الشيخ حازم محمود طباخ ، ولوالده الكريم الأستاذ محمود فؤاد، ونسأل الله عزَّ وجل لهما المزيد من العطاء العلمي والدعوي والتربوي .
س ذكرتم فيما سبق أنه قد تحققت أمنيتكم بالدخول إلى الثانوية الشرعية ، فيا ليتكم تسردون لنا بعض الشيوخ الذين درستم عليهم وتأثرتم بهم في تلك الثانوية ؟
لقد كان الشيخ محمد الدباس رحمه الله وهو من خريجي الأزهر الشريف مدرساً لنا في مادة الفقه الحنفي ، في الصف السادس ، وكان له أبلغ الأثر في تعلقي بمادة الفقه ، فكان رحمه الله إذا سأل سؤالاً معضلاً أو توفيقاً بين الأدلة يقول : ( طباخ وجاره ) ـ وهو من بيت الرشيد ، وهي أسرة معروفة بالعلم ـ أي ليس لهذا السؤال إلا هما ، مما حببني في تلك المادة وجعلني أحضّر وأبحث حتى لا تتراجع ثقة الشيخ بي .
وكذلك درّسنا الشيخ محمد الملاح مادة الفقه الحنفي ، وكان يدرس ( حاشية ابن عابدين ) في جامع العثمانية وقد خلفه بعد وفاته رحمه الله أخي الأكبر الشيخ محمد الطباخ، ثم انتقل درسه إلى الجامع الكبير بعد أن صار مشرفاً على الشؤون الدينية فيه .
وكذلك درسنا الشيخ عبد الله خير الله رحمه الله الفقيه المعروف ومفتي جبل سمعان يومها ، كل هؤلاء تتلمذت على أيديهم في مادة الفقه الحنفي فأفدت إفادة كان لها عظيم الأثر في حياتي العلمية والدعوية فيما بعد .
وكذلك درسنا الشيخ محمد نجيب خياطة شيخ القراء في حلب رحمه الله ، والذي عني بي عناية خاصة ، فكان يصحح لي الدقائق بسبب ارتياحه لما وهبني الله من حسن الصوت والأداء ولله الحمد ، ومن حسن حظي أن مادة التجويد وتطبيقاتها المقررة في الصف الأول الإعدادي درستها على فضيلة الشيخ خياطة لسنتين متواليتين ؛ بسبب أن الصف السادس الذي كان الأول الإعدادي ضم إلى المرحلة الابتدائية بعد أن انتقلنا للصف السابع الذي صار هو الأول الإعدادي ، فعدنا لدراسة التجويد من جديد ، كما كان الطلاب يطلبون مني إذا تأخر المدرسون علينا أن أشغل الوقت بتلاوة آيات من القرآن الكريم فكنت أفعل .
لكن العجيب في الشيخ أن علامته لي ما كانت لتزيد عن 80 فيما أذكر ، فلما راجعته في ذلك محتجاً بأن قراءتي تشبه قراءة أحد القراء المشهورين ، فاجأني بالرد بأن ذلك القارئ يأخذ عندي 70 ، فحمدت الله أن كانت علامتي 80 .
ومن جملة من درَّسني : الشيخ عبد الرحمن زين العابدين في النحو ، والشيخ أبو الخير زين العابدين في التوحيد ، والشيخ ناجي أبو صالح، والشيخ عبد الوهاب سكر، والشيخ عبد الله حماد، والشيخ طاهر خير الله، والشيخ محمد أديب حسون رحمهم الله أجمعين ، وكان لهذه الكوكبة المتميزة عظيم الأثر في تكويني علمياً وتربوياً ودعوياً ولله الحمد .
س نعود إلى الثانوية الشرعية كي تحدثونا عن المزيد من المواقف مما كان له أثره في مسيرتكم الدعوية والعلمية .
لقد كنت مولعاً بدرس الخطابة لأني اكتشفت موهبتي الخطابية في حصتها الأسبوعية ، فكنت بسبب تخوف الطلاب من مواجهة زملائهم لإلقاء الخطب أتسلم الحصة كاملة وأنا أخطب في الموضوع الذي كلفنا بتحضيره كواجب علينا ، وهكذا غالباً ، ثم إننا كنا نذهب إلى بعض المساجد نستأذن الخطيب للصعود على المنبر وإلقاء خطبة الجمعة بدلاً منه ، كما كان والدي رحمه الله يكلفني أحياناً بالخطبة مكانه في سني المبكرة .
وأذكر مرة وأنا ذاهب لخطبة الجمعة في سني المبكرة هذه والعمامة فوق رأسي ، فإذا بي أفاجأ بعربة تتدحرج لتصدمني فما كان مني إلا أن وثبت لأتخلص منها ناسياً أني ألبس العمامة لكن الحمد لله أنها لم تقع .
ولا زلت أذكر أحد زملائي الذي راح يكرر : ( أيها الأُخُوّة ) بدل : ( أيها الإخْوة ) وكم تمنيت لو أنه سكت عنها ليزيل حرجنا .
س : بهذه المناسبة هل تذكرون لنا بعض المواقف التي برزت فيها هذه الموهبة في تلك المرحلة ؟
أذكر في معسكر الفتوة لطلاب الثانوية في أوائل الستينات أدركنا يوم الجمعة، وكان لا بد لنا من الصلاة والخطبة فيه فبدأت المباحثات مع عدد من طلاب الثانوية الشرعية ، إلا أنهم امتنعوا جميعاً وكان ترشيحهم لي لهذه الخطبة ، إلا واحداً قال : لو عرضت علي لقبلت ، فكان استنكار إخوانه له وإصرارهم على أنه لا أحد يخطب غير محمود ، وكان الأمر كذلك .
وموقف آخر تجلى في إحدى المناسبات في الثانوية حيث طلب مدرس التربية الإسلامية أن تكون له كلمة لكنه لم يحصل على الموافقة ، ولما كنت طالباً متميزاً خطابياً انتصر الطلاب لهذا الموقف ، فرددوا جميعاً بصوت واحد ( بدنا كلمة يا طباخ ) مقاطعين كلمة مسؤول التيار الآخر ، واستمروا على ذلك مما أحرج الآخرين وألزمهم أن يقدموني للخطبة مع أني لم أكن على علم بذلك ، فاستجبت لرغبتهم وكانت خطبة صريحة وواضحة عبرت عن آرائهم وتطلعاتهم ولله الحمد .
س : هل تودون أن تحدثونا عن مواقف أخرى مرت بكم أثناء الدراسة في الثانوية الشرعية ؟
أذكر حين كنت في الصف السابع في الثانوية الشرعية في فترة الخمسينات الميلادية خرجت مع بعض زملائي حين بلغنا أن رجلاً نصرانياً ادعى أن المسيح عليه السلام قد نزل عليه ، واستقطب أعداداً غفيرة من المسلمين والنصارى لزيارته في مكانه الذي أقيم فيه جامع التوحيد فيما بعد ، فلما وصلنا المكان وظهر الرجل وهو يتوكأ على عكازين تبين لنا كذبه وفريته ، لأنه لو كان صادقاً لشفاه الله ببركة المسيح من مرضه ، فأسمعه بعض من كان معي كلاماً يفضح كذبه ، ثم انسحبنا من المكان واعتليت تلة قريبة وأذنت للمغرب وصليت إماماً بتلك الجموع ، وكان يوماً مشهوداً أثار ضجة حول هذه القضية مما دفع الخطباء أن يتناولوها على المنابر يوم الجمعة ، فاستدعي ذلك المدعي فاعترف بأن القضية ملفقة هدفها إنشاء كنيسة في ذلك المكان لمنع بناء المسجد الذي كان قد تقرر بناؤه يومها لأنه كان لا بد أن تكون هنالك مسافة معلومة بين أي كنيسة ومسجد حسب القانون ، فإذا بنيت الكنيسة بسبب هذه الدعوى الباطلة امتنع بناء المسجد الذي تقرر بناؤه لكن موقفنا بفضل الله أبطل كيدهم وبني المسجد الذي يسمى اليوم ( التوحيد ) .
وأرجو أن لا يظنن ظان أننا في موقفنا هذا عبّرنا عن حقدنا الطائفي أو اعتدينا على حقوق الآخرين الدينية كلا والله وإنما كان الموقف رداً على الاعتداء وفضحاً للافتراء ، وتم ذلك بحمد الله وتوفيقه { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز }
وفي تلك المرحلة أيضاً أي في الخمسينات الميلادية ظهرت موهبتي الأدبية ، فأنشأنا مجلة باسم فصلنا حين كنا في الصف الثامن ( الثاني الإعدادي ) وكان لي في تلك المجلة مقال بعنوان : دعوهم وما يقولون ، تعرضت فيه للرد على كل ما يدعيه خصوم الإسلام بأسلوب أدبي كلفني أن أستدعى من قبل الإدارة مع زميلي المشرف معي على المجلة لمقابلة المسؤول عن الإعلام في السراي الحكومي ، فلما ذهبنا وجدناه قد وضع المجلة مفتوحة أمامه على الطاولة وعلى مقالي الذي كتبته ، فلما أعلمناه عن اسميْنا راح يقرأ المقال بصوت عال ويتهددني على ما كتبته ، وأخذ علينا عهداً بعدم توزيع هذا العدد وعدم تكرار مثل هذه المقالات .
وفي هذه المرحلة تحامل مدرس العربية - المعين من قبل إدارة التربية والتعليم - على طلاب فصلنا لأنه لم يكن منسجماً مع توجهات الطلاب الشرعيين على ما يبدو فقرر ترسيب القسم الأعظم منهم ، لأن مادة القواعد وحدها كانت مادة مرسبة إضافة إلى مادة الفقه أيضاً يومها .
لذا فلم يعلمنا بنتيجة اختبارنا لمدة طويلة لنتدبر أمرنا ولم تفلح كل المحاولات للوصول إلى حقنا في أخذ نتائجنا ، وصار لزاماً علينا أن نرفع صوتنا لنسمع إدارتنا التي تجاهلت أمرنا ، وحمّلني زملائي المسؤولية فقبلتها ، فاستأذنت للكلام مع المدرس حين دخل الفصل لكنه لم يسمح لي ، فوقفت وتكلمت أطالبه بحقنا فلم يستجب أيضاً ، فلما اشتد الجدال بيني وبينه طلب مني الخروج ، ظناً منه أن خروجي سيحل المشكلة ، عندها طلبت من زملائي وكنا حوالي 60 طالباً أن يخرجوا من الفصل ، ليبقى المدرس وحده في الفصل ، وفعلاً خرجنا جميعاً إلا واحداً ففقد المدرس صوابه وراح يصرخ ( طباخ طباخ طباخ ) ليسمع الإدارة فتنجده ، وفعلاً جاءت الإدارة وتمت معالجة الموقف عندها فقط ، وحصلنا على النتائج التي كنا نتوقعها وهي رسوب معظمنا في مادة النحو وتحقق للمدرس ما كان يريده من ترسيبنا في تلك السنة وإنا لله وإنا إليه راجعون .
س هل كان لهذا الترسيب أثر في مسيرتكم العلمية بعد ذلك حيث ذكرتم أن الرسوب في مادة النحو أو الفقه يلزم الطالب بإعادة السنة مرة أخرى ؟
نعم ، لما كنت أحب العدل والإنصاف ، وأكره الظلم والجور فكان لزاماً علي أن أبحث في كل الوسائل الممكنة للوصول إلى حقنا في النجاح ، لكن جميع تلك المحاولات أخفقت في إيصال حقنا إلينا ، فبات لزاماً علي أن أبحث عن طريقة حتى لا تضيع علي وعلى زملائي سنة دراسية ، فتقدمت بأوراقي لدخول اختبار الشهادة الإعدادية العامة ، وكان النظام يسمح بذلك ، وأغريت زملائي بالتقديم مثلي ، ففعلوا وبقينا سنتنا نداوم في الصف الثامن مع دراستنا الحرة لمواد الشهادة الإعدادية في منازلنا ، وبفضل الله تم نجاحي إلى الصف الثالث الإعدادي في الثانوية الشرعية إضافة إلى حصولي على الشهادة الإعدادية العامة بمجموع يؤهلني للدخول في الثانوية العامة ، ولم ينل الشهادة الإعدادية معي إلا واحد من زملائي فقط ، لكنه لم يحصل على مجموع يؤهله للدخول في الثانوية فترك الدراسة .
س هل كان هذا النجاح سبباً في ترك الثانوية الشرعية أم استمررتم فيها ؟
تقدمت بشهادتي الإعدادية العامة للدخول إلى الصف العاشر ( الأول الثانوي ) في الثانوية الشرعية ، وكان النظام يسمح بذلك إلا أن طلبي رفض بسبب أنني من طلاب الثانوية الشرعية أصلاً ، وقد نجحت إلى الصف التاسع ( الثالث الإعدادي ) في تلك السنة ، وقبولي في الصف العاشر يُسبِّب للإدارة إحراجات مستمرة ، فاضطررت إلى الانتقال إلى إحدى الثانويات العامة في حلب لإتمام دراستي فيها .
س هل انقطعت صلتكم بالتعليم الشرعي والعمل الدعوي بعد انتقالكم إلى الثانوية العامة ؟
بفضل الله فقد زاد حرصي على طلب العلم الشرعي من مصادره ، فلازمت دروس الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله الصباحية في جامع الحموي ، حيث كانت تخصصية مقارنة بدرسي الاثنين والخميس في جامع بانقوسا والجامع الكبير ، كما كنت أحضر خطب الجمعة للشيخ عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله في جامع الثانوية الشرعية ، ودروس التفقه في الدين التي كان يعقدها بعد صلاة الجمعة في الجامع نفسه ، وكذا دروسه في الفقه في بعض الجوامع الأخرى .
كما زادت اهتماماتي الدعوية بسبب البيئة الجديدة التي فرضت علي ؛ والتي لم تكن واضحة في ظل نشأتي في أحضان الثانوية الشرعية .
س حبذا لو تحدثونا عن بعض النشاط الدعوي الذي كان لكم دور بارز فيه في تلك المرحلة .
نعم لقد دخلت الصف العاشر ( الأول الثانوي ) فوجدت معظم الطلاب يتخلفون عن أداء الصلاة مع الجماعة في المسجد لاعتبارات كثيرة ، فكان لزاماً علي أن أقنعهم بوجوب الصلاة والمحافظة على الجماعة فيها ، فتم ذلك ولله الحمد .
وأذكر يوم أن دخل علينا مدرس مادة المجتمع ، وراح يحدثنا عن أهمية القوانين الوضعية ، حتى ولو تصادمت مع التعاليم الشرعية ، فما كان مني إلا أن رددت عليه في نهاية الحصة بأسلوب مقنع ، فما أن انتهيت حتى التهبت أكف زملائي بالتصفيق الحاد ( علماً بأني لم أكن أحبذ التشجيع بهذه الطريقة وهي التصفيق لما فيه من إشكال شرعي لقوله تعالى في المشركين : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } والتصدية هي التصفيق ) وتقطر جبين المدرس بالعرق وهو لا يدري ما يقول سوى أنه راح يمسح العرق عن جبينه ويقول : أتهددني يا بني ؟ مع أن الأمر لم يكن كذلك وانتهت الحصة على ذلك .
س هل تؤيدون تشجيع الطلاب على الرد على الأخطاء التي تصدر عن مدرسيهم ؟
بكل تأكيد فإن السكوت على الخطأ يجعله صواباً إذا تكرر لأن ما تكرر تقرر ، ولكن لا بد للرد أن يكون حكيماً ومقنعاً للوصول إلى الغاية المرضية .
وأذكر هنا أن أحد المدرسين أصحاب التوجه اللاديني راح يتناول الأئمة الأربعة ويعتبر تقليدهم ليس بلازم بل إن أحدنا يمكن أن يجمع علومهم قاطبة فيكون أفضل منهم مجتمعين ، فما كان مني إلا أن رددت بحكمة بالغة فقلت : إن هذا يعني أن أحداً في هذا العصر له أن يدعي بأنه قادر على أن يحمل أثقالاً لأربعة من أبطال العالم حاملي الأوزان بمعنى أنه لو كان بإمكان أحدهم أن يحمل 200 كغ ، فإن مجموع ما يحمله الأبطال الأربعة 800 كغ ، ولتكن 600 إذا حذفنا المشترك بين المذاهب ومع ذلك فمحال عقلاً أن يدعي أحد أن بإمكانه حمل ما يحمله الأربعة مجتمعين ، وهذا هو الشأن بالنسبة للأئمة الأربعة سواء بسواء ، عندها لم يجد جواباً للرد على هذا الكلام المقنع ، وانتهى الموقف بإعجاب زملائي بهذا الرد المفحم .
س نعود إلى الثانوية العامة وبعض المواقف الأخرى التي مررتم بها ، مما يجعل أبناء هذا الجيل أكثر تمسكاً بدينهم ودفاعاً عن مقدساتهم .
أذكر هنا أن زميلاً لي نبهني إلى لوحة فنية كانت عبارة عن وجه فتاة فاتنة علقت في ممر الطلاب كنشاط مدرسي ، فلما رأيتها خشيت من أثرها السيئ على طلاب تلك المرحلة فأرسلت أحد زملائي ليطلب من مدرس الرسم المسؤول عن هذه اللوحة وهو مسؤول في الإدارة أيضاً بأنني أريد مقابلته في آخر الدوام ، فاستجاب لذلك وانتظرني فقابلته وتحدثت معه عن خطر مثل تلك اللوحات على أخلاق ناشئتنا فرفض في البداية قبول طلبي لكنني بعد حوار هادئ وحكيم استطعت إقناعه وأزال اللوحة على أن لا يتكرر ذلك مستقبلاً ولله الحمد .
وأذكر هنا إصرار مدرس الرياضة على لبس الشورت القصير أثناء درس الرياضة ، لجميع الطلبة ، لكنني أتيت في الدرس القادم بلباس ساتر للعورة فراح يهزأ بي ويخاطبني : أنت صاحب ( شروال الفاصون ) ! نحن قلنا شورت وأنت جئت بهذا ! فقلت: ليس المهم الشكل يا أستاذ بل المهم المضمون ، وأنا جاهز لتنفيذ أي تمرين تطلبه ، وفعلاً طلب تمريناً معيناً وهو الوقوف عمودياً على الرأس واليدين فقط ، فلم يتقدم أحد من الطلاب لتنفيذه ، وقمت فأديته على الوجه الأكمل ، فصفق وصفق الجميع معه ( وقد ذكرت رأيي في هذا سابقاً ) ووعدني بالدرجة الكاملة في الاختبار الأول ، ووضعني مسؤولاً عن النشاط الرياضي في الثانوية ، وكان ذلك بفضل الله أولاً وبفضل ما كنت أتمتع به من خبرة في التدريبات الرياضية التي عنيت بها اعتقاداً مني بأن العقل السليم في الجسم السليم، وأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وهكذا يجب أن يكون المسلم متميزاً وفخوراً بانتمائه لإسلامه ومتقبلاً لكل التحديات ، ليأخذ مكانته المرموقة في كل تجمع يكون فيه .
وأحب هنا أن أنبه إلى أن استقامة الطالب وثباته على الحق يجعله أكثر حباً وتقديراً في أعين من حوله ، بل حتى خصومه ، فلقد كان إلى جواري طالب في الصف الحادي عشر لا يصلي ، وكان متميزاً في دراسته مثلي إلا اللغة الانجليزية التي كنت لا أتقنها لأسباب أهمها قلة بضاعتي منها في الثانوية الشرعية ، فلما جاء الاختبار الشهري لمادة الانجليزي وكان مدرسها نصرانياً حاول جاري أن يغششني في تلك المادة بدافع الحب والغيرة ، فرفضت وحاول مراراً فرفضت لأن الغش حرام ، فما كان منه إلا أن سحب ورقتي من أمامي ووضع ورقته مكانها ليكتب لي في ورقتي ، لكني عدت وسحبت ورقتي منه ودفعت ورقته إليه بسرعة عجيبة قبل أن يخط فيها حرفاً واحداً ، وطبيعي أن يحس المدرس بهذه الحركة فجاء واتهمني بأني أحاول الغش لأني أنا الأضعف طبعاً في هذه المادة وسحب ورقتي وطلب مني الخروج ، ولما كنت مظلوماً في هذا التصرف حاولت إقناعه فلم يستمع إلي حتى كلمه جاري بالحقيقة فلم يكد يصدق ما يسمع ، وكانت تلك الحادثة ذات أثر كبير على المدرس وعلى الطلاب مما زاد في ثقة الآخرين بي ومحبتهم حتى الخصوم ، فلتكن كذلك أيها الطالب في تمسكك بمبادئك وحذار من الغش تحت أي ذريعة ليكون لك القبول بين أساتذتك وأقرانك ولتكون الداعية بفعلك قبل قولك .
وموقف آخر لعله من أعظم المواقف تأثيراً ذلك أن بعض الطلاب في معسكر الفتوة - الذي حضرته ( وكان ذلك عام في بداية الستينات ) - أحبوا أن يعفوا لحاهم لإعجابهم ببعض المواقف المشرقة في المعسكر ، لكن نظام المعسكر يطالبهم بالحلق يومياً وهناك تفقد صباحي لذلك ، فلما حدثوني برغبتهم كلمت المسؤولين بأن يراعوا أمثال هؤلاء فكان الجواب بأن بعض الطلاب سيتخذون ذلك ذريعة لعدم الحلق اليومي فقلت : إن من أحدثكم بشأنهم موثوقون ، وبناء على ذلك تم اجتماع طلاب المعسكر جميعاً دون أن يعلم أحد سبب هذا الاجتماع ، وكنت أمشي إلى جوار أحد الضباط ليكتب أسماء الطلاب الموثوقين حتى يتسامح معهم في هذا الأمر ، ولما انتهى الاجتماع استفسر أحد الأصدقاء عن غرضه ، فلما أخبرته كاد أن لا يصدق وفرح أيما فرح بهذا الإنجاز ولله المنة والفضل
وإلى الجزء الثالث من الحوار مع الدكتور محمود طباخ وفيه يتابع الحديث عن مسيرته العلمية والدعوية بعد تخرجه في الثانوية العامة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين