الحلقة التاسعة
نتابع في هذه الحلقة الجديدة في حوارنا الممتع مع فضيلة الدكتور الشيخ محمد أديب الصالح، يحدثنا فيه عن ذكرياته في مناقشة رسالة الدكتوراه ( تفسير النصوص في الفقه الإسلامي) مع المناقشين الشيخ زكريا البرديسي، والدكتور محمد سلام مدكور، ورئيس اللجنة العلامة محمد أبو زهرة، وفي هذه الحلقة نتابع ذكرياته مع الشيخ أبو زهرة ومحاضراته في معهد الدراسات الإسلامية، وحلقاته التلفزيونية، وطرائفه الجميلة، ويحدثنا كذلك عن الأساتذة الذين انتفع بهم وفي مقدمتهم الشيخ مصطفى عبد الخالق.
المناقشة:
* نعود إلى موضوع رسالة الدكتوراه وما سبق تحديد موعد المناقشة من وقائع وملابسات.
حدد وقت المناقشة، وكان طبعاً بإحدى القاعات الكبرى، ولها سدّة في كلية الحقوق، وكان العميد وهيئة الكلية كلها والكثير من زملائنا وزوجاتهم وطالبات في الأعلى.. ناس كثير.
في نظامهم ليس ضرورياً أن يكون المشرف هو رئيس اللجنة. كان رئيس اللجنة شيخنا أبو زهرة، وعلى يمينه المشرف سلام مدكور،وعلى يساره الشيخ البرديسي رحمه الله تعالى، لكن كان واضحاً أن أبو زهرة جالس معرضاً بكتفه عن المشرف، واضح أن العلاقة بينهما غير سوية، الشيخ جالس ووجهه متجهم.. فحكى كليمات: تقديم الموضوع، وصاحب الرسالة، وطبيعة الموضوع، واليوم نناقش الموضوع الذي يقوم على كذا وكذا وأهميته وما إلى ذلك وفلان من سورية إلخ..والآن نستمع إليه يقرأ علينا أو يلقي علينا تلخيص الرسالة، وبهذا الوجه المتجهم قال لي: اسمع يا أديب معك عشرون دقيقة لا تزيد ولا تنقص فاهم يا أديب؟ عشرون دقيقة، لا تزيد ولا تنقص قلت له: طيب يا سيدي، فشاء الله تبارك وتعالى، وكانت عناية ربانية غريبة، أني لخصت بعشرين دقيقة لا زادت ولا نقصت الموضوع بكامله مع النقاط الأساسية فيه وجو المقارنة بين المذاهب وغيرها.. وفيما بعد أثنيت على الشيخ الزفزاف الذي كنت أقرأ معه الرسالة..
نظرت إلى وجه الشيخ فوجدته متهللاً، وأثنى ثناء عاطراً على هذا الأمر: كيف عرض علينا المذاهب وقام بمقارنتها مع الأدلة وأعطى كل شيء حقه تماماً، كأننا نقرأ الرسالة حرفاً حرفاً كذا.. وأخيرا لم يستعبده الورق، بمعنى أن الطالب قدم تلخيصه شفهياً.. ختم بهذه العبارة كلامه.
صار أبو زهرة آخر، سُرَّ سروراً بالغاً ارتاح وجلس وصار يتكلم: إيه يا أديب أنت تقول كذا بصفحة كذا.. انتقل إلى صفحة كذا، ثم جاء إلى قضية فيها حرج قليلاً أمام النساء قضية" فأتوا حرثكم أنى شئتم" وهذا من المشترك وكذا، قال يا أديب: أنتم الشوام .. ويضحك بسرور.
وانتهى من المناقشة وأنا ما رددت عليه شيئاً، أكثر شيء وقف عنده هو هذه النقطة ليضحك ليمزح، من جهتي كان البحث مرتباً جداً، ورددت فيه على المخالفين رداً قوياً بالآية والحديث وفهم العربية وكذا، فهو أيضاً أعجبه سكوتي ولا يعرف ما صار بيني وبين أبو المجد، اعتبرها غاية الأدب أني لا أرد عليه.
العجيب أنه بعد أن انتهينا من المناقشة، قاموا للخلوة حتى يعطونا النتيجة، ناداني قال: سنصلي العشاء تعال صلِّ معنا، ولم يكن من المفروض أن أذهب معهم في خلوتهم، لكن كان لابد من الإجابة، فلما وصلنا الغرفة قال: تقدم صلِّ بنا، مع وجود المشرف..قلت: يا سيدي.. قال: صلِّ.. الخلاصة صليت بهم.. اجتمعوا ثم رجعوا فيما بعد، عاد فأثنى على الرسالة وقال إن الرسالة استحقت مرتبة الشرف الأولى مع تبادل الرسالة مع الجامعات الأجنبية، وهذا هو المفروض لأنهم أخذوا تسعاً وتسعين نسخة..
في اليوم التالي ذهبنا لزيارته كان لابد أن نزور الأساتذة قال: كيف رأيت المناقشة؟ والله شيء طيب يا سيدي والدرجة والصلاة إماماً وكذا، صار يضحك طبعاً.. قلت له: قدمتني إماماً هذه للتاريخ عظيمة جداً، لكن يا سيدي هذه قضية"..فأتوا حرثكم أنى شئتم" والله أنا أحرجت وأنا رددت على المخالفين، قال: عارف عارف أنت كتبت كل ما يجب أن يكتب لكن معليش. قلت: يا سيدي كان هنالك نساء وزوجات الزملاء.. قال: معليش همَّ بيتبسطوا على كده..
ثم صوت شيخك الأجش يسررن منه والقضية علمية..
أبو زهرة رحمه الله تعالى كان يقلّب الرسالة، يرى ستة سبعة مواطن ويحفظ الصفحة مباشرة، ثم يقول للطالب افتح على صفحة37، طيب روح يللا 58 يرتبك الطالب، فيقول له: هنا على اليمين، هكذا ناقَشني.. ذاكرته عجيبة.
بعدها صار المشرف يرحمه الله كلما جاءه أحد يقول: رسالة أديب عظيمة جداً ولا مثيل لها، وأنا دائماً أضعها من مراجعي.
كانت المناقشة بعد انتهاء السنة الدراسية والامتحانات. ناقشنا في آب64 ، وكان دائماً هناك تقليد أن يتولى المناقش الذي أسبغت عليه صبغة الدكتوراه أنه يدعو إخوانه إلى طعام، وكان مشهوراً يومها في القاهرة مطعم أبو شقرا، وكان بعض الإخوة العراقيين الذين يدرسون في الأزهر ومنهم د. عمر عبد العزيز( لعله يدرس الآن في قطر) قد حضروا المناقشة، فعهدت إلى د. حمد الكبيسي جزاه الله خيراً بالأمر: ندعو الإخوان والأصدقاء، عدد طيب جاء، فيها أنس..والإنسان ضعيف، لما يكون خارجاً من المناقشة.. يكون إنساناً آخر..أمر ينتظره بفارغ الصبر وتتعلق به مرحلة من مراحل حياته كبيرة ينتظرها من سنوات طوال..
ولعل من المفارقة أنا لم نفعل أي شيء لما عدنا إلى الشام، مع أنه أهل قطنا وأقرباءنا وإخواننا في دمشق كانوا جديرين بأن نكرمهم بهذه المناسبة، أقيمت لي في قطنا حفلة رائعة جداً وقت الابتعاث الأول، فكان جديراً أن أقدر تشجيعهم. الظاهر أن ثقل الوضع الأمني السياسي وكثرة المسؤوليات.. وقضية المشاركة بالعمل العام، كل ذلك كان له أثره.
انتهت الأمور على خير، والحمد لله، وبقيت في القاهرة حتى أخذت صورة مصدقة عن الشهادة، لأنه كان صيف وليس ثمة اجتماع للكلية، فأخذنا صورة مصدقة فقط في آخر اجتماع للمجلس، والشهادة أتينا بها فيما بعد.. أتى بها لي د. أحمد عبد الكريم بعد مدة طويلة، كل التعامل هنا في الرياض مع الجامعات بالوثيقة.
أثناء العمل، والمزيد عن الشيخ أبو زهرة:
وأود أن أقول بأن الأيام التي كنت أمضيها في سورية بين الرحلة والرحلة عندما آتي من أجل الأسرة؛ كان دائماً في جعبتي ما يجب تحضيره سواء في مكتبتي الخاصة أو مكتبة الجامعة، وأحياناً أسافر إلى حلب للاطلاع على بعض المصادر والمراجع. أما في مصر فكنت مع العمل على الرسالة، أحاول أن أحضر بعض المحاضرات بعض الندوات أو دروس أساتذتنا في معاهد عالية أخرى، مثلاً كان هنالك معهد الدراسات الإسلامية، كان يشرف عليه وزير الأوقاف أحمد حسن الباقوري رحمه الله تعالى، كان يدرس فيه أستاذنا الشيخ أبو زهرة رحمه الله تعالى، هو من مستوى الماجستير، ويعطي الماجستير لكن حتى تلك الأيام لم يكن معترفاً به عند الدولة، لكن كان يؤمُّه رجال كبار، بهذه المناسبة مرة كان هنالك موعد بيني وبين أبو زهرة لنبحث بعض الشؤون المتعلقة بالرسالة، ويبدو أنه نسي حين وعدني أن لديه محاضرة في المعهد، فاتصلت بالبيت فقيل: هو يطلب أن تذهب إليه في المحاضرة، فذهبت وجلست في الصف الأخير، فقال لي: تعال تعال يا أديب، يا شامي، تعال اجلس هنا، وأجلسني أمامه، هكذا كان يقول دائماً: شوام وشامي وأديب، كان جزاه الله خيراً يكرمنا بالعلم، ويكرمنا بالأخلاق، فجلست..
بدأ بالمحاضرة ما مضى ربع ساعة أو نصف ساعة حتى قام طالب وقال له: يا سيدي ما هذه قضية طلعت الرفاعي ولقاؤكم معها في حديث على التلفزيون، كانت الرفاعي سيدة سورية أدارت اللقاء، وكان هذا أوائل الوحدة ،فكما تحركت التجارة بين مصر وسورية، كذلك تحركت الحلقات التلفزيونية وأشياء من هذا القبيل.أنا لا أدري ما القضية فقال: كانت هنالك حلقة عن المرأة وطلعت الرفاعي ما أعجبها كلام شيخك عن المرأة واعتبرته كلاما رجعياً متخلفاً، وأعجبها كلام الزميل الذي يقفز على الحدود لأن ذهنه لماح، فقالت: إن كلام أبو زهرة متخلف جدا، بينما كلام الآخر هو المقبول وفيه نوع من الحداثة وما إلى ذلك بالنسبة للمرأة. عندها علمت أن الطالب سأله ليسمع منه هذا الكلام، تابع الشيخ: وأنت يا أبو زهرة إذا كان علمك وفقهك وكلامك في الإسلام بلغة العصر أو ليس بلغة العصر متوقف على هذه كذا....إذا كان الحكم على علمك وقدرتك وفهمك وحديثك عن المرأة وغيرها في الإسلام متوقفاً على رأي فلانة.. كذا( تلفظ بشتيمة ساخرة) وأكمل بهذا الأمر وبأن الرأي الذي رآه هو الرأي المؤيَّد، وهو الذي يحب أن يلقى الله عليه وكذا، لا يجامل ولا يماري.
ولي رأي في موقف الشيخ أبو زهرة هذا: إذ أصبحت أشعر أن الأستاذ المتقاعد الذي يبلغ من الكبر عتياً يصبح عنده شيء من السآمة مما ألفه خلال ثلاثين أو أربعين عاماً، أبو زهرة بمجرد أن استطاع طالب أن يحوله عن المحاضرة العلمية الجادة يتحول، كأنه يرى أن تثقيف الطالب أيضاً في الأمور العامة مهمّ أهميةَ صلته بالكتاب أو الموضوع، طالب آخر أعاد الكرة، قال: يا شيخنا أنا ما فهمت الموضوع تماماً فأعاد.. يظهر أنه كانت عنده رغبة في الحديث، ويبدو أن السيدة المذكورة( الرفاعي) قللت الأدب.
ومن طرائف أبو زهرة أنه في مرة من المرات توفي شيخ الأزهر، وصار خلاف حول من ستعيّن الدولة شيخاً للأزهر بعد أن تغير القانون أيام عبد الناصر، فواحد اسمه يوسف موسى رحمه الله تعالى( كان بينهم ما يحصل أحياناً بين العلماء من نكت وطرائف أو من تزاحم لكن التعامل يكون بخُلق) مزح معه أبو زهرة وقال له: يا دكتور يوسف الشائعات قوية أنك أنت المرشح لمشيخة الأزهر! فيقول الشيخ أبو زهرة أن الشيخ موسى غيَّر عباءته في اليوم التالي، واشترى عباءة جديدة ونظم أموره وكذا، هذه من نكت شيخنا أبو زهرة رحمه الله تعالى.
كنا مرة نتحدث عن قضية هذه الاتجاهات تحت عنوان تحرير المرأة، وأن نتيجتها العملية هي الإساءة للمرأة والمجتمع، إن كانت هنالك أخطاء تُقوَّم ولا نلبس هذه الأخطاء للشريعة نفسها ونحاول تغيير الشريعة، ووراء هذه المطالب في التغيير آراء شهوانية أو عدائية وسير مع الهوى، فبهذه المناسبة بعد أن أفاضوا في هذا الموضوع، وكان غيوراً على هذه القضايا، وكان حصناً حصيناً أمام تغيير قانون الأحوال الشخصية في مصر، ويقف مع النصوص بشكل دقيق جداً، وله وزنه، قال لي: دعيت مرة من قبل هيئة نسائية تقودها فلانة نسيت اسمها الآن، من أجل المرأة وقضية التعدد فحضرت مبكراً عن الموعد و لا أحد في القاعة، جاءت رئيسة الجمعية أو الهيئة، وسنها تتجاوز الأربعين والله أعلم، فقالت: ماذا ستقول في هذا الموضوع، فتكلمت عن قضية التعدد ومشروعيته وما أحيط به من الاعتبارات كلها، مع تربية المسلم والمسلمة على أنه عندما يطبق الحكم الشرعي ليس تطبيقاً شهوانياً وإنما هو تطبيق مع الخلق والأدب والتزام بأحكام الكتاب والسنة، قال: بعد أن تكلمت وتكلمت كيف أن الإسلام لا يرضى عن الظلم وهذه قضية عتيقة وجديدة وكل هذا من الأمور التي يجب أن تغير، قالت له: هكذا يا سيدي التعدد؟ قال: نعم، قالت: والله إذا كان بهذا الشكل ففهمنا نحن خاطئ عن القضية، قال: فلما رأيتها قد نضجت الفكرة عندها تماماً، قلت: إيه رأيك تتزوجيني؟ قالت له: يا سيدي سنّك كام؟ قال: لو وافقتُ ربما كنا عقدنا العقد، قلت لها: بلاش سني أنا أبو زهرة بلحمي ودمي، قال: فقلت لها بعد أن رأيت أنه ليس لديها أي مانع أن يعقد عقدها على أبو زهرة: يا بنتي اتَّقِينَ الله تعالى، دائماً تضربن في حديد بارد وتخلقن مشكلات لا وجود لها، المشكلة في التربية للرجال والنساء، وليست في الإسلام.
هذه من طرائفه وله طرائف كثيرة رحمه الله تعالى، لكن الذي أريد أن أقوله: أنه حتى أيام التحضير للرسالة كنا دائماً نستفيد منه، ولو لم تكن هنالك محاضرات رسمية.
* هل ثمة علماء وأساتذة آخرون تودّون الحديث عنهم؟
كان من الأساتذة الذين أحضر لهم وأستفيد منهم الشيخ مصطفى عبد الخالق، من كبار علماء الأزهر في أصول الفقه، يجلس معه الإنسان وكأن أمامه كتب أصول الفقه كلها يأخذ ما يريد، خصوصاً ما يسمى بمذهب المتكلمين الشافعية والمالكية والحنابلة، فاستفدت منه كثيراً لا للرسالة فقط، لكن بتقويم الفكرة وإضاءة الذهن بها وهو أكبر إخوة ثلاثة من العلماء، أخوه عبد الغني كان آية في تحقيق المخطوطات وفي أصول الفقه، رجل عظيم أعير إلى هنا إلى الرياض، وتوفي وهو مُعار، ولهما أخ أصغر منهما أحمد عبد الخالق.
وفيما علمت كانوا يسكنون في فيللا واحدة ثلاثة أدوار، وتحتها ما يسمونه البدروم ونسميه نحن القبو فيه مكتبة عظيمة جداً للجميع، وكانوا أيضاً قُوّاماً على مسجد السيدة نفيسة، يعتبرون من الأشراف، لذلك كانت معاملتهم للطالب عندما يأتيهم رائعة: عندما أطرق الباب وأدخل يتفرغ لي تفرُّغاً كاملاً، ويمنع أي زيارة، نطرح القضايا التي نريدها ونأتي بالمراجع ونبحث، وهذه الدراسات المتعمقة في مواجهة النصوص في الحقيقة، فيها فائدة غير منظورة، يعني أنت بالمنظورة رأيت ما رأيت بالكتاب وبفكر الشيخ وفهم الكتاب، لكن الفائدة غير المنظورة هي تكوين الملكة للفهم ووضع الأمور في مواضعها وإلف الكتاب، أن يألفه، لا يصحبه لحاجته إليه فحسب.. لا، يعني يعتبر أن الكتاب صار عيناً عذبة من الماء تعطيه، يعني الكتب عيون عذبة جميلة كلها، فأذكر هذا لهذا الرجل رحمه الله تعالى.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول