الحَلِف كَذِبًا لِدفعِ الظلْم

 

روى الحافظ ابن عساكر في كتابه (تاريخ دمشق) في ترجمة التابعي الثقة "رَجَاء بنِ حَيْوَة" بسنده عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بن يَزِيْدَ بنِ جَابِرٍ، قَالَ:

كُنَّا مَعَ رَجَاءِ بنِ حَيْوَةَ، فَتَذَاكَرْنَا شُكْرَ النِّعَمِ، فَقَالَ: مَا أَحَدٌ يَقُوْمُ بِشُكْرِ نِعْمَةٍ.

وَخَلْفَنَا رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ كِسَاءٌ، فكَشَفَ الكِساءَ عنْ رأسِه فَقَالَ: وَلاَ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ؟

فَقُلْنَا: وَمَا ذِكْرُ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ هُنَا؟! وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ.

قَالَ: فَغَفَلْنَا عَنْهُ، فَالْتَفَتَ رَجَاءٌ، فَلَمْ يَرَهُ، فَقَالَ: أُتِيْتُم مِنْ صَاحِبِ الكِسَاءِ، فَإِنْ دُعِيْتُم فَاسْتُحْلِفْتُم، فَاحْلِفُوا.

قَالَ: فَمَا عِلْمُنَا إِلاَّ بِحَرَسِيٍّ قَدْ أَقْبَلَ فقال: أجِيبُوا أميرَ المؤمِنين. فأَتَينا بابَ هشامٍ، فأذن لِرجاءٍ مِنْ بَينِنا، فلمَّا دَخَلَ عَلَيهِ قَالَ: هِيْهِ يَا رَجَاءُ، يُذْكَرُ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ، فَلاَ تَحْتَجُّ؟!

قَالَ: فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ؟

قَالَ: ذَكَرْتُم شُكْرَ النِّعَمِ، فَقُلْتُم: مَا أَحَدٌ يَقُوْمُ بِشُكْرِ نِعْمَةٍ، قِيْلَ لَكُم: وَلاَ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ؟ فَقُلْتُم: أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ. قُلْتُ: فلَمْ يَكُنْ ذَاكَ. قَالَ: آللهِ؟ قُلْتُ: آللهِ.

قَالَ رَجَاء: فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ السَّاعِي، فَضُرِبَ سَبْعِيْنَ سَوْطاً، وَخَرَجْتُ وَهُوَ مُتَلَوِّثٌ فِي دَمِهِ، فَقَالَ: هَذَا وَأَنْتَ رَجَاءُ بنُ حَيْوَةَ؟

قُلْتُ: سَبْعُونَ سَوْطاً فِي ظَهْرِكَ، خَيْرٌ مِنْ دَمِ مُؤْمِنٍ.

قَالَ ابْنُ جَابِرٍ: فَكَانَ رَجَاءُ بنُ حَيْوَةَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ يَقُوْلُ، وَيَتَلَفَّتُ: احْذَرُوا صَاحِبَ الكِسَاءِ. اهـ انظر تاريخ دمشق لابن عساكر [18 /113]

وانظر الخبر أيضا في سير أعلام النبلاء للذهبي، في ترجمة رجاء بن حيوة. [4/561]

وقد فصَّل حكم هذه المسألةِ، الإمامُ النووي رحمه الله، فقال في كتاب (الأذكار) في "باب النهي عن الكَذبِ وبيان أقسامهِ": وأما المستثنى منه [يعني من تحريم الكذب] فقد روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أُمّ كلثوم [بنت عقبة] رضي اللّه عنها؛ أنها سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْراً أوْ يَقُولُ خَيْراً. هذا القدر في صحيحيهما. وزاد مسلم في رواية له: قالت أُمّ كلثوم: ولم أسمعه يُرخِّصُ في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث، يعني: الحرب، والإِصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها. فهذا حديث صريح في إباحة بعض الكذب للمصلحة، وقد ضبط العلماءُ ما يُباح منه.

وأحسنُ ما رأيتُه في ضبطه، ما ذكرَه الإِمامُ أبو حامد الغزالي فقال: الكلامُ وسيلةٌ إلى المقاصد، فكلُّ مقصودٍ محمودٍ يُمكن التوصلُ إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذبُ فيه حرامٌ، لعدم الحاجة إليه. وإن أمكنَ التوصل إليه بالكذب ولم يمكن بالصدق فالكذبُ فيه مباحٌ إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً، وواجبٌ إن كان المقصود واجباً. فإذا اختفى مسلم من ظالم وسأل عنه: وجبَ الكذبُ بإخفائه، وكذا لو كان عندَه أو عندَ غيره وديعة، وسأل عنها ظالمٌ يُريدُ أخذَها، وجبَ عليه الكذب بإخفائها، حتى لو أخبرَه بوديعةٍ عندَه فأخذَها الظالمُ قهراً، وجبَ ضمانُها على المُودَع المُخبِر، "ولو استحلفَه عليها لزمَه أن يَحلفَ ويورِّي في يمينه، فإن حلفَ ولم يورّ، حنثَ على الأصحّ، وقيل لا يحنثُ" وكذلك لو كان مقصودُ حَرْبٍ، أو إصلاحِ ذاتِ البين، أو استمالة قلب المجني عليه في العفو عن الجناية لا يحصل إلا بكذب، فالكذبُ ليس بحرام، وهذا إذا لم يحصل الغرضُ إلا بالكذب، والاحتياطُ في هذا كلّه أن يورّي؛ ومعنى التورية: أن يقصدَ بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه، وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ. ولو لم يقصد هذا، بل أطلق عبارةَ الكذب فليس بحرام في هذا الموضع. قال أبو حامد الغزالي: وكذلك كل ما ارتبط به غرضٌ مقصودٌ صحيح له أو لغيره؛ فالذي له مثلُ أن يأخذَه ظالمٌ ويسألَه عن ماله ليأخذَه. فله أن ينكرَه، أو يسألَه السلطانُ عن فاحشةٍ بينَه وبينَ اللّه تعالى ارتكبَها، فله أن ينكرَها ويقول: ما زنيتُ، أو ما شربتُ مثلاً.

وقد اشتهرتِ الأحاديث بتلقين الذين أقرّوا بالحدود الرجوع عن الإِقرار.

وأما غرضُ غيره، فمثل أن يُسأَلَ عن سرّ أخيه فينكرَهُ، ونحو ذلك. وينبغي أن يُقابِلَ بين مَفسدةِ الكذب والمفسدةِ المترتبة على الصدق؛ فإن كانت المفسدةُ في الصدق أشدّ ضرراً فله الكذبُ، وإن كان عكسُه، أو شكّ، حَرُمَ عليه الكذبُ؛ ومتى جازَ الكذبُ فإن كان المبيحُ غرضاً يتعلّقُ بنفسه فيستحبّ أن لا يَكذبَ، ومتى كان متعلقاً بغيره لم تجز المسامحةُ بحقّ غيره؛ والحزمُ تركه في كل موضعٍ أُبيحَ إلا إذا كان واجباً. انتهى. انظر الأذكار النووية. [1 /480]

قلت: ويشهد للتورية التي ذكرها النووي، ما رواه أبو داود بسنده عَنْ سُوَيْدِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: خَرَجْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ، وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ، فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، وَحَلَفْتُ أَنَّهُ أَخِي، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ الْقَوْمَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَحْلِفُوا، وَحَلَفْتُ أَنَّهُ أَخِي. قَالَ: صَدَقْتَ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ.

وقال الخطيب الشربيني الشافعي، في كتابه: "مغني المحتاج": ولأحد الغريمين إذا كان له على الآخر مثل ماله أو أكثر منه، جحدُ حق الآخر إن جحد الآخر حقه، ليحصل التقاصُّ، وإن اختلف الجنس ولم يكن من النقدين، للضرورة. فإن كان له عليه دين دون ما للآخر عليه، جَحَدَ من حقه بقدره. انتهى من مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج [4 /464]

وفي "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" في الفقه المالكي: إذَا كان شَخْصَانِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقٌّ على الْآخَرِ، فَجَحَدَ أَحَدُهُمَا حَقَّ صَاحِبِهِ، فَلِلْآخَرِ جَحْدُ ما يُعَادِلُهُ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ وَيُحَاشِيَ. اهـ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير [4 /225]

قوله: وَيُحَاشِيَ: أي يستثني بقلبه.

وفي (الموسوعة الفقهية الكويتية): وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ الإْنْكَارُ فِي حَال الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْمَال، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الإْكْرَاهِ. قَالُوا: إِذَا اسْتَخْفَى الرَّجُل عِنْدَ الرَّجُل مِنَ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ الَّذِي يُرِيدُ دَمَهُ أَوْ مَالَهُ، فَسَأَلَهُ السُّلْطَانُ عَنْهُ، فَسَتَرَ عَلَيْهِ، وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ، فَقَال لَهُ: احْلِفْ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَك. فَحَلَفَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي؛ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَدَمِهِ، أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ. أَمَّا إِنْ كَانَ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَقِيَهُ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أُجِرَ فِيمَا فَعَل، وَلَزِمَهُ الْحِنْثُ فِيمَا حَلَفَ. اهـ انظر الموسوعة الفقهية الكويتية [7 /57]

والله أعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين