الحَلِفُ بالله تعالى، والحلف بغير الله

أذعتُها من إذاعة حلب صباح يوم الأربعاء 10 من رمضان 1376، جعلها الله خالصة لوجهه الكريم، ونفع بها قائلها وسامعها.

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد.

فحديثي اليوم عن: الحَلِفِ بالله تعالى، والحلف بغير الله تعالى، وما إلى هذا مما يقع فيه الناس، أو يخطئون في فهمه واستعماله.

إنَّ الحَلِفَ أو اليمينَ في حد ذاته، يراد به تقويةُ عزم الحالف على فعل شيء أو تركه، كما يراد به تقوية صدق الكلام الذي يقوله الإنسان من نفسه أو ينقله عن غيره، سواء أكان ذلك على جهة الإثبات أم النفي، ولا يستطيع الإنسان في كثير من الأحيان والملابسات أن يصل إلى مرتبة التوثيق المطلق الكامل، أو إلى مرتبة الاستيقان التامِّ لما يقوله أو ينقله إلا إذا جاء بمُوثِّق يقوي كلامه ويقطع بصدقه وصحة قوله، وهذا الموثِّقُ المؤكِّد هو اليمين.

وإن أوثق ما يثق به البشر عامة هو الله تعالى، المُنَزَّهُ عن الأغراض، المتجرد عن المؤثرات، الحكم العدل، عالم الغيب والشهادة، لا إله غيره، ولا معبود بحق سواه. ومن أجل هذا كان الحلف غيرَ لائق بعظيمٍ سوى الله تعالى، فهو جلَّ شأنه مصدر العظمة المطلقة، والكمال الأتم، ومصدر الوجود والحياة لهذه الموجودات كلها.

وقد كان العرب قبل الإسلام يحلفون بما يرونه عظيماً عندهم أو في أنفسهم، فكانوا يحلفون بالله تعالى، كما كانوا يحلفون بغيره من آبائهم وأمهاتهم، وباللات والعُزى والأصنام المعظمة لديهم، فلما جاء الإسلام نهاهم عن الحلف بغير الله تعالى، وحرَّم عليهم الحلف بكل ما سواه من بشر أو جماد أو حيوان أو كوكب، حفاظاً على عقيدتهم من لوثات الشرك، وتنزهاً بهم عن أدران الجاهلية ووثنيتها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تحلِفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد - أي الأصنام - ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون.

ومن هذا الحديث الشريف وأمثاله قال العلماء بتحريم الحلف بغير الله تعالى، حتى منعوا الحلف بالنبي، أو بالملائكة، أو بالكعبة، أو بالحياة والعمر، أو بالشرف والأبّ، فهذه الأشياء إذا كان لها قِسطٌ من العِظَمِ والتكريم، فإنَّ العَظَمة الحق والإجلال المطلق مختص به الله تعالى وحده، لا يضاهيه به سواه أياً كان، فلا يحق أن يُحلَفَ إلا به سبحانه.

وإذا وجدنا في القرآن الكريم أن الله تعالى يَحلِفُ ببعض مخلوقاته، فجائزٌ له سبحانه أن يحلف بما شاء منها، ذلك لأن حَلِفَهُ ليس لتوثيق قوله وإثبات صدقه، فإنه سبحانه هو الصادق الأصدق، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلًا﴾، وإنما حَلِفُه بها للتنبيه على خطورتها وشرف مكانها من هذا الوجود، فهو سبحانه حينما أقسم بالشمس أو بالقمر أو بالعصر أي الوقت والزمن، أراد لفت الأذهان إلى عِظَمِ هذه الموجودات العظيمة ليُنبِّهَ البشرَ إليها، ويستفيد الإنسان منها، إذ هي في محل من العِظَم، ومكانة من الخطورة لا يصح أن تبقى معها مغمورة في غيابة هذه الموجودات الزاخرة، ومن هذا كان له وحده سبحانه أن يُقْسِم بها دون سواه.

ثم إن الأصل في الإنسان المؤمن بالله تعالى الصدقُ والثقة، فلا داعي له أن يحلف إلا إذا اضطره إلى الحلف داعٍ مشروع، فإن لم يكن هناك داع مشروعٌ إلى الحَلِفِ، فالحلفُ غير مرغوب فيه أصلاً، وهو حينئذ، أي الحلف، مدعاةٌ للشك أكثرَ منه مدعاة إلى الثقة والاطمئنان، ولهذا قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت. فأشار بهذا إلى أن الأصل في المؤمن أن لا يحلف، لأنه صادق موثوق مؤتمن، فإذا اقتضاه أمر من الأمور أن يحلف، فعليه أن يحلف بالله وحده ولا شيء معه، وإلا فليصمت عن الحلف واليمين صمتاً.

ومن الملاحظ أن الذي يحلف بسبب وبغير سبب ولو صادقاً، لا يكون ليمينه القبول والثقة التي تكون للصادق غير الحالف أو الصادق قليل الحلف، ومن هنا نبَّهَ القرآن الكريم إلى أن من يكون حلّافاً مِكثاراً من اليمين والقَسَم يكون مَهيناً، ويكون غير محلٍّ لأن يقبل قوله، ويطاع كلامه، قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ﴾وهذه الصفة التي هي المهانة، إنما تكون للحلَّاف إذا كان صادقاً غير كاذب، أمَّا إذا كان كاذباً فإن الجزاء لا يقف حينئذ عند الحكم عليه بالمهانة والوضاعة، بل يتعداهما إلى الحكم عليه بأعظم الأحكام عقوبة وشدة، فقد جاء في الحديث الشريف قَرْنُ الحالف الكاذب بالمشرك بالله تعالى وقاتل النفس وعاقِّ الوالدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكبر الكبائر - أي من أكبر المعاصي والذنوب سوءاً وعقوبة - الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدين، وقتلُ النفس، واليمينُ الغموس. أي اليمين الكاذبة. وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ حَلَفَ على مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان. قال عبد الله: ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداق هذا من كتاب الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. وعن هذا قال العلماء: اليمين الكاذبة التي يحلفها الإنسان وهو يعلم أنه كاذب فيها، لا كَفَّارة لها لعِظَمِها وشدَّة جُرْمها، ولهذا قَرَنَها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشرك والقتل العَمْد وعقوق الوالدين، وهذه الأشياء باتفاق العلماء لا كفارة فيها، لأنها لجسامتها وضخامة أثرها السيء بموقعٍ لا تنفع معه كفارة أو فدية.

وإنما الكفارةُ تكون في اليمين التي يحلفها الإنسان على أمر في المستقبل يعزم أن يقوم به، كأن يحلفَ على شيء سيفعله، ثم لا يتمكن من فعله أو لا يرى الخير في فعله فيتركُه، أو يحلفَ على شيء سيتركه، ثم لا يتمكن من تركه أو لا يرى الخير في تركه فيفعلُه، فهذه اليمين هي التي شرع الإسلام فيها الكفارة ورسم لها الفدية، وهي اليمين المُعَقَّدَة، أي التي عقَّدَ - أي صَمَّم - حالِفُها على الفعل فكان منه الترك، أو صمم على الترك فكان منه الفعل، وفيها قال الله تعالى في سورة المائدة: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾، ثم ختم الله هذه الآية الكريمة بالدعوة إلى حفظ اليمين وصيانتها، وذلك بترك الحلف إطلاقاً أو بالإقلال منه ما أمكن، فقال سبحانه: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.

وممَّا هو واضح من نص الآية أن الله تعالى جعل كفارة اليمين أولاً أحد ثلاثة أشياء، فبدأ بأدناها وأيسرها مؤونة وكلفة، وهو إطعام عشرة مساكين ما يقوتهم غداءً وعشاء، ثم عطف عليه ما هو أعلى منه منزلة وأكثر بذلاً، وهو التكفير بكِسْوةِ عشرة من الفقراء فقال: ﴿أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾، ثم أشار إلى أتمِّ الثلاثة وقعاً وأعلاها نفعاً وهو إعتاق إنسان من الرق، فقال: ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة﴾. والتخيير بواحد من هذه الثلاثة يراد منه التيسير على الحالف من ناحية، فيكفَّرُ بما يستطيعه منها، كما يراد منه من ناحية ثانية بيانُ عِظَمِ الحِنْثِ في اليمين حتى إنَّها لتستحق أن تكون كفارتها إعتاق رقبة وتحرير إنسان، وهذا كله لمن كان يستطيع التكفير بأحد هذه الثلاث، فإذا كان لا يستطيع واحداً منها، فعليه حينئذ أن يصوم للتكفير عن يمينه ثلاثة أيام، وذلك قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّام﴾.

ويخطئ بعض الناس فيظنون أن كفارة اليمين هي صيام ثلاثة أيام على كل حال، وبالنسبة لكل إنسان، أي سواء أكان مستطيعاً الكفارة بالإطعام أو الكسوة أو الإعتاق، أو غير مستطيع، وهذا ظنٌّ خاطئ وعمل غير صحيح، فالكفارة بالصوم لا تجوز إلا عند العجز عن أحد الأنواع الثلاثة التي ذكرها الله تعالى قبل الصوم.

ومن الخطأ الذي يرتكبه بعض الناس أيضاً أن يحلف أحدُهم على شيء استُحلِفَ عليه، فيحلفُ وهو ينوي في نفسه غيرَ ما يُستَحلَفُ عليه، ويظن في وهمه أنه بمنجاة من الكذب والمؤاخذة، ألا فليعلم هذا الحالف وأمثاله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اليمينُ على نية المُستحْلِف". ثم ليعلم هذا الكاذب المخادع أنَّ يمينه هذه هي اليمين الغموس التي لا كفَّارة فيها، وأنه بسلوكه هذه الطريقة الضالة لم يكن بمنجاة من عقاب الله وسخطه، وأنه قد دخل تحت قوله تعالى في ذم المنافقين الذين يظهرون شيئاً ويبطنون شيئاً آخر، ثم يحلفون على ما يبطنون، إذ يقول الله فيهم في سورة المجادلة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من كتاب" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة محمد زاهد أبو غدة

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين