الحكم الصالح -3-

أقسام الحكام: 

لقد قسم العلماء الحكام إلى أربعة أقسام:

أولهم وأعدلهم: هو من يغضَبُ لله، ولا يغضب لغيره، ولا يبغي سواه، وهو يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا يغضب قط إلا أن تنتهك حُرُمات الله، فإذا غضبَ لذلك لا يَسكن غضبه إلا أن يُقام حد الله (1).

وثانيهم: مَن يَغضَبُ لنفسه ولا يَغضب لله، وهذا أفسد الحكام وأقساهم على أهل الحق من الناس، إلا أن يحطُّوا على رضاه، وبذلك يخرجون من الخير إلى الشرِّ، إذ يحطُّون على هواه.

وثالثهم: من يغضبُ لله ولنفسه، وهذا خَلَط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وهو آثمٌ في غضبه لنفسه مثوبٌ في غضبه لله، ويخشى أن يغلب غضبه لنفسه، وأنَّه يروى أن بعض الحكام الصالحين حاول أن يؤدب عاصياً غضباً لله، فشتمه العاصي، فغضب، ولكنه خشي على نفسه من أن يكون تأديبه لغضبه لنفسه فعفا عنه، وذكر له أنه لا يريد أن يحكم لأنه غضب لنفسه.

ورابعهم: من لا يغضَبُ لا لله، ولا لنفسه، وهذا الصنف لا يكون إلا فيمن كانوا هُبلاً لا يحسُّون بتبعية الحكم، وغايته، ولا بحق أنفسهم، ومثل هؤلاء لا يصلحون لأن يكونوا حكَّاماً، بل لا يصلحون لأن يكونوا رعايا صالحين، بل هم كالأنعام أو أضل سبيلاً.

وإنَّ الحاكم إذا كان لا يغضب إلا لله، يقيم العدل، ويَحكم بالقسطاس المستقيم، ويكون بالناس رفيقاً إلا أن يقيم حداً من حدود الله، أو يقمع ظالماً، أو يدفع فساداً، فعندئذ يُنفذ حكم الله، وليجد أهلُ الشر في حكمه غِلظة، وأمَّا الآمنون من رعيَّته، فلا يكون منه لهم إلا أن يحفظ أمنهم، ويخفف الويلات عنهم، ويكون منه الرفق الدائم بهم، لا يسُومهم العذاب من غير حكم من الله، ولا يُسلط عليهم أهل الدَّعارة والفساد، من الممالئين العابثين، الذين لا يرجُون للأخلاق خيراً، ولا يُريدون الناس إلا بالشرّ.

هذا إذا كان لا يغضَب إلا لله، فلا يكون منه إلا ما ذكرنا سلباً وإيجاباً، وإن كان يغضب لنفسه فقط، فسيكون من الويل والثبور، لمن يكنون فريسة غضبه، وموضوع السِّعايات التي يفتح لها أذنيه، ولا يعلم إلا من طريقها التي لا تكون خيراً للناس، بل هي شرٌّ مستطير عليهم، يَعمُّهم، ولا يَخُصُّ الأشرار منهم، وينزل نقمته بمن يتوهَّم خلافهم، فيصبُّ عليهم سوط العذاب، ويشقُّ على الكافَّة حكمته، فتضيق النفوس، وتَضطرب الأفئدة، ولا يحسُّ أمينٌ بأنه آمن في سربه. وأهل الشرِّ، يرتعون ويمرحون، ولا حساب عليهم إلا أن يكافئوا على شرِّهم، وأن يجازوا على سعاياتهم (2).

لقد قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من وَلي من أمر أمتي شيئاً فرَفَق بهم فارفق به، ومن وليَ من أمر أمتي شيئاً فشقَّ عليهم، فاشقق عليه) (3 ).

والرفق هو الرفق بالأبرار، والمشقة تكون على الأخيار، فمن رفق بهؤلاء، فإنَّ ذلك يكون قوة للأمة وللحق، وللفضيلة وللخير، ولذلك يستحقُّ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومن شقَّ على هؤلاء كانوا في فزع دائم، وهمٍّ غالب، وضعفت النفوسُ، واستهان الأشرار بالأخلاق والفضيلة والإسلام، وصار المستمسك بإيمانه وخلقه وإخلاصه سخرية الساخرين، وعبث العابثين، وبذلك يستحق من يفعل ذلك دعاء النبي بأن تستولي عليه المشقة، وإنها نازلة به في الدنيا، فلا يوفق في عمل يبتغيه، ويشقى في تحقيق مآربه، جزاءً وفاقاً لما أنزله بالناس من مشقَّات، وما كرثهم من كوارث، ولأنه إذا أخاف الأبرار، فقد امتنع عن سماع النصيحة، ليفسد أمره، ويضطرب حاله، ناهيك بما يلقاه من التَّهلكة، ولا يغنيه إلا ثناء  الذين تغذوا على مائدته الأثيمة، والله تعالى أعلم بما تخفي النفوس.

-----------------

(1) روى البخاري (6404)، ومسلم (4294) من حديث عائشة رضي الله عنه قالت: ما خيِّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حُرمات الله، فينتقم لله. وروى مسلم (4296) عن عائشة رضي الله عنها، ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عزَّ وجل.

(2) يلاحظ من تاريخ كتابة هذا المقال الرائع سنة 1390هـ -1970م، من يريد بهؤلاء الحكام الذين يغضبون لأنفسهم، ويسومون أمتهم الخسف والهوان، وقد كتب الشيخ رحمه الله تعالى مقاله ونشره في مجلة (الفكر الإسلامي) اللبنانية في الوقت الذي منعه جمال عبد الناصر من الكتابة في المجلات المصرية.

(3) أخرجه مسلم (1828) في الإمارة من حديث عائشة، ولفظه: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن و لي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين