الحق من محكمات القرآن الكريم

 

هذا موضوع من أعظم موضوعات الإسلام، ومن أجلّ علوم القرآن، عشتُ معه في ظلال الآيات أياماً ولمّا أصِلْ إلى عُشْرِه، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جُلّه، فتعالوا بنا نَسْبحْ مع الحق متأسين بسيد الخلق حيث ناجى ربه بثناء عجيب ضمَّنه لبَّ العِلم وأصله:

 

عن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :"كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَقَوْلُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ قَالَ سُفْيَانُ وَزَادَ عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" أخرجه البخاري

 

إنها أنوار النبوة هنيئاً لمن أصاب منها، إنه رسول الحق الذي جاء بالحق من الحق سبحانه { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } .

 ولا عجب إذ خُلقُه القرآن ،القرآن الذي ذكر الحق بمشتقاته نحواً من 283 مرة ،فإن القرآن يُنْبتُ الإنسانَ بالحق ويسقيه الحقيقة.

 

فالله من أسمائه الحق: قال الله عز وجل: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}، والرسول حق: {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ }، والدين والقرآن حق ومن أجل الحق: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}،وقال عز من قائل: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} ،ويوم القيامة عين الحق:{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} ، والمثول بين يدي الله للثواب أو العقاب يوم الحساب هو الدين الحق:{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} أي جزاءهم الثابت لهم بالعدل.

أنّى قلبت عينيك في كتاب الله أو سمعت بأذنيك فستعيش مع الحق الذي يدور مع الإسلام، بل هو قانون الحق يسري في الوجود: { خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ }، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}.

وهكذا يملأ القرآن حياتك بالحق، لأن الحق رسالة الرسل جميعاً: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيه}.

 

هذه الرسالة ستواجه معركة شرسة، ولن تنهض الأمة إلا بدعاة ينادون بالحق ولا يخافون في الله لومة لائم، ويبلغون رسالة الله ولايخشون أحداً إلا الله، فكان لزاماً أن تُعَدَّ طائفةٌ تَثْبتُ أمام عواصف الباطل صِفتُهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، وسَمْتُهم: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً}،

وهم الذين يبذلون أرواحهم دفاعاً عن الحق، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ »أخرجه مسلم.

 

 " فلا بد من إعداد هذه الطائفة أفراداً وجماعات فإن أحدهم سيقول كلمة الحق التي تكلفه حياته " عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ». أَوْ « أَمِيرٍ جَائِرٍ »رواه أبوداود والترمذي وغيرهما وفي رواية جعله النبي مع سيد الشهداء.

 

لهذا أولى القرآن اهتماماً عظيماً في معركة الحق ضد الباطل، من ذلك قولُه جلّ وعلا:{ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ }،وقال الله سبحانه:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ...}،وقال :{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}، وقال:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}.

هذا ليقوم أهل الحق بعملهم وهم مستبشرون، فإن الباطل مهزوم مهما طال، وإن الحق منتصر وإن قل أتباعه.

وإن إقامة الحق تتطلب أشخاصاً لهم سمات خاصة ليقوموا بمهمتهم العظيمة أهمها: الثبات والصبر، ولنا في الأنبياء نماذج واضحة، وقد حفل القرآن بهم، وبمواقف كثيرة لأهل الثبات من غير الأنبياء كأصحاب الأخدود .

ومن صفات أهل الحق القوة، لأن إقامة الحق والجهر به يتطلب شجاعة وإقداماً، ومما يعين على ذلك استحضار معية الله، كما ورد عن سيدنا موسى وهارون حين جاءهما الأمر بالذهاب إلى الطاغية فرعون {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}،

 

 وانظر - رحمك الله - إلى ما ورد عن العِزِّ بنِ عبدِ السلام حين طلب منه أن يُقبِّلَ يدَي الملك إسماعيل، وكان قد خرج العز مُغاضباً إلى مصر (639 هـ)، فأرسل إليه الصالح أحدَ أعوانه يتلطف به في العود إلى دمشق، فاجتمع به ولايَنَهُ ، وقال له: ما نريد منك شيئاً إلا أن تنكسر للسلطان ، وتقبّل يده لا غير. فقال له الشيخ بعزة وإباء العالم المسلم: "يا مسكين! ما أرضاه يقبّل يدي فضلاً أن أقبّل يده! يا قوم، أنتم في واد ونحن في واد، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم" طبقات الشافعية الكبرى) ،(حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة).

 

 وحين سألوه كيف لم تخف الحاكم - عندما أنكر على السلطان أيوب وكان في أبهة الملك وبين عساكره- قال : "استحضرت هيبة الله تعالى فصار السلطان قدامي كالقط" طبقات الشافعية الكبرى.

وأكثر ما نخشاه في رسالة الحق ذاك الادعاء المخادع ممن عناهم القرآن بالمُلَبِّسين حيث ذكر سبحانه :{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}، فإنهم الخطر الذي يُضَيّع الحق، ولكن أبشروا فإن تلبيس الباطل لن يُطفئ نورَ الحق، وكتمانُ الحق لن يحول دون ظهور شمسه.

 

بعد هذا التطواف السريع عن موضوع الحق، لعلي وضعتُ مفتاحاً للتذكر النافع، وكما قيل يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين