الحرية في الإسلام

جاء الإسلامُ باحترام الشخصيَّةِ الإنسانيَّة، ومن تعاليم القرآن والسنة يبدو بكل جلاء أنَّ الإسلام لا يرى قيمةً للحياة الإنسانية بدون الحريَّة، ومن هنا جاء حقُّ الحرية من الحقوق الطبيعية للإنسان... فالحرية فطرةٌ فَطَرَ الله الناسَ عليها، وهي ضرورة لكل إنسان، كضرورة الهواء للرئتين والضوء للعينين، والروح للجسد..

ومن ثَمَّ فقد جاء الإسلام ليطلق حريَّة الإنسان، ويحميها من العبث، سواء في ذلك الحرية الدينيَّة أو السياسيَّة والفكرية، وغير ذلك من الحريات التي تعدُّ مُقوِّماً من مقومات الشخصية الإنسانيَّة.

ولنلقِ نظرةً على كل نوع من هذه الأنواع:

الحريَّة الإنسانية:

قرَّر الإسلام أتمَّ تقرير وأوضحه أنَّ الإنسان غير مملوك لأحد لا في نفسه ولا في بلده ولا في أمَّته... فالإنسان منذ ولادته يُولد حُراً لا يملكه أحد، وفي هذا يقول عمر قولته المشهورة لعمرو بن العاص: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!!.

والإنسان لا يُوصف بالعبودية لأحدٍ من الناس، ولكنه يُوصف بالعبودية لله وحدَه خالق الحياة وما فيها ومن فيها، فالله هو الذي أوجد الإنسان وهو رب العالمين: [قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ] {الملك:23}. [وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ] {النحل:53}.

[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ] {إبراهيم:34}.

ومن هنا كان شعارُ المسلم دائماً: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، وعلَّم الإسلام المسلم أن يُردد في اليوم والليلة ما لا يقل عن سبع عشرة مرة، هي عدد ركعات الصلوات الخمس المفروضة وذلك حين يقرأ فاتحة الكتاب في صلواته فيقول: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}.

ومن هنا كان أشرف وصف لرسل الله وأنبيائه وصفِهم بالعبودية: [وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ] {ص:17}. وفي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ...] {البقرة:23}. ومن هنا كان أعظم نسبة لمؤمن هي نسبة العبودية لله رب العالمين:

ومما زادني شرفاً وعــــــــــــزاً=وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي=وأن صيَّرت أحمد لي نبيـــا

والأمَّة المسلمة حرَّة في وطنها، لا تَستعبدها أمَّةٌ أخرى، فإذا اعتُدي عليها، وسُلبت حريتها، كان ذلك عدواناً لا يُدانيه عدوان، وظُلماً يوجب على الأمَّة المُسلمة أن تهبَّ لدفع هذا الظلم: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] {الحج:39}. [انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {التوبة:41}.

فإذا تَقَاعست الأمَّة عن هذا الواجب، عُوقبت في الدنيا بالذلَّة والهوان، وفي الآخرة بعذاب من الله أليم: [إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {التوبة:39}.

وإذا رضي بعض المسلمين أن يُقيموا على الذل دون أن ينحازوا إلى إخوانهم الأحرار في وطنهم المسلم، كان ذلك ظُلماً من هؤلاء المُتقاعسين يُعاقبون عليه بالعذاب وسوء المصير: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] {النساء:97}.

والأمَّة المسلمة المُعْتدى على حريتها إذا قَاومت الظلم والعدوان، فإنَّ الله يُكافئها على ذلك بالحرية الكريمة والنصر المبين: [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ] {القصص:5}.

وعلى الأمَّة المسلمة الحرَّة أن تهُبَّ لنجدة المستضعفين من المسلمين، المُعْتدى على حريتهم، لتعيدَ إليهم حريتهم وتدفع الظلم الواقع بهم: [وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ] {النساء:75}.

تلك هي مبادئ الحرية الإنسانية في الإسلام، حقاً للفرد والأمة، وحمايتها حقٌّ واجب على الأفراد والدولة.

إنَّ أبرز مَظهر من مَظَاهر حرية الإنسان، حريته فيما يَدين به من دين، ذلك أنَّ الدين عقيدة تستقرُّ في القلب، ويطمئنُّ إليها العقل، فكل جو لا تكفل فيه حرية العقيدة يعتبر عُدواناً على الحرية الأساسية للإنسان، ومن ثَمَّ فهو عدوان على الإنسان نفسه، أشدُّ خطراً، وأبلغ إيذاءاً من العدوان على جسمه أو ماله.

والإسلام يُقرِّر حق الحرية الدينية على أسس تكفل قيام هذه الحرية ووجودها فعلاً لا دعوى فهي:

1 ـ تُحرِّر العقل من الخُرافات والأوهام ليتيسر للعقل أن يَختار العقيدة الصالحة.

2 ـ وتُحرِّر الإنسان من سلطان التقليد بغير تدبر، وتنهاه عن اتباع آبائِه وأقوامه في دينهم دون أن يفكر في شأن هذا الدين الذي اتبعوه تفكير الأحرار المستقلين: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ] {البقرة:170}.

وطلب الإسلام من الإنسان أن يستعمل عقله ليهتدي إلى أعظم حقيقتين في هذا الوجود: الحقيقة الأولى: وجودُ الله ووحدانيته، فوجود الله عزَّ وجل كما تهدي إليه الفطرة السليمة، يقتضيه كذلك النظر الصحيح، والعقل الصريح، ولا غرو إذ أقام القرآن الأدلة من الكون ومن النفس على وجود الله سبحانه وتعالى: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] {آل عمران:190}.

والحقيقة الثانية: ثبوت الوحي والنبوة والرسالة، فالعقل هو الذي يثبت إمكان ذلك، ذلك أنَّ العقل بعد اقتناعه بوجوده تعالى وكمالِه سبحانه ـ يعلم أنَّ من تمام حكمة الحكيم، ورحمة الرحيم ألا يترك عباده سُدى، وألا يدعهم في بحر لُجِّي من الجهالة والعَمَى والغي، وهو قادر سبحانه على أن يهديَهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور عن طريق رسله.

والعقل ينظر في سيرة كل شخص يدعي الرسالة ويتأمل في صفاته وأخلاقه وأقواله وأعماله... من أجل ذلك احتكمَ القرآن في إثبات صدور رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العقول المُفكِّرة، فقال في صرامة ووضوح: [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ] {سبأ:46}.

وأخيراً يعلن الإسلام حرية الاعتقاد لأهل الكتاب ونحوهم لا للوثنيين والملحدين: [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ] {البقرة:256}. [أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] {يونس:99}.

فغير المسلمين من أهل الكتب السماوية يُتركون وما يَدينون، ولا يُجبرون على تنفيذ شريعتنا فيما لهم فيه من تشريع خاص كقضايا الزواج والطلاق والنفقة، ولقد كان تاريخ الإسلام مُنفِّذاً لهذا المبدأ في جميع عصوره بلا استثناء.

ومن أراد أن يعرف فضل الحرية الدينية، ويعرف سماحة المسلمين على بصيرة فليقرأ ماذا فعلته الأديان والعقائد الأخرى مع مخالفيها على مدى التاريخ؟ بل ليقرأ موقف أصحاب العقائد اللادينية الحديثة، ودعاة الثورات الانقلابية في القرن العشرين؟ ليرى ماذا فعلوا بخصومهم؟ وكيف عاملوا مخالفيهم في المذهب والاتجاه؟!

بل ماذا صنعوا ويصنعون بزملائهم في الفكرة، ورفقائهم في الكفاح، إذا خالفوا عن رأيهم، أو فكروا غير تفكيرهم؟.

أجل، ليقرأ بإمعانٍ ماذا سجَّل التاريخ للمسلمين حينما فتحوا الأندلس بالعلم والنور وأقاموا حضارة باهى بها التاريخ، ليقرأوا وليدرسوا كيف يعيش المسلمين في عصرنا هذا ـ عصر النور والحضارة ـ الأمم المتحدة، والمحافل الدولية، وحقوق الإنسان في البلاد التي تحكمها حكومات نصرانية مُتعصبة، أو شيوعية ملحدة، أو هندوسية متزمتة...

لينظروا إلى المسلمين في الحبشة مثلاً وما يقاسونه من عنت واضطهاد وإهدار للحقوق الإنسانية، مع أنهم يكونون أغلبية السكان ولهم أقاليمهم خاصة لا يشاركهم فيها غيرهم.

ولينظروا كذلك إلى المسلمين في سوريا أو يوغسلافيا أو الصين أو غيرها من البلاد الاشتراكية الماركسية.

ولقد ارتكب الشيوعيون في روسيا من الفظائع والمذابح عند القيام بثورتهم وبعدها مما لا يَخطر ببال وما يَفوق كل خيال، حتى إنَّ بعض مُعاوني لينين مؤسس الدولة الشيوعية الأولى في هذا العصر أخذوا يتذمَّرون من التضحيات الكبرى بدماء الأرواح، وكان جوابه بكل بساطة: ليس للأمر أهمية أبداً إن ماتَ ثلاثة أرباع الإنسانية، إنَّ ما يهمنا هو أن يصبح الربع الباقي شُيوعياً.

أما ما وقع في عهد ستالين من مَجَازر وفظائع، وما شَهِده الشعب من حمَّامات الدم، فحدث ولا حرج. وما حدث في عهد خرشوف مما لا يتسع المجال لذكر نماذج منه.

أما المسيحية التي تدعو إلى المحبَّة والسلام، فقد أنزلت بالمُخالفين لها من ضروب العُنف، وصُنوف القسوة ما تَقشعرُّ منه الأبدان.

فقد حكمت الكنيسة على المسلمين (أعداء الله؟) بطردهم من اشبيلية وما حولها إذا لم يقبلوا المعمودية، بشرط أن لا يذهبوا إلى طريق يؤدي إلى بلاد إسلامية! ومن خالف ذلك فجزاؤه القتل.

أما الحملات الصليبية فإنَّ القرن العشرين بتجاربه الانقلابية (على ما فيه من وحشية كالانقلاب الشيوعي والنازي) يعجز من فظائعها حتى جعلت من أجساد ضحاياها من المارقين كطريقة تسميد الأرض، إنهم في كل العصور سفاكو الدماء، وعبدة القوة، ووحوش الأدغال، وما مثلنا ومثلهم إلا كما قيل:

ملكنا فكان العفو منا سجيةً=فلما ملكتم سال بالدم أبطح

وما عجبٌ هذا التفاوت بيننا=فكل إناءٍ بالذي فيه يَنضح

ومن هذه الحريات التي قرَّرها الإسلام للإنسان الحريَّة العلمية: فقد فَتح الإسلام آفاقَ الكونِ كلَّه، أرضه وسمواته، بجميع عَوالمه المُتعددة، أمام العقل ليفكر فيه ويتدبره، وأنَّ الإسلام جعل أساس الوصول إلى الحقائق العلمية المُتصلة بهذه العوالم هي التجربة، والتفكر، والخبر الصادق، ونتيجة هذا كله انفتح أمام العقل طريق البحث العلمي المُجرَّد من كل قيد يحول دون انطلاقه.

وهذا هو الذي وقع في تاريخ الإسلام، وكان أول حرية يَنالها العالم في ظل الديانات... استطاع العقل بهذا الجو العلمي الحر أن يَنطلق في مَيادين الآداب والفلسفة والعلوم، وأن يَجتهد ويَستنبط من نصوص الشريعة، وأن يتدبَّر في الكون وأحداثه، وفي هذا الجو العلمي الحر، والجو الفكري المنطلق، نشأت المذاهب، وتعدَّدت الآراء، وكَثُرت المدارس الفكرية، وتنوَّعت الحلقات العلمية, وابتدأت حلقات العلم تنمو في ظلِّ الإسلام، في كل نواحي العلوم وفروعها، وانطلقت من المساجد والمدارس التي أنشئت بجانبه، مما كان له أكبر الأثر في ازدهار العلوم والآداب، وسأذكر أهمَّ الميادين التي استعمل فيها العقل وتعددت فيها الآراء والمدارس الفكرية.

ففي تفسير القرآن الكريم، قامت الآراء المختلفة في تفسير كثير من كلماته وآياته.

وفي الحديث الشريف نشأت علوم كثيرة وآراءٌ مُتعدِّدة.

وفي تشريع الأحكام تعدَّدت المذاهب الاجتهادية تعدداً جعل من الفقه ثروةً تشريعية لا مثيل لها في أمَّة من الأمم، وفي التاريخ اتبع كل مؤرخ ما صحَّ عنده من الأخبار وما صحَّ لديه من الأخبار.

وفي الأدب من نحوٍ وصرف، وشعرٍ ونثر، ولغةٍ وقوافي فقد تعددت الآراء في كثير من أبحاثها، وحسبنا مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة في النحو.

وفي الفلسفة ما بين حفيٍّ بها ومدافع عنها، وما بين مُهاجم لها معرض عنها.

وفي الطب والعلوم الطبيعية، وفي الفلك، والأجرام السماوية وفي الأخلاق إذ قامت المدارس والمراصد.

وكل ذلك يدل على الحرية العلمية التي عاشت في ظل الإسلام ولم يكن هناك سلطة دينيةٌ أو سياسية تحظر هذه الآراء أو تحكم على أصحابها بالإعدام والإحراق، بل كان ميدان هذه العلوم هو المدارس والكتب والحلقات والمجالس العلمية لا السيف ولا السجن.

فكم هو الفرق كبير بين حرية العلم في الإسلام الداعية إلى البحث والتفكير والإبداع وبين روح الكنيسة في قرونها المُظلمة وأيامها الحالكة، وجهالتها المُغْرقة على يد رجال الأكليروس الذين يُعطون لآرائهم وأفكارهم من القداسة والنزاهة ما يعطى لأقوال السيد المسيح عليه السلام.

وإليكم آخرَ خبر يدل على استبدادهم العلمي:

فقد جاء في أخبار مجلة يصدرها معهد المخطوطات هذا الخبر: تم حديثاً بطريق الصدفة حينما اصطدمت سيارة بجدار منزل قديم فهدمته اكتشاف مجموعة كبيرة من المخطوطات والوثائق العربية، كانت داخل الجدار وذلك في بلدة ماراكو بمقاطعة فلنسيا في اسبانيا، وقد اجتمعت الدوائر العلمية بإسبانيا بهذا الكشف وتم نقل هذه المخطوطات إلى المكتبة العامة لمدينة فاراكو)

هذه الحرية العلمية في ظل المذاهب الوحشية التي شنَّها الحقد الصليبي على المسلمين مما دفعهم إلى إخفاء كتبهم بين جدران بيوتهم، خشية من إحراقها ودفاعاً عن أنفسهم من القتل والتعذيب.

الحرية السياسية:

ومن الحريَّات التي قررها الإسلام الحرية السياسية وتتجلى هذه الحرية في الأمور التالية الرئيسية:

1 ـ حرية اختيار رئيس الدولة (الخليفة أو أمير المؤمنين) فإنَّ أهل الحل والعقد هم الذين يتولَّون اختيارَه، فإذا اتفقوا على شخص منهم، بايعوه على السمع والطاعة والنصرة، والطاعة المفروضة له ليست طاعةً لشخصه، وإنما هي لشريعة الله التي يقوم على تنفيذها، فرئيس الدولة في الإسلام ليس إلا خَادماً للمسلمين، ومن هنا جاء قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه أول ما ولي الخلافة: إنما أنا واحد منكم.

2 ـ وأعطى الإسلام حرية إبداء الرأي بالشورى، التي هي مظهر الحكم في النظام الإسلامي، كما قال تعالى:[ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] {الشُّورى:38}.

وأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالشورى، فقال سبحانه: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ] {آل عمران:159}. فقد أذن له صلى الله عليه وسلم بالاستشارة وهو غني عنها بما يأتيه من وحي السماء تطييباً لنفوس أصحابه، وتقريراً لسنة المشاورة من بعده:

أخرج البيهقي في (الشعب)، بسند حسن عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنَّ الله ورسوله لغنيان عنها ـ أي: عن الشورى ـ ولكن جعلها الله رحمةً لأمتي، فمن استشار منهم لم يُعدم رشْداً، ومن تركها لم يُعدم غيَّاً".

ولقد طبق ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته السياسية والحربية كما هو معلوم في معركة بدر وأسراها.

3 ـ ومن الحرية السياسية حرية نقدِ الحاكم ومراقبة أعماله.. وحرية الإنسان في نقد الأوضاع والأنظمة والاتجاهات والتصرفات دون أن يخشى على نفسه وأهله من مخالب الإرهاب والتعذيب والاضطهاد.

وأول من ضرب المثل لهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته الأولى بعد الخلافة: (إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني)، ويتجلى هذا المبدأ واضحاً في تصرفات الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلقد كان يعارض في تصرفاته وأقواله ولا يجد غضاضة في معارضته، بل إنه كان يقبل الاتهام بصدر رحب، ويناقش من يتهمه، حتى يقنعه أو يستغفر الله عما فعل:

روي في ذلك أنَّه جاءته غنائم فيها ثياب، ومن بينها ثوب ممتاز بجودته، فأعطاه لشاب تقي، فظنَّ سعد بن أبي وقاص ذلك مُحاباة، فحلف سعد ليضربنَّ رأس عمر بثوبه الذي وُزِّع عليه، وقال لأمير المؤمنين: أتكسوني البرد (أي الثوب) وتكسو ابن أخي ثوباً أمسنَ منه؟، فقال الفاروق: يا أبا إسحاق كرهت إن أعطيته أحدكم، فيغضب الآخرون، فأعطيته فتى نشأ نشأة حسنة، لا يتوهم أحداً أني أفضله عليكم. فقال سعد: لقد حلفت أن أضرب رأسك بالبرد الذي أعطيتني، فمال عمر برأسه وقال: رأسه عندك يا أبا إسحاق، وليرفق الشيخ بالشيخ فضرب رأسه بالثوب.

وهكذا نجد أنَّ الإسلام قد كفل الحرية السياسية للأمة بطريقة تبقي على الأمة حريتها الكريمة بجو من الحزم والجدِّ، ووضع الأمور في مواضعها.

الحرية الاجتماعية:

ومن هذه الحريات التي قرَّرها الإسلام (الحرية الاجتماعية) ويعني بها حرية النقد الاجتماعي لكل إنسان، وهو ما يسمى (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فالحكم الشرعي أنَّ من رأى مُنكراً فعليه أن ينكره بيده إذا استطاع، فإن لم يستطع فعليه أن يُنكر ذلك بلسانه، فإن لم يستطع بأن كان مَقهوراً مغلوباً على أمره فعليه أن ينكر ذلك بقلبه.

والأصل في ذلك ما رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

هذه خطوط عريضة ألمحت إليها لأنواع الحرية في الإسلام.

وينبغي أن لا يختلط الأمر بين الحرية بهذه المعاني، وبين الحرية المنطلقة من كل قيد، فتلك هي حرية العقلاء، وهذه حرية السفهاء، ولسنا نجد في الدنيا حريةً لا تقيدُ بقيدٍ، ولسنا نجد مُجتمعاً لا يقيد تصرفات الأفراد بقيودٍ تضمن كرامةَ المجتمع وعدمَ انتقاصِ حريته.

وليست الحرية كما يظنها كثيرٌ من الشباب أن ينطلق الإنسانُ وراء أهوائِه وشهواته، يأكل كما يشاء ويفعل ما يشاء، ويحقق كل ما يهوى ويريد، فتلك هي الفوضى أولاً، والعبودية الذليلة أخيراً.

أما إنها فوضى فلأنه ليس في الدنيا حيرة مطلقةً غيرُ مقيدة بنظام، بل كل شيء في الدنيا له قانون يسيِّره، وينظمه، وحرية الفرد لا تُصان إلا حين تتقيد ببعضِ القيود لتسلم حرية الآخرين.

وكيف لا يحمي الإسلام حقَّ الحياة للإنسان، وقد حَمَى حياة الحيوان إذا لم يكن منه أذى للناس، وفي الحديث الصحيح: (أنَّ امرأة دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).

وفي حديث آخر: (لولا أنَّ الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها)، يشير إلى قوله تعالى: [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ] {الأنعام:38}.

فإذا كان هذا في شأن القطط والكلاب واحترام حياتها، واعتبارها أمماً أمثالنا، فكيف تكون منزلة حياة الإنسان المكرم، خليفة الله في الأرض؟.

حقُّ الكرامة وحماية العرض والإنسان:

أكَّد الإسلام على حرمة العرض والكرامة للإنسان، مع حرمة الدماء والأموال، حتى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أعلن ذلك في حجة الوداع أمام الجموع المحتشدة في البلد الحرام، والشهر الحرام، واليوم الحرام:

روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه: إنَّ الله حرَّم عليكم دماءَكم وأعراضكم وأموالكم)، بل لقد وصل الإسلامُ برعاية كرامة الإنسان وحرمته إلى حدِّ التقديس فقد روى الترمذي: "أن عبد الله بن عمر نظرَ يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وما أعظم حُرمتك، والمؤمن أعظم حرمة منك).

فلا يَجوز أن يُؤذى إنسان في حضرته ولا أن يهان في غيبته، سواءً أكان هذا الإيذاء للجسم بالعقل أم للنفس بالقول، فكما حرم الإسلام أشدَّ التحريم أن يضرب إنسان بغير حق، وأن يجلد ظهره بغير حد، وأنذر باللعنة من ضرب إنساناً ظلماً، ومن شهده يضرب ولم يدفع عنه. وبهذا حمى الإسلام بدن الإنسان من الإيذاء.

وكذلك حرَّم الإسلام الإيذاء الأدبي للإنسان:

حرَّم الهَمْز واللمز والتنابذ بالألقاب، والسخرية والغيبة، وسوء الظن بالناس، وأنزل الله في ذلك آيات تتلى في سورة الحجرات، وبذلك حَمَى الإسلام نفس الإنسان من الإهانة.

ولم يكتفِ الإسلامُ بحماية الإنسان في حالة حياته، فكفل له الاحترام بعد مماته، ومن هنا جاء الأمر بغسله وتكفينه ودفنه، والنهي عن كسر عظم أو الاعتداء على جُثَّته خلافاً للأمم التي تَحرق جثث موتاها:

وفي هذا جاء الحديث الصحيح الذي يرويه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم الميت ككسره حياً).

وكذلك حفظ الإسلام عِرْض الإنسان: روى ابن أبي حاتم والبيهقي عن عائشة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أتدرون أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم)، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا] {الأحزاب:58} .

وأشدُّ من هذا هو رمي المؤمنات العفيفات بالفاحشة؛ لما فيه من ضرر بالغ بسمعتهن وسمعة أسرهن، وخطر على مُستقبلهن، فضلاً عما فيه من حبِّ إشاعة الفاحشة في المُجتمع المؤمن، ولذا عدَّه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من الكبائر السبع الموبقات، وأوعد القرآن عليه بأشد الوعيد: [إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الغَافِلَاتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ(25)]. {النور}.

[إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {النور:19}.

إنَّ الإنسان بلا إسلام يعيش حياة الألم مهما أخذ من اللذة العابرة، وإنَّ الإنسانية بلا إسلام تدمِّر نفسها، وتهدم سعادتها، وتعيش حياة الشقاء الدائم.. ولن يحفظ على الإنسان نفسه ودمه، وعرضه وكرامته ونسله إلا إذا كان الإسلام قائماً، والمسلمون أوصياء على العالم.

ففي عصرنا هذا الذي يُقال له: عصر الإنسانية والمدنية، نجد إبادة الملايين في صورة من الإرهاب والمطاردة والتشريد المرعب...

وفي روسيا قتل الملايين من أجل تنفيذ الشيوعية..

وفي أمريكا بلد الديمقراطية الزائفة والتقدمية الموهومة، يباد شعب بكامله في بلاده الأصلية ويمحى من الوجود إنه شعب الهنود الحمر الذي لا يعلم أحدٌ مأساته في أمريكا.

والقنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما لتحيل حياة الإنسان كتلاً من اللحم وأنهاراً من الدم وأكواماً من الرماد...!!

أيَّة احترام للإنسان من تشريد مليوني إنسان آمن مطمئن في وطنه فلسطين ليبيت معذباً تحت كل سماء مطارداً فوق كل أرض...!!

أهذه هي الإنسانية... والغاز القاتل الذي يتسلَّل إلى أجواء الإنسان ليودع الحياة خنقاً في غير إشفاق ولا رحمة!!.

والأسلحة الميكروبية التي يعدُّها الإنسان متربصاً بأخيه الإنسان؟!

ماذا تعني القنبلة الهيدروجينية؟!

ووسائل التعذيب الحديثة..!!

إن هذا كله يعني أنَّ الإنسان والنفس البشرية لا قيمة لها... وأنَّ الإنسان السوي والبشرية المُعذَّبة تطالب غزاة القمر والمريخ أن يغزوا أعماق أنفسهم ليطردوا منها كل معاني العدوان ومظاهر الحقد وأفكار الإبادة، ليكونوا جديرين بكل ما تحمله معنى كلمة (إنسان).

وإذا كان الإنسانية في العلم تحيا الضياع، فما علينا إلا أن نمدَّ اليد الإنسانية الحانية والفكر الصافي المخلص، لنعيدَ الناس إلى إنسانيتهم، وإلى كرامتهم، ولنكون بحق خير أمة أخرجت للناس، وأتباع خير رسول أرسل إلى الناس.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

نشرت 2011 وأعيد تنسيقها ونشرها 24/11/2021

خطبة قديمة في جامع السلام بحلب
وقد استفدت في تحضيرها من كتاب" اشتراكية الإسلام " للأستاذ مصطفى السباعي .
ولكاتب هذه الخطبة القديمة وملقيها رأي آخر فيها وتقييد لكثير مما أطلق فيها .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين