الحروب الحديثة وتزايد النازحين

لا حرب حديثة بلا نازحين. والذين يلومون الناس على النزوح لم يمرّوا بتجاربهم القاسية، حيث النزوح هو الفرار من الطاقة المدمّرة الهائلة التي اخترعها الإنسان المعاصر والتي لا يمكن دفعها باليد ولا يمكن توقّع مكان سقوطها ولا يمكن البقاء وحماية أهلنا وذوينا منها.. ولهذا يختار البشر – كل البشر - النزوح.

تزايدُ النزوح في العصر الحديث هو نتيجة تلك الهوة الكبيرة بين السلاح الأبيض المتاح بأيدي المدنيين وبين الأسلحة الفتّاكة التي تبيد خضراء آلاف البشر في لحظات.

قاوم أهل فلسطين آلة الاحتلال الصهيونية عام 48 بكل ما استطاعوا من قوة، ولكنهم لم يكونوا يملكون من القوة سوى القليل، ولم يكن يملك هذا القليل سوى أقل القليل. بينما كان الصهاينة متدرّعين بجيش نظامي حديث أكثر من مقاتليهم عددا ومزوّد بالطائرات والمدرّعات والصواريخ والقنابل والآليات الرشاشة، ولهذا كانوا يدخلون القرى التي فيها بعض قطع السلاح القديمة فيقيمون المذابح لأهلها العزّل. ولعدم مواجهة مصير مشابه نزح الباقون حماية لأهلهم وأطفالهم وضعفائهم من مواجهة مصير مشابه، ونزح أضعافهم من مدن كبيرة وقرى كثيرة تحت تهديد السلاح والقتل والإجرام والمجازر، وبقيت أقلية تكابد ظروف الحياة الصعبة بعد الاحتلال، بل حتى هذه الأقلية جزء كبير منها كان من النازحين ولكنهم النازحون من الداخل إلى الداخل. لقد كانت هناك مقاومة شرسة ضد الآلة الصهيونية الجارفة، ولكن ماذا تفعل البندقية القديمة لديمغرافيا قليلة أمام جيش حديث مدعوم بإرادة دولية شرقية وغربية وتآمر وخيانات عربية؟

ثم واجهت الأكثرية من أهلنا في سوريا آلة القتل الإجرامية ممثّلةً بجيش حديث تسيطر عليه أقلية، نزح الملايين وبقي الآلاف يقاتلون وبقي ملايين تحت قهر الحرب والظروف الصعبة.

ومن نظر بعين الحقّ وجد جميع هذه الفئات ملومة من جهات مختلفة: فالمقاتل اتهم بالإرهاب، والنازح اتّهم بالتخاذل، والذي بقي اتّهم بالتطبيع مع النظام.. مع أنّ هذه الفئات الثلاث هي النتيجة الطبيعية لكل حرب حديثة، وتختلف النسب باختلاف طبيعة الحرب والجهات المتصارعة والخلفيات العرقية والطائفية والطبيعة الديمغرافية والجغرافية والجيوسياسية للبلد إلى غير ذلك من العوامل.

حيثما وُجدتْ طائرات تقصف وراجمات تقذف ومدافع رشاشة تبيد الأخضر واليابس؛ ستجد بشرا عزّلا عراة من القوة يفرّون بأرواحهم وأهليهم إلى أي بقعة يجدون فيها الأمان. وقد أخبر الله عزّ وجلّ بهذه الحقيقة: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}.

إنّ الأرض أرض الله كما تنصّ الآية، وليست أرض قوم أو دولة، واللوثة القومية الحديثة هي التي رفعت من قيمة الوطن وجعلت له تلك القداسة التي تدفع إلى تحقير من يخرج منه، مع أنّ الأولين كانوا يمدحون الهجرة والانكشاف على بلدان العالَم، وكان الحنين إلى الأوطان أقرب إلى أن يكون نوستالجيا جميلة يستذكرها المرء في خلواته، لا أيديولوجيا يعتنقها ويبني عليها المواقف.

كان الشافعي يصدح قائلا:

ما في المقامِ لذي عقلٍ وذي أدبِ .. مِنْ راحة فَدعِ الأوطانَ واغتربِ

سافرْ تجد عوضًا عمَّن تفارقهُ .. وانْصِبْ فإنَّ لذيذ العيش في النَّصَبِ

إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ .. إِنْ ساحَ طابَ وإنْ لم يَجْرِ لم يَطبِ

والأسْدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست .. والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يصبِ

والشمس لو وقفتْ في الفلكِ دائمةً .. لملّها النّاسُ مِنْ عُجْمٍ ومن عربِ

والتبرُ كالتُّرْب مُلقى في أماكنه .. والعودُ في أرضه نوع من الحطبِ

فإنْ تغرَّب هذا عزَّ مطلبهُ .. وإنْ تَغَرَّبَ ذاك عزّ كالذّهبِ

هذا والرجل يعيش في قلب الدولة العباسية في أمن وأمان، بل واجه بعض الشظف في هجراته، فكيف بمن واجه الخطر على نفسه وأهله وعرضه؟!

كان سائق التاكسي التركي يسألني عن بعض المعلومات الديمغرافية حول أعداد الفلسطينيين والإسرائيليين، وبعد أن أجبته وعرف أننا (فلسطينيو الداخل والشتات) أكثر عددا قال لي بحرقة: إذن لماذا تركتم الوطن.. لماذا تركتم البيرق؟ (ما زالت كلماته التي قالها بانفعال ترنّ بأذني: vatan.. bayrak) اكتفيت بابتسامة لأنّ لغتي التركية الضحلة لم تسعفني بأن أوضّح له أنّ جدّي لم يترك عكا، ولم تكن هذه منه بطولة بل قلّة حيلة، وأنني لم أترك عكا مجبرا، بل انسيابا مع سنّة الماضين كالشافعي وغيره، لأنّني مع حبّي لوطني عكا أعرف أنّ هذه الدنيا دار ممرّ، وأنّ القيمة الأكبر هي للإنسان والمعنى لا للأرض والوطن.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين