الحرب البريطانية الإيرانية

 

 

حدث في الثاني عشر من ربيع الآخر

 

في الثاني عشر من ربيع الآخر من عام 1272، الموافق 10 ديسمبر 1856، احتلت القوات البريطانية ميناء بوشِهر على الخليح الفارسي بعد حصارها له 4 أيام، في إطار الحرب البريطانية الأيرانية الأولى والتي كانت في حقيقتها حملة عسكرية قامت بها بريطانيا على حكومة الشاه ناصر الدين القاجاري رداً على احتلاله مدينة هَرَاة في أفغانستان، وانتهت الحملة بهزيمة الإيرانيين وانسحابهم من أفغانستان.

 

وللحديث عن هذه الحرب لا بد أن نتحدث عن أسبابها التي تراكمت عبر عشرات السنين، ويقول المؤرخون إن سبب الحرب في أفغانستان يعود إلى حربين خاسرتين خاضتهما إيران مع روسيا، في عهد الشاه الأسبق فتح علي شاه، وهو الجد الأكبر للشاه ناصر الدين، والذي حكم إيران 37 سنة من سنة 1797 إلى سنة 1834،.

 

أما الحرب الأولى فدامت 9 سنوات، من سنة 1804 إلى سنة 1813، ونشبت بسبب إلى رغبة روسيا راعية الكنيسة الأرثوذكسية في أن تبسط حمايتها وسلطانها على جورجيا المسيحية الأرثوذكسية التي كانت خاضعة لإيران، وشن الحرب القيصر الروسي الكساندر الأول في ظروف صعبة، فقد كان يواجه في الغرب السلطنة العثمانية وغزوات نابوليون التي وصلت إلى موسكو، ولكن القوات الروسية هزمت الجيوش الإيرانية واستسلم الإيرانيون، وأجرى الطرفان مفاوضات بوساطة بريطانية تمخضت عن توقيع معاهدة جُولستان في 28 شوال 1228= أواخر 1813، والتي تنازلت فيها إيران لروسيا عن جورجيا وداغستان وأغلب أذربيجان وأجزاء من شمال أرمينيا، وحرمت فيها إيران من حقها في الملاحة في بحر قزوين.

 

أما الحرب الثانية فوقعت في سنة 1826 بعد قليل من تولى القيصر نيقولا الأول عرش روسيا، وبدأتها إيران بتشجيع من المستشارين البريطانيين الذين وقع الشاه فتح علي شاه تحت تأثيرهم، فأعاد الكرة وهاجم المناطق التي تنازلت عنها إيران في معاهدة جولستان، وكانت قواته تفوق القوات الروسية في تلك المناطق، ولكن الروس صمدوا ثم شنوا هجوماً مضاداً واستطاعوا تحقيق انتصار تلو انتصار حتى استولوا على تبريز التي دخلها الجنرال الروسي إيفان باسكيفيتش في 28 ربيع الأول 1243= 19 أكتوبر 1827، وفي رجب 1243= شباط/فبراير 1828 وقعت إيران معاهدة تركمنجاي التي تنازلت فيها لروسيا عن كامل أرمينيا وجنوبي أذربيجان، وكانت هزيمة شديدة المرارة ثقيلة الوطأة على الشاه والشعب الإيراني، لدرجة أنه في الذكرى السنوية للتوقيع هاجمت الغوغاء السفارة الروسية في طهران وقتلوا كل من وصلت إليه أيديهم من دبلوماسيين وغيرهم.

 

وفي سنة 1834 توفي الشاه فتح علي شاه عن 62 سنة، بعد أن خاض حربين مع روسيا باءتا عليه بالوبال، وأعقبه حفيده محمد شاه البالغ من العمر 26 سنة، والذي كان تحت تأثير الروس والذين منحوه 5 أوسمة، وحاول تعويض الخسارات السابقة إزاء روسيا بالتوجه شرقاً والاستيلاء على هَرَاة في أفغانستان، والتي كانت في السابق جزءاً من إقليم خراسان في إيران، وكانت عاصمة الدولة التيمورية والعاصمة الثانية للدولة الصفوية، ومن ناحية أخرى كانت هراة مدينة هامة لموقعها ولسهولها الخصبة ووفرة مياهها، وطالما كانت أسواقها الواسعة ملتقى التجار من الهند وكشمير وكابل وبخارى ومرو وخراسان، وهكذا نرى أن الحرب التي نتحدث عنها، والتي سببها استيلاء إيران على هراة في أفغانستان، لم تكن أول مرة تهاجم فيها إيران هراة.

 

وحيث توقع محمد شاه معارضة من بريطانيا التي كانت تريد بقاء أفغانستان دولة مستقلة لا نفوذ فيها لروسيا أو إيران، فقد بدأ مباحثات تعاون عسكري مع فرنسا التي كانت معادية للبريطانيين، ووعده الروس بالدعم والمساعدة، وأرسلوا مع جيشه عدداً من الضباط كمستشارين، وأثار توسع النفوذ الروسي في إيران المخاوف لدى حكومة اللورد بالمرستون في لندن، ولما علمت بعزم محمد شاه أن يهاجم هراة، خشيت أن يكون ذلك تمهيداً لامتداد النفوذ الروسي إليها، وأن يعقبه تأليب روسي للمشاعر المعادية لبريطانيا في القبائل الأفغانية.

 

ولما علمت بريطانيا في سنة 1253=1837 أن محمد شاه بدأ في إعداد قواته للهجوم على هراة، أرسلت مبعوثاً دبلوماسياً قابل الشاه وهدده بأن بريطانيا ستعلن الحرب عليه إن هو هاجم هراة، وبدأت بريطانيا حملة أخرى داخل أفغانستان مع أمير قندهار لتحثه على مساعدة أمير هراة، ولكنه لم يستجب للمساعي البريطانية، وآثر تصديق الروس على البريطانيين وذلك لأنه رأى ما قاموا به من مساعدة لمحمد شاه.

 

وكان حاكم هراة قمران سعدزاي ووزيره المتحكم يار محمد يواليان الروس من قبل، فلما علما باستعدادات محمد شاه والروس من ورائه، شعروا بتهديد كبير على إمارتهم، ووقفت وراءهم كل قبائل المنطقة العريقة في التسنن والتي خشيت من تسلط الدولة الشيعية، وتعاون أمير هراة مع البريطانيين وقام بتحصينها ضد الجيش الفارسي القادم.

 

وشن الشاه حملته التي توقفت أمام أسوار هراة، فحاصرها قرابة 4 أشهر دون أن يتمكن من الاستيلاء عليها، وأرسلت بريطانيا مبعوثاً دبلوماسياً قابل الشاه وهدده بأن بريطانيا ستعلن الحرب عليه إن هو هاجم هراة، وطالبه بقبول المساعي البريطانية لحل الأزمة، ولما لم تفلح جهوده غادر مخيم الشاه غاضباً ومعلنا قطع العلاقات الدبلوماسية معه، وفي حينها درست بريطانيا موضوع إرسال قوات إلى أفغانستان ووجدت أن ذلك غير ممكن، فقررت استخدام تفوقها البحري وأرسلت حملة بحرية احتلت دون مقاومة تذكر جزيرة خرج في ربيع الأول 1254= حزيران/يونيو 1838، وهددت بريطانيا الشاه بالتقدم لما وراء خرج، وبدأت كذلك في الضغط على روسيا لتكف عن مساعدتها لمحمد شاه في حصار هراة.

 

وإزاء كل ما جرى أراد الشاه أن ينهي الأمر بأسرع ما يمكن، فشن هجوماً على هراة ولكنه لم يفلح في اقتحامها رغم الخسائر الكبيرة التي تكبدها جيشه، فقد استمات الأفغان في الدفاع عن هراة، وساعدهم في ذلك ضابط بريطاني أشرف على تقوية التحصينات والرد على الهجمات الإيرانية، وقرر الشاه رفع الحصار والعودة إلى طهران، وكان ذلك انتصاراً مبيناً للاستراتيجية البريطانية على التغلغل الروسي في آسيا الوسطى، وأرادت بريطانيا استثمار انتصارها هذا بإقامة حكومة تابعة لها في أفغانستان، ولما لم تلق استجابة من حكامها قامت بشن حملة عسكرية لاحتلالها فيما سمي الحرب الأفغانية البريطانية الأولى.

 

وتوفي محمد شاه في سنة 1848 بعد أن حكم إيران 14 سنة، وخلفه ابنه ناصر الدين شاه القاجاري، البالغ من العمر 17 سنة، وكانت إدارة الدولة بيد رئيس وزرائه القدير المدعو: الأمير الكبير.

 

وكانت العلاقات بين أمير هراة وبين طهران قد شهدت تحسناً ملحوظا، ومنح الشاه لقب ظهير الدولة للوزير يار محمد في هراة مكافأة له على مساعدته الدولة القاجارية أثناء تمرد القبائل التركمانية والتركية في سنوات 1847-1851، وبعد وفاة يار محمد خلفه على وزارة هراة ابنه سيد محمد خان الذي بقي موالياً للدولة القاجارية، والتي دعمته في سنة 1851 ضد محاولة الأمير دوست محمد خان الاستيلاء على هراة، وأرسل وزير الشاه الجديد ميرزا آغا خان نوري قوة من الجيش الفارسي دخلت هراة لتواجه قوات دوست محمد.

 

وأثار الوجود الفارسي في هراة المخاوف البريطانية من أن يكون مقدمة لوجود روسي فيها، وطلبت بريطانيا من الوزير سحب القوات الفارسية وترك هراة وشأنها، ورغم أن الوزير الذي كان في الأصل ميالاً لبريطانيا إلا أنه رفض في البداية سحب القوات، ولكنه بعد سنة من الضغوط البريطانية المتلاحقة وقع اتفاقاً مع بريطانيا يستجيب فيه لمطالبها بسحب القوات من هراة والامتناع عن التدخل في شؤونها الداخلية بأي شكل من الأشكال، وألا يطالب أميرها بالدعاء للشاه في خطب الجمعة، أو أن يضرب اسمه على النقود، وكان هذا التعهد مشروطاً بأن لا تقوم الحكومة البريطانية كذلك بأي تدخل مهما كان في الشؤون الداخلية لإمارة هراة.

 

ولكن هذا الاتفاق أدى إلى تحول كبير على الجانب الأفغاني، فقد نقل أمير هراة سيد محمد خان ولاءه من القاجاريين إلى بريطانيا، وردت الحكومة الفارسية على ذلك بأن أيدت طالب إمارة آخر منافس له على هراة هو الأمير محمد يوسف ميرزا، والذي استطاع الإطاحة بسيد محمد خان ثم إعدامه، وفتح هذا الطريق أمام الأمير دوست محمد، أقوى أمراء أفغانستان، ليتحرك نحو هراة.

 

وكان دوست محمد خان باركزاي هو أمير أفغانستان في ذلك الوقت، وكان له ماض متقلب مع بريطانيا، منذ أطاح بحكم الأسرة الدُرَّانية وأعلن نفسه أميراً على أفغانستان في سنة 1826، ففي المرة الأولى التي حاصرت فيها إيران هراة، امتنع دوست محمد عن توقيع أي اتفاق مع بريطانيا في محاولة منه لينأى ببلاده عن أن تصبح منطقة تجاذب بين بريطانيا وبين روسيا، وهو ما اعتبرته بريطانيا عداءً لها وانحيازاً لروسيا، وشنت بسببه الحرب الأفغانية البريطانية الأولى، التي احتلت فيها كابل في سنة 1255= 1839، ونصبت منافسه شاه شجاع من جديد أميراً على أفغانستان،  ونفت دوست محمد وأسرته إلى الهند، قبل أن تضطر لإعادته في سنة 1842 بعد أن لقيت الأمَرَّين من الجهاد الأفغاني.

 

وكان دوست محمد قد ضم إليه قندهار بعد وفاة أخيه الذي كان أميرها، ولما كان أمير هراة القتيل؛ سيد محمد خان، هو صهره زوج ابنته، فقد طالب بثأره وحرك قواته نحو هراة التي ثار أهلها على الأمير محمد يوسف ميرزا بل وواجهوا العسكر الذي أرسلته إيران لدعمه، وفي لحظة يأس قام حاكم خراسان الإيراني وخال الشاه بدعم طالب إمارة آخر هو عيسى خان الذي لم يلبث أن أعلن ولاءه لدوست محمد، وهكذا لم يعد لإيران من تعتمد عليه في هراة، ولذا فكر الشاه في أن يعيد احتلال هراة.

 

وأوحت الأحداث على الساحة الدولية للشاه أنه يستطيع الركون إلى الدعم الروسي، فقد كانت حرب القِرِم على أوجها وكانت بريطانيا قد لقيت فيها الهزائم في تلك الفترة، وبدا فيها أن روسيا هي الجانب الأقوى، وأكد ذلك الانتصارات الباهرة التي حققتها روسيا في آخر سنة 1856 ضد الدولة العثمانية في قارص، شمال شرقي تركيا اليوم، واعتقد ناصر الدين شاه أن القيصر الجديد ألكساندر الثاني سيساعده في مواجهة بريطانيا بعد استرجاعه لهراة وأن هذه فرصة لا تتكرر لإنهاء نزاع طال عليه الأمد.

 

ومن ناحية أخرى كانت الحسابات الإيرانية تخشى من قيام دولة أفغانية موحدة يقودها الأمير القدير الشجاع دوست محمد وترعاها بريطانيا العظمى، وكانت ترى أن بقاء أفغانستان على نحو منقسم يعيد هَراة كما كانت لقرون طويلة إلى فلك النفوذ الإيراني المباشر أو غير المباشر، ويقوي موقف إيران في مواجهة الاستراتيجية البريطانية.

 

وكانت العلاقات بين بريطانيا وبين إيران قد تدهورت إلى الحضيض، فقد كان الشاه مستاءً أشد الاستياء من السفير البريطاني ووصفه بأنه: غبي جاهل لديه من الوقاحة والحمق ما يجعله يهين حتى الملوك. وكانت الحكومة الإيرانية ممثلة في رئيس الوزراء قد رفضت طلب السفير البريطاني الموافقة على اختياره لعديل الشاه؛ ميرزا هاشم خان، ليعمل في وظيفة سكرتير في السفارة، فقد كانت الشائعات تحوم أن للسفير علاقة بزوجته بارفين هانم أخت امرأة الشاه، وتأكد ذلك عندما سجنها الإيرانيون فاحتج السفير وطالبهم بإطلاقها، ثم قطع العلاقات مع بلاط الشاه عندما لم يستجب لطلبه.

 

وقرر الشاه أن يقوم بحملة سريعة يستولي فيها على هراة، فحشد قواته وسار إليها، وصمدت قلعتها للحصار مدة 9 أشهر قبل أن تسقط في 25 صفر 1273= 25 تشرين الأول/أكتوبر 1856، وكان سقوطها بمساعدة ضابط سابق في سلاح الهندسة الفرنسي، ساعد الإيرانيين في حفر مجموعة من الأنفاق تحت أسوار المدينة ثم تفجيرها بالألغام، وأعلن مراد ميرزا قائد الجيش القاجاري فتح المدينة وأمر بسك العملة باسم ناصر الدين شاه، وأن يؤذن فيها بحي على خير العمل، وأن يدعى فيها للشاه على منابر الجمعة.

 

وكان دوست محمد رغم مواقفه السابقة من بريطانيا قد وقع في سنة 1855 معاهدة مع شركة الهند الشرقية البريطانية، عرفت بمعاهدة بِشاور، ليستعين بها على مواجهة المطامع الإيرانية التي تشجعها روسيا، واعترفت المعاهدة بدوست محمد أميراً على كل أفغانستان، وتضمنت أن كل بلد يصادق من يصادق البلد الآخر ويعادي من يعاديه، وبعد 5 أيام من  احتلال إيران لهراة أعلن الحاكم العام البريطاني في الهند الحرب على إيران بالنيابة عن حكومة صاحبة الجلالة البريطانية.

 

وقررت حكومة بالمرستون في بريطانيا القيام بحملة تأديبية تجعل الشاه يوافق على مطالبها، وكان لديها خياران: أولهما: القيام بحملة برية تنطلق من الهند عبر أفغانستان، والثاني: الهجوم على إيران من الجنوب في الخليج الفارسي، في تكرار لما فعلته قبل حوالي 20 سنة، ونظراً لما جربته في الحرب الأفغانية البريطانية الأولى من رفض الشعب الأفغاني لأي وجود أجنبي على أراضيه، ومقاومته الشرسة للقوى الكافرة، قررت الحكومة البريطانية أن الخيار الثاني هو الأنجع والأسرع، وأصدرت أوامرها لحكومة الهند لشن حملة بحرية تستولي على ميناء بوشهر الذي كان أهم موانيء إيران في تلك الحقبة، والذي يقع في أعلى الخليح الفارسي.

 

وكانت حكومة الهند قد أرسلت من قبل ضابطاً بريطانياً قام بزيارة بوشهر ودرس قلعتها وتحصيناتها، ولذلك كانت لديها بعض الخطط الجاهزة للحملة، وكانت القوة التي شكلها البريطانيون تتألف من 2300 جندي بريطاني و3400 جندي هندي، وضمت قوات من سلاحي المدفعية والهندسة، ثم ما لبث أن عززت بقوات إضافية، وتزلت القوات البريطانية في جزيرة خرج واحتلتها، وفي 7 ربيع الآخر نزلت على بعد أميال في الجنوب من بوشهر، واحتلت حصناً بالقرب منها، ثم احتلت المدينة في 12 ربيع الآخر سنة 1273، وفقاً لأسلوب كان المعتمد في هذه الحملة: قصف من السفن الراسية في البحر تتقدم بعده القوات البرية، ولما نزلت القوات البريطانية وتقدمت حتى صارت على مقربة من التحصينات الإيرانية فوجئت بإلقاء الإيرانيين أسلحتهم دون أن يطلقوا رصاصة واحدة.

 

ولم يغتر القادة البريطانيون بهذا النجاح غير المتوقع، وأظهرت لهم الاستطلاعات وجود قوة إيرانية من 4000 جندي في شيراز التي تبعد حوالي 350 كيلاً، وقدر القادة الميدانيون أن القوات الموجودة غير كافية للوصول إلى شيراز والاستيلاء عليها، لأن الطريق إليها من بوشهر يسير في كثير من أجزائه عبر الجبال والوديان، فهو محفوف بمخاطر مواجهة الإيرانيين في كمائن ومضائق لا يمكن الخروج منها، وبخاصة إذا هطلت الأمطار الموسمية، ولذا قرر البريطانيون البقاء في بوشهر ريثما تأتيهم التعزيزات من الهند، ولما جاءت هذه التعزيزات بعد شهرين تقدمت القوات البريطانية المحمولة على الخيل والبغال باتجاه شيراز فاستولت دون قتال على بُرازجان التي تبعد 70 كيلاً، وتعرضت في أثناء عودتها إلى بوشهر لكمين إيراني ليلي واجهته بصعوبة قبل أن تجبره على الانسحاب، وتتمكن من العودة إلى بوشهر، وكانت هذه أكبر معركة وقعت في هذه الحملة، قتل فيها من كل جانب حوالي 70 قتيلاً.

 

وقررت القيادة البريطانية استثمار ما تتمتع به من تفوق قواتها البحرية فتابعت إبحارها شمالاً باتجاه شط العرب حتى وصلت المحمرة، والتي تعرف اليوم بخُرمشهر، واستطلع البريطانيون مواقع مدفعية حصن المحمرة، قبل أن يباشروا قصفها، ولكن الفرس أخلوها وسحبوا قواتهم عبر نهر قارون إلى الأهواز التي تبعد مسافة 150 كيلاً، فأرسل القائد البريطاني 3 سفن عسكرية بخارية إليها قامت بقصف الأهواز من النهر فتركتها حاميتها الإيرانية وخرج حاكمها العربي الخزعلي فأخبرهم بذلك، ودخلت القوات البريطانية الأهواز في شعبان 1273= نيسان/أبريل 1857.

 

وعاد القائد البريطاني إلى بوشهر بعد احتلال الأهواز، وفي نيته التخطيط لغزو الداخل من إيران، وهي عملية ستخرج بالحملة عن مهمتها التأديبية إلى حملة عسكرية ضخمة، ولكنه فور عودته علم أن حكومته قد وقعت اتفاقية سلام مع إيران في باريس في 7  رجب سنة 1273= 4 آذار/مارس 1857، تتوقف بموجبها الأعمال العدائية.

 

وقد كتب عن الحملة البريطانية هذه الفيلسوف الألماني فردريك إنجلز وشريك كارل ماركس في تأسيس المبدأ الشيوعي، وذلك في مقال نشرته صحيفة نيويورك هيرالد تريبون في شباط/فبراير 1857، والمقال مدهش في تحليله وشموله وتقديره الصائب لأهداف الحملة.

 

وفي الحقيقة كان الشاه ناصر الدين يراهن على ألا يعارضه البريطانيون في احتلاله لهراة بأكثر من الاحتجاجات الدبلوماسية، وأن يقبلوا في النهاية بالأمر الواقع، وبالطبع فقد كان يعلم أن لا قدرة له على مواجهة بريطانيا إن هي قررت مواجهة احتلاله عسكرياً، ولذا فقد بدأ في البحث عن مخرج من الأزمة قبل الحملة العسكرية بعدما تبين له أن بريطانيا لن تسمح له باحتلال هراة وضمها لإيران، وأن من المرجح أن تستخدم القوة العسكرية لتحقيق ذلك.

 

ولذا أرسل الشاه فروخ خان غفّاري أحد أفضل مفاوضيه للتباحث في الوقت المناسب مع بريطانيا على إنهاء الأزمة وفقاً للمطالب الإيرانية، وطلب منه كذلك أن يطلب من فرنسا التوسط في المفاوضات، كما طلب منه أن يسعى للحصول على قرض مالي ودعم عسكري من الولايات المتحدة، وهكذا بدأت في استانبول مفاوضات عقب احتلال الشاه لهراة، وما لبثت أن تعثرت هذه المفاوضات بسبب إصرار البريطانيين أن يعزل الشاه رئيس وزرائه مرزا آغا خان نوري بحجة إهانته للسفير البريطاني، ثم توقفت المفاوضات رسمياً بعد الحملة البريطانية واحتلال بوشهر.

 

وتوقفت المفاوضات في استانبول لتستأنف في باريس وتتمخض بعد 3 أشهر من الحملة البريطانية عن معاهدة سلام تعهد الشاه فيها بالانسحاب من هراة خلال 3 أشهر، وبأن تتخلى إيران عن أي مطالب لها بالسيادة على مدينة هراة أو أي مدن أفغانية أخرى، وألا تطلب من أمير هراة أو أي أمير أفغاني أي علامة على الطاعة مثل سك العملة أو الدعاء في الخطبة، وتعهد شاه إيران بالكف عن التدخل في الشؤون الأفغانية الداخلية وأن يحترم استقلال هراة وسائر أفغانستان وألا يحاول الإخلال بهذا الاستقلال، وأنه في حالة وقوع خلاف بين أفغانستان وبين إيران دون أن تتمكنا من حله فإن إيران ستحيل الخلاف للمساعي الحميدة للحكومة البريطانية.

 

وتضمنت الاتفاقية إلى جانب ذلك وعداً إيرانيا بالاعتذار للسفير البريطاني عند عودته، وبتوقيع اتفاقية تجارية مع بريطانيا، وتضمنت تعهداً من بريطانيا ألا تؤوي في سفارتها معارضين للشاه، وتخلت بريطانيا عن مطالبها بعزل رئيس الوزراء أو بتنازل إيران عن بعض الأراضي لإمام عُمان المتحالف مع البريطانيين، وهكذا حددت هذه الاتفاقية الحدود بين أفغانستان وبين إيران بصورتها الحالية بعيداً عن التداخل الذي شهده البلدان عبر التاريخ فيما بينهما والذي امتد أحياناً ليصل  إلى إقليم بشاور في الباكستان.

 

وتضمنت الاتفاقية تعهداً من إيران بالتعاون مع بريطانيا في مكافحة تجارة الرقيق في الخليج، وهو أمر كان أحد أركان السياسة الخارجية البريطانية في تلك الحقبة، وكان الشاه ناصر الدين قد رفض من قبل الضغوط البريطانية التي طالبته بتحريم الرق في إيران، وذلك خشية من الاصطدام مع رجال الدين، ولكنه في نفس الوقت أمر بمنع دخول الرقيق من خارج إيران.

 

وكان من حسن حظ الحكومة البريطانية أن لم تطل مدة الحرب الإيرانية البريطانية وأن أعقبتها اتفاقية باريس، وما تبعها من عودة القوات البريطانية إلى الهند، فبعد شهرين اندلعت في الهند في 15 شعبان سنة 1273= 10 أيار/مايو 1857 ثورة عارمة على المستعمر البريطاني، يطلق عليها البريطانيون التمرد الهندي ويسميها الهنود حرب الاستقلال الأولى، واحتاجت فيها بريطانيا لكل جندي تستطيع توفيره حتى قمعت الثورة وأعدمت قادتها بعد 13 شهراً من الاضطرابات والقتال.

 

وكان الشاه كما ذكرنا قد عول على مساعدة روسيا، وبدا ذلك للوهلة الأولى فرصة واتت روسيا لتثأر لنفسها من بريطانيا التي كانت محور التحالف الذي هزمها للتو في حرب القِرِم، ولكن الأمير جورشاكوف وزير الخارجية الروسي رفض تقديم العون للشاه، ونأت روسيا بنفسها عن الدخول في نزاع جديد مع بريطانيا وبخاصة أنها كانت قد حصلت على ما تريد في القوقاز.

 

وبعد الإنجازات التي حققتها اتفاقية باريس لحكومته، وقع أمير أفغانستان دوست محمد اتفاقية صداقة أخرى مع بريطانيا تضمنت أن تدفع له بريطانيا مليون روبية سنوياً، وموافقته على أن تفتتح لها سفارة في كابل، وبالفعل حافظ دوست محمد على حياده خلال الثورة في الهند على البريطانيين في سنة 1257، فلم يساعد المتمردين، ولكن بقيت هراة مصدراً لمتاعبه، ففي سنة 1862تمرد أميرها  أحمد خان وأرسل الفرس قوات عسكرية دخلت هراة لتساعده ضد دوست محمد، فما كان من الأمير دوست محمد إلا أن سار على رأس جيشه، وكان عمره 65 سنة، فطرد الفرس من هراة ودخلها في 7 ذي الحجة سنة 1279= 26 أيار/مايو 1863، ولكنه توفي بعدها بأسبوعين في 21 ذي الحجة= 9 حزيران/يونيو 1863. 

 

أما ناصر الدين شاه فبقي في الحكم بعد هذه الحرب حتى اغتياله سنة 1896، ونهج سياسة حاول فيها الموازنة بين روسيا وبين بريطانيا، وزار أوروبا في سنة 1873، وهو أول ملك إيراني يزورها، ثم زارها مرتين بعدها في سنة 1878 وسنة 1889، وشاهد في إحداها استعراضاً للبحرية الملكية البريطانية، ومنحته الملكة فكتوريا وسام ربطة الساق البريطاني، وهو أعلى أوسمة الشهامة.

 

ووقع ناصر الدين شاه في السنوات الأخيرة من حكمه تحت تأثير الأجانب، وبخاصة البريطانيين،  وأصبح حاكماً جشعاً يكتنز الأموال دون خزينة البلاد، فمنح الأجانب امتيازات احتكارية كثيرة مقابل مبالغ كبيرة دخلت إلى جيبه، وكان مغرماً بالتحف والمجوهرات وهاوياً للرسم والتصوير.

 

وتسببت الاحتكارات التي منحها ناصر الدين شاه في ارتفاع أسعار السلع وفي امتعاض الشعب والتجار الإيرانيين الذين خسرت تجاراتهم بسبب الاحتكار، وبلغ الامتعاض ذروته في سنة 1890 عندما منح الشاه ضابطاً بريطانياً حق احتكار بيع وتوزيع وتصنيع التبغ ومشتقاته في إيران لمدة 50 سنة، فأصدر أية الله ميرزا حسن شيرازي، المولود سنة 1814 والمتوفى سنة 1896، فتوى جاء فيها إن استعمال التبغ المشمول بالاحتكار هو بمثابة حرب على الإمام المهدي! واستجاب الشعب الإيراني لهذه الفتوى استجابة شاملة،  يعتبرها المؤرخون بداية الإحياء الوطني الحديث في إيران، وألغى الشاه الاتفاق.

 

و في سنة 1896 وبعد 48 سنة من حكمه اغتال الملكَ ناصر الدين شاه أحد الناقمين الذي يقال إنه من أتباع جمال الدين الأفغاني، وأعقبه ابنه مظفر الدين، وعمره 47 سنة، والذي كان غير كفؤ للحكم ضعيف الشخصية منهكماً في اللذات ومبذراً دون حدود، ليمهد الطريق أمام صعود الأسرة البهلوية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين