الحديث عن النفس بين المشروع والممنوع

عندما نسمعُ شخصًا ما يتحدَّثُ عن نفسه، فيذكرُ بعضَ مآثرِها أو تجاربَ خاصَّةً ومواقفَ مختلفةً وقعَت له، عادةً ما تتقافزُ أمامَ خواطرنا الظنونُ بأنَّ هذا الشخصَ مُبتلىً بالعُجب، مصابٌ بتضخُّم الأنا، يُرائي الناسَ بعمله، فهل هذا الحكمُ صادِقٌ بإطلاق، أم أنَّ هناك دوافعَ أخرى يمكن أن تجعل هذا الفعلَ مستساغًا شرعًا وعقلاً وعرفًا؟!

لكي يكونَ جوابُنا دقيقًا ومتوازنًا يجبُ أن نعلم أنَّ الحديث عن النفس على أقسام:

 

  أولاً: قد يقعُ هذا الفعلُ حقًّا من المُعجَب المغرور، فهو يذكرُها على سبيل الفخر والاعتزاز، ويحبُّ أن يطَّلعَ الناس على مناقبه ومآثره، ليعرفوا فضله، ويَقدُروا قدرَه، ويفرحُ بسماع عبارات الثناء والإطراء منهم، طالما أنها حقٌّ بزعمه، وهو في غفلةٍ عن حالات ضعفه وفقره وجهله، يستذكرُ النجاحات ويتعامى عن الإخفاقات، يَعرِضُ المناقبَ ويُعرِضُ عن المَثالب.

فمَن كانت هذه دوافعه وتلك صفته، فلا شكَّ في ذمِّه وذنبِه.

 

   ثانيًا: في الناس صنفٌ آخرُ من المتحدِّثين عن أنفسهم، لا يدفعُه لذلك أنه يرى فضلَها على غيرها، ولا يقصِدُ مدحَها ورفعَها، وإنما هو إنسانٌ عفويٌّ طيبُ النفس سليم القلب، منفتحٌ على الآخرين، يحبُّ أن يُشرِك الآخرين في حياته ويفتحَ لهم مغاليقَه، ويرفَع الحواجز النفسية التي تحجبُهم عنه، وتحولُ بينهم وبين الانسجام معه.

وتجدُ هذا الصنفَ من الناس إلفًا مألوفًا، قريبًا من القلب، يتحدَّث عن محطاتٍ مختلفةٍ في حياته، بعُجَرِها وبُجَرِها، دون تنطُّعٍ أو تكلُّف.

  لمِستُ هذا في شخصياتٍ عديدةٍ أحببتُها، وشعرتُ بالمواءَمة معها، على رأسهم من العلماء المتقدِّمين الإمام ابن الجوزي - رحمه الله -، فإذا كنتَ قارئًا جيدًا له، تشعرُ وكأنك تعرفُه بعُمقٍ، مع أنك لم ترَه ولم تُعاصِره.

ومن العلماء الأدباء المعاصرين أُمَثِّلُ بالشيخ الداعية عليٍّ الطنطاويِّ - رحمه الله - فهو كذلك كثيرُ الحديث عن حياته ومواقفَ حصلت معه، بعفويَّةٍ وتلقائية، ولعلَّ هذا أحدُ أسباب تأثيره الكبير في دعوته، بلسانه وقلمه، وشعور عامَّة متابعيه بقُربه ومحبته.

أما في غير طبقة العلماء، فلعلكم تتفقون معي أننا حينما كنا طلابًا على مقاعد الدراسة، كان أحبَّ المدَرِّسين إلينا هو الذي يُشرِكنا أحيانًا في حياته الخاصَّة، ويحكي لنا بعضَ الحوادث والمواقف التي مرَّ بها، فنشعُر بدفءِ العلاقة به، والانسجام مع خلجات نفسه، وتصلُ إلينا رسائلُه التربوية بأقصر طريقٍ وألطفِه.

ومَن كانت هذه سَجيَّته، وتلك بواعِثه، فليس هناك سبيلٌ إلى لومه وذمِّه.

وبإزاء هذه الشخصيةِ البسيطةِ المنفتحةِ شخصيةٌ مُعقَّدةٌ مذمومة، يكتنفُها الغموضُ والانطوائية، عصيَّةٌ على الفَهم والاختراق، فهي صندوقٌ مُحكَمُ الإغلاق، لا يألفُ ولا يؤلَف، ولا يسمَح حتى لأقرَب الناس منه أن يطَّلعَ على تفاصيل حياته، لأنه يعُدُّها كلَّها من الخصوصيات التي يَحرُم الاقترابُ منها.

 

 ثالثًا: هناك صِنفٌ آخَرُ من الناس، عِدادُهم في القُدوات المصلحينَ، حينما يتحدَّثُ أحدُهم عن نفسه لا يخرُجُ عن باعثَين اثنين؛ التأثيرُ والتوثيق.

فعندما تريدُ غرسَ قيمةٍ ما، إيمانيةٍ أو أخلاقيةٍ، فأنتَ تعزِّزُها بموقفٍ حقيقي، أو قصَّةٍ واقعيةٍ ليست من نسج الخيال، قد يكونُ بطلُها غيرَك، وقد تكون أنت.

فإذا كان الموقِفُ لغيرك وسقتَه في حديثك، فهذا فيه إيجابيات كثيرة، من أهمها النأيُ بالنفس عن شبهة العُجبِ والرياء وحبوط العمل، وجَبُّ الغيبة عنك.

وإذا كنتَ أنتَ بطلَها فلا شكَّ أنَّ وقعَها في نفس السامع سيكون أقوى وأثرُها أكبر، وهي أوثقُ عندَه، لأنها سقطت منها الواسطةُ والعَنعَنة.

وهذه إيجابيَّةٌ لا يجوزُ إهمالُها، والشواهدُ عليها كثيرةٌ من القرآن الكريم ومن السُنَّة المطهَّرة، ومن سيَر الصالحين من الصحابة والتابعين، والعلماء والعُبَّاد.

ولولا خشيةُ الإطالة لأوردتُ طرفًا منها، ولعلي أفعلُ ذلك في شرح المقالة لاحقًا.

ويدخلُ في قِسم المشروع الحديثُ عن المناقب والكفاءة عند الترشُّح للمناصب الخِدْميَّة التي يغيبُ عنها الأكفياءُ، ويرى المرشَّحُ أنَّ لديه ما يتفوَّقُ به على غيره، مما يخدمُ به العبادَ، ويتقرَّبُ به إلى ربِّ العباد، على ألا يتوسَّع في ذِكر ما لا يُحتاجُ إلى ذكره، فينتقل حينئذٍ إلى القسم المذموم. (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم).

ويدخلُ في القسم المشروع كذلك التحدُّثُ بالنِّعَم، نعمةِ الهداية من الضلال، نعمةِ الإغناء بعد الفقر، نعمة المعافاة بعد المرض، وهكذا، فهو للنَدبِ أقربُ منه إلى الإباحة، (وأما بنعمة ربِّك فحدِّث).

 

الخلاصة:

    لا تتعجَّلوا في إطلاق الأحكام على الآخرين في هذه المسألة قبل العلم والتبيُّن، ومعرِفة الأقسام آنفة الذكر، أن تُصيبَوا قومًا بجهالةٍ، فتُصبِحوا على ما فعلتُم نادمين.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين